الخيانة: رصاصة في الظهر

التصدي للخيانة لا يكون فقط عبر الإجراءات الأمنية، بل بتعزيز الوعي الجمعي، فحماية الجبهة الداخلية واجب وطني ومسؤولية جماعية، لا تقتصر على أبناء المقاومة، بل هي مهمة كل فرد.

0:00
  •  إما وعي جماعي يتحمل مسؤوليته الجميع، أو انزلاق إلى فوضى!
    إما وعي جماعي يتحمل مسؤوليته الجميع، أو انزلاق إلى فوضى!

فوجئ سكان مدينة غزة قبل أيام بهجوم كبير من قِبل ملثمين على فندق المشتل الواقع عند أطراف شمال مدينة غزة الغربية، تبعته حركة سرقة غير مسبوقة لجميع ممتلكات المكان، حيث قام هؤلاء الأشخاص بسرقة تكية "غزة العزة" التي تسهم في إطعام آلاف المواطنين، وكذلك مقدرات مهمة داخل بهو ذلك الفندق، ولم يكن للأمر أن يحدث بهذا الشكل المنظم -في ظل وجود حراسة مشددة من رجال الأمن وتوفر الأبواب الضخمة العصية على الكسر- لولا وجود عملية مدبرة ومخططة بشكل كامل. 

تبِع تلك العملية المشبوهة هجوم من أشخاص آخرين على سوق مخيم الشاطئ، وفي الليلة ذاتها وقع اعتداء آخر على بريكسات توزيع المساعدات ثم الهجوم على مؤسسات وجمعيات جديدة تخدم قطاع غزة، وخلال ساعات لاحقة حصل الهجوم على محال تجارية في حي الرمال بذريعة الجوع والبحث عن الطعام.

هؤلاء اللصوص الذين كانوا يملكون أسلحة أميركية، وهي الأسلحة ذات الأسعار الباهظة في قطاع غزة، يهاجمون بها محال غير إغاثية، ما يؤكد أن هناك محاولات خبيثة لاستهداف الأمن الداخلي الفلسطيني، كي تتحول المدينة إلى غابة، القوي فيها يسيطر على الضعيف، لا يأمن الرجل على بيته وأولاده، وهو ما حدث ليلة البارحة أيضًا، عندما هاجمت مجموعة من قطاع الطرق المواطنين العائدين من مستشفى الشفاء وسرقت هواتفهم وأموالهم، في الوقت الذي جرى فيه استهداف رجال الأمن الذين تدخلوا لثني اللصوص عن سرقة "تاج موول" في شارع الثورة، فقد استُهدفوا خلال ساعة واحدة فقط أكثر من ثلاث مرات، لندرك أن هناك تواصلًا بين اللصوص والاحتلال، لاستهداف المقاومة ورجال الأمن، يأتي كل ذلك في محاولة لإنجاح جهود نتنياهو وترامب بتهجير السكان الصامدين، خصوصًا في شمال قطاع غزة، علمًا أنه سبق تلك المحاولات، إرسال رسائل نصية إلى جميع سكان مدينة غزة من طرف الكابتن الإسرائيلي "أبو هيثم"، مسؤول قطاع غزة في جهاز الشين بيت، كما ألُقيت لاحقًا أوراق نقدية "من فئة عشرين شيقلًا" من خلال طائرات الكواد كابتر، سُجّل عليها رقم الواتس آب لذلك الضابط، وشريحة سيليكوم إسرائيلية تدعو السكان الغزيين إلى التعاون معه من أجل مستقبل أفضل، بحسب تعبيرهم. 

إن صراع الأدمغة لا يتوقف بين رجال المقاومة والاحتلال، الذي يعمل على إسقاط أكبر عدد من السكان في براثن العمالة، من أجل إرباك الجبهة الداخلية وتحقيق الأهداف المعلنة وغير المعلنة للحرب على غزة. فالحرب النفسية التي يقودها ضباط الاستخبارات والناطقون باسم جيش الاحتلال، وكذلك صفحات المنسقين الإسرائيليين وغيرهم، لابتزاز المواطن المطحون بالمال، أو السفر للعلاج، وأحيانًا الإسقاط الجنسي، ليست إلا محاولات يائسة بعد عجز المنظومة الأمنية الإسرائيلية عن معرفة أماكن وجود الأسرى الإسرائيليين، ومعرفة مواطن وجود أفراد المقاومة وما تمتلكه من وسائل قتالية متواضعة. 

وإن التاريخ الذي لفظ أبو رغال، حتى صار رمزًا للخيانة، والأمة التي لعنت أنطوان لحد، وكذلك الشعوب التي قرأت خيانة بندكت أرنولد ومير جعفر وفيليب بيتان وأندريه فلاسوف، لن تقبل بوجود خونة جدد يسهمون في إلحاق الضرر بشعوبهم وممتلكاتهم، وإن العدو الذي فشل في تحقيق أهدافه عبر القوة العسكرية المفرطة، فبات يستثمر في أدوات أقل تكلفة وأكثر خبثًا، مستغِلًا حاجات الناس الإنسانية، ليحوّلها إلى سلاح ضدهم، لن تنجح، لأن الوعي الشعبي الفلسطيني كبير، ولا