كيف يحاكي "بو فاضل" الذاكرة الشعبية العراقية؟
يمثّل أبو الفضل العباس رمزاً للقوة لدى العراقيين، والتي يستقونها من دوره في واقعة كربلاء، ثم تمتدّ هذه القوّة لتتغلغل في المجتمع العراقي، فيتحوّل من كونه باذلاً للنفس والدم إلى فكرة مقاوِمة متدفقة.
يقصد العراقيون مرقد أبي الفضل العباس في مدينة كربلاء كفعل اعتياديّ يوميّ في أوقات متفرقة من استراحات النهار، وفي العشيّات المتخففة من شمس المدينة الملتهبة. يُسمعونه شكاويهم وحاجاتهم، ويستتبعون أثر البكّائين عند بابه، حيث يشعرون بقرب التماس الاستجابة.
زيارة "بو فاضل"، كما يناديه العراقيون، هي طقس ثابت لدى الكثير من العراقيين الذين يؤمنون بأن النذور لديه تُقضى البتّة، فيقصدونه من محافظات عديدة، ولا يتمهلون الوصول إلا وتكون التحايا قد بدأت تُلقى إليه بلهجاتهم وأساليبهم المختلفة، حتى إنه يحضر في "اللغة" الشعبية من دون تفكير كثير، فتكاد تسمع اسمه مئات المرّات أثناء مرورك في أسواق كربلاء. هو مثل "مصداق" لديهم، وهو الثابت الذي يتكئون على اسمه ليسيّروا به يومياتهم المثقلة.
أبو الفضل العباس هو ابن الإمام علي وأخو الإمام الحسين، الذي تشارك معه واقعة كربلاء في العاشر من محرم سنة 61 للهجرة، واستشهدا فيها. عُرف بإيثاره وبطولاته ونصرته لأخيه في المعركة، فخُلّد اسمه في التاريخ الإسلامي عموماً، وفي الوجدان العراقي خصوصاً، حيث للمكان تأثيره البالغ في أن يكون "حرم العبّاس" منصهراً في الذاكرة الشعبيّة العراقية، وفي الموروث الاجتماعي، بعدَ البعدِ الديني.
خلفيّات ارتباط العراقيين بأبي الفضل العباس ومواظبتهم على زيارة مرقده، لا تقتصر على ما يمثّله من رمز دينيّ يقتدون بسيرته، ويتّبعونه محبّة بأخيه الحسين، إنما يرجع الأمر إلى خلفيّات ثقافية واجتماعيّة أخرى.
بعد انقطاع دام سنوات عن زيارة المكان، إبان حكم الرئيس صدام حسين، تحوّلت كل من النجف وكربلاء إلى مقصدين عالميّين بعد سقوط النظام في العام 2003، وباتت تُنظّم الزيارات إلى المقامات الدينية هناك سنوياً، وخصوصاً في شهري محرم وصفر، إذ بات عدد الزوّار يصل إلى عدة ملايين زائر (هذا العام وصل العدد إلى 16 مليوناً في ذكرى الأربعين). وهناك تنعكس مشهديّات كثيرة، لما تمثله هذه الزيارات للعراقيين والوافدين الأجانب أيضاً من أهمية روحيّة ودينيّة وثقافية أيضاً.
علاقة محاكاة تجمع بين العراقيين وأبي الفضل العباس، فهذه الشخصية التاريخية التي بذلت دمها دفاعاً عن الحق، وفق ما يجمع عليه المسلمون، ولّدت في الوعي الجمعي رغبة مقابلة في البذل الذي تعددت طرقه وأشكاله، ابتداء من بذل الأنفس دفاعاً عن البلاد، ثم إلى بذل في الحياة اليوميّة في مسارات قيميّة وإنسانيّة،ثم بذل الوقت والطاقة والممتلكات لخدمة زوّار أبي الفضل، خصوصاً في مواسم العزاء، مثل عاشوراء والأربعينية.
تتعدد دوافع البذل مع انصهاره في الحياة العامة، فيعبر من كونه يمثّل شخصاً في واقعة إلى مقياس تتحدد وفقه المعايير والأسس التي تستحق البذل، وفي أي مواضع يكون انعكاسه مؤثراً.
