سوريا وترامب بين المكاسب والمخاطر
الموقف السوري الواضح وعالي السقف في قمة الرياض لا ينفصل عن إدراك دمشق أن الشهرين المقبلين هما شهران مفصليان وخطيران في تحديد مسار سوريا والإقليم قبل استلام إدارة ترامب الجديدة مهماتها.
مع نجاح دونالد ترامب الساحق في العودة إلى رئاسة الولايات المتحدة بعد غياب أربعة أعوام، بدأت رهانات كل الفواعل الدولية والإقليمية في منطقة غربي آسيا بإعادة ترتيب أوراقها وطموحاتها من جديد فيما يتعلق بالمستقبل السياسي لسوريا، في سباق مع الزمن قبل أن يتضح الشكل والمضمون للسياسات التي سيتبعها فريق الرئيس الأميركي المتجدد والجديد، الأمر الذي يدفع إلى استشراف المسار السوري العام من حيث المكاسب والمخاطر المحتملة في محاولة لاستكناه التغييرات المحتملة.
استبشر بالخير أصدقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب القدامى خلال فترة رئاسته الأولى، وبدأوا البناء على العلاقات السابقة من دون تحديد مع من يتعاطون باحتمالاتهم مع ترامب الأول أم مع الثاني، أم هما الرجل نفسه، بحسه الغرائزي بتحديد السياسات الداخلية والخارجية، وهو الذي لا ينسى من أساء إليه ويصر على استبعاد هؤلاء عن طريقه، وهو المتوج بانتصار ساحق على خصومه الديمقراطيين والجمهوريين الذين استبعدهم من أول مساره الانتخابي الجديد، واستبقى منهم من يدين له بالولاء وعدم الممانعة، على رغم التناقض في الرؤى للملتفين حوله بكيفية التعاطي مع المسائل الخارجية، لكن الاستبعاد العلني لكل من وزير الخارجية السابق مايك بومبيو والسفيرة السابقة في الأمم المتحدة نيكي هيلي، وهما من أشد الشخصيات الأميركية ولاءً "لإسرائيل"، قد يرسم مؤشرات على صورة متباينة عن السياسات الأميركية المتبعة لتحقيق قفزة اقتصادية صعبة المنال في سياق "أميركا أولاً".
انطلق الاستبشار الأول بعودة ترامب من صديقه السابق الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وقد تكون أسرار البيت التي تُظهرها فلتات الألسن هي التعبير عما يجول في قلبه مع تغريدة ابنته إسراء التي عدّت مجيئه بمنزلة البشارة لإيقاف إيران "الفُرس" عند حدها، ثم تتالت التصريحات المستعجلة المبشرة بالانسحاب الأميركي من سوريا، ويعني ذلك استعادة الاتفاق السابق بمنحه الشمال السوري والانقضاض على كيانية الإدارة الذاتية وقواتها العسكرية، بل توسعت الآفاق أكثر باحتفال أنقرة بعد تصريحه بضرورة الاستيلاء على منبج وهي بعمق 40 كم، وهو ما يعني توسيع السيطرة في الشمال وعلى كامل الحدود وملء الفراغ الناجم عن الانسحاب الأميركي المحتمل والسيطرة على حقول النفط السورية بالإضافة إلى طريق M4 الاستراتيجي.
يرى الرئيس التركي أن فرصته الذهبية حانت لقطف ثمار فك حصاره من جانب الدولة العميقة في الولايات المتحدة بواجهتها الديمقراطية، وهو الآن يستطيع التخفف من ضغوط الرئيس الروسي بوتين عليه فيما يتعلق بالمصالحة مع سوريا الرافضة لها من دون جدول زمني لإنهاء احتلال تركيا لـ 9 % من أراضي الشمال السوري، لكنه لا يدري كيف سيحافظ على الجماعات الإسلامية المسلحة، بينما ترامب معروف بكراهيته للإسلام السياسي في شقيه المعادي للولايات المتحدة والذي صنعته استخباراتها لاستخدامها في تدمير خصومها ومنافسيها وأعدائها.
أصبح الرهان التركي بعودته كي يكون اللاعب الأول في تحديد مسار المستقبل السياسي لسوريا واضحاً، وهو الآن يمتلك هامشاً كبيراً للمناورة بين كل الأطراف، والعلاقة الثلاثية الناجحة "بوتين وترامب وإردوغان" تتيح له أن يغير شروط اللعبة في الساحة السورية، وخصوصاً أن هذه الثلاثية لها علاقات وطيدة بـ"إسرائيل" ولها مصلحة متباينة في استبعاد أو تقليص ما يعدّونه وجوداً إيرانياً ونفوذاً واسعاً في سوريا، كما أن من يعدّه تهديداً للأمن القومي التركي في شمالي شرقي سوريا "حزب العمال الكردستاني في وجهه السوري" لا خلاف عليه بين أركان الثلاثية، وهو الذي أخذ الضوء الأخضر باحتلال عفرين عام 2018 والمنطقة الممتدة بين رأس العين وتل أبيض عام 2019، وهو بهذا الجانب مصيب في رهانه رغم الحسابات الروسية الخاصة تجاه تجربة "الإدارة الذاتية" ومحاولات احتوائها ضمن التصور الروسي للمستقبل السياسي لسوريا.
دمشق بطبيعة الحال لها رهاناتها بتحقيق مكاسب من جراء عودة ترامب إلى الرئاسة الأميركية، على الرغم من التجربة المُرّة معه في فترة رئاسته الأولى، وهو الذي وقَّع على "قانون قيصر" في فرض عقوبات شديدة على سوريا، ومع ذلك فهي تراهن على صدق إرادته بالانسحاب من سوريا عدا قاعدة التنف، في إطار سحب تدريجي للقواعد العسكرية في العالم. وهي، على الرغم من الضوء الأخضر لتركيا لملء الفراغ الأميركي السابق، استطاعت الوصول مع القوات الروسية إلى مناطق جديدة في عين العرب شرقي الفرات، مع إدراكها حجم مخاطر الثلاثية السابقة وأن تكون على حسابها في المرحلة المقبلة، وهي من أجل ذلك لها رهان مغاير في مكان معاكس يمكنه مواجهة الرهانات السابقة عدا عن استنادها إلى الوعد القطعي الروسي بالمحافظة على وحدة الأراضي السورية والتخلص من الجماعات الإرهابية.
توضَّح الرهان السوري في مؤتمر القمة العربية الإسلامية الطارئ الذي انعقد في الرياض، من خلال الكلمة التي ألقاها الرئيس السوري بشار الأسد المتفردة بوضوحها وقوتها المعارضة لسياق الكلمات الخجولة التي ساوت من الناحية العملية بين الجلاد والضحية، والمبنية على الترجي والإدانة من دون مشروع واضح لتحقيق الحد الأدنى المطلوب وفقاً لما ألزموا به أنفسهم ضمن إطار القرارات الدولية. وهذا الرهان السوري واضح في التزامه الثابت تجاه الوقوف مع قوى المقاومة في فلسطين ولبنان، وبالتالي استمرار الرهان على إيران كدولة إقليمية كبرى، استطاعت الوصول إلى مستوى يتيح لها التأثير بشكل كبير في السياسات الدولية تجاه منطقة غرب آسيا، ولا يمكن للقوى الإقليمية والدولية تجاوزها في أي اتفاق يتعلق بسوريا ويكون على حساب دمشق.
تعاطت دمشق من اللحظة الأولى لانطلاق عملية "طوفان الأقصى" كونها اللحظة المفصلية لانفجار الصراع على خرائط جديدة للمنطقة، فهناك المشروع الغربي الذي يعمل على توسيع تغيير الخرائط بعد أكثر من مئتي عام، وهناك مشروع القوى المقاومة التي تعمل على تقويض الخرائط الغربية على مدى 42 عاماً، وهي نجحت في حرب تموز 2006 عبر حزب الله في إجهاض ولادة "شرق أوسط جديد"، وإن كان هذا التعاطي صامتاً في أغلبيته، لكنه من حيث الفعل كان واضحاً وخصوصاً بعد الهجوم البري "الإسرائيلي" على جنوبي لبنان.
هذا الموقف السوري الواضح وعالي السقف في قمة الرياض لا ينفصل عن إدراك دمشق أن الشهرين المقبلين هما شهران مفصليان وخطيران في تحديد مسار سوريا والإقليم قبل استلام إدارة ترامب الجديدة مهماتها، وأن قوى المقاومة في لبنان وفلسطين ستكون في موقع التصعيد الشديد خلال الأسابيع المقبلة، بعد أن وصل الإسرائيليون إلى ذروة التصعيد والبدء بالانحسار بعد هزائمهم المتلاحقة في جنوبي لبنان.
وهي أسابيع ستحدد قواعد جديدة لموازين القوى في الإقليم، تراها الرياض بشكل واضح بعد انتظار أكثر من 400 يوم من حرب إيلاد "شرق أوسط جديد 2" فإذا بها تتحول إلى خطوة أولى في مسار ولادة "مشرق جديد"، قد تستطيع سوريا قطف ثماره الأولى إذا ما اقترن ذلك بالتغيير الداخلي الإيجابي كمكاسب من جراء انتصار المقاومة القادم، لا من جراء عودة ترامب.