أبو الفضل العباس وقوّة الفكرة في امتداد حركات المقاومة
عايش العراقيون أزمات سياسية واقتصادية ومعيشية ممتدة منذ سنوات خلت، أبرزها الاحتلال الأميركي إثر سقوط نظام صدام حسين، ثم الحرب على "داعش"، وما استتبعها من تأثير في العمق الاجتماعي والخيارات السياسية، الأمر الذي عزّز الحاجة إلى القوّة. ومفهوم القوّة لا يقتصر على السلاح والتدريب العسكري، إنما هو منهاج فكري تتعزز من خلاله الوسائل لتطوير أدوات هذه القوّة، حتى تكون منسجمة مع القابليات الثقافية والاجتماعية المختلفة في المجتمع العراقي الواحد.
اصطلاحاً، عرّف علم الاجتماع القوة بأنها القدرة على إحداث أمر معيّن مؤثر في سلوك الآخرين. وفي رأي كارل فريدريك، إنَّ القوة هي "القدرة على إنشاء علاقة تبعية". والقوّة هنا لا تأتي مرادفة لمفهوم التسلّط فقط، ولكنها تتضمن أيضاً القدرة على الاستمالة. والمُسبب الأول في تعزيز العلاقة التاريخية الحيّة والملهمة بين واقعة كربلاء والذاكرة العراقية الراهنة هو الدّم. والدّم قوّة نافذة إذا ما وقع في سبيل قضيّة مُحقّة.
سبقت قوّة الفكرة القوّة في الميدان. من أجل ذلك، نجد أن حركات المقاومة في العراق لم تنقطع حتى اليوم، بل لا تزال الفكرة تتبلور في كل مرة يقف العراق أمام استحقاق أمني يحتاج خلاله أن يدافع عن سيادته وسلامة أراضيه وشعبه، فَنِيّة الثورة والإصلاح ما برحت تراود العراقيين، أوّلها مبدأ الإصلاح السياسي، وصولاً إلى هدفي القضاء على "داعش" وإخراج القوات الأميركية من البلاد.
هذه الاستحقاقات الأمنيّة سبقتها استحقاقات سياسية كانت، ولا تزال، موضع جدل كبير في العراق، خصوصاً مع اقتراب الانتخابات النيابية، في وقت تستلهم قوى سياسيّة عراقية كثيرة خطاباتها وبرامجها السياسية من مبادئ عاشوراء وما خرج الإمام الحسين من أجله، مركزين على الإصلاح والتغيير في السياسة والخدمات.
"حجّية.. بجاه بو فاضل"
العلاقة بين "بو فاضل" والعراقيين لافتة للزائرين قبل المقيمين. تحدث فقط من دون مقدمات. سينده لك بائع الجوارب الذي تستلقي على وجهه سُمرة داكنة بفعل حرارة الشمس، لكنّه سيُخبرك قصته قبل ذلك: "حجّيّة، والله تعبت، تعالي اشتري. استفتاحية بجاه بو فاضل". هكذا يُدسّ الاسم للاستمالة والتأثير، كأنه سلطة شعبية عفويّة.
يتوافد العراقيون من المدن كافة إلى مدينة كــربلاء كل ليلة جمعة. يفرشون البطانيات في الشوارع، وخصوصاً بين مقامي الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس، ويجــلسون عليها مع أولادهم. يعدّون الطعام، ويوزّعونه على المارة. يسكبونه في الصحون البلاستيكية، ويندهون إلى البعيدين كي لا يفوتهم نصيبهم من الهريسة التقليدية. وتأتي هذه المبادرات كجزء من القابلية العفوية للبذل في محبة الإمام وأخيه.
يتوزع الناس بين المقامين، منهم من يقصد قبر الإمام الحسين، ومنهم من يقصد قبر العباس. يقفون عند بابه ويتحدثون معه كأن بينهم رفقة قديمة، وكأنهم يعرفونه جيداً، فيطلبون منه حاجاتهم بأصوات متهدّجة، حتى إنهم يرمون عند بابه شرطاً بألا يغادروه قبل أن تُقضى حوائجهم. وفي ذلك نوع من الارتباط الروحي المستقى مما تمثله شخصية أبي الفضل العباس ورمزيته الدينية والتاريخية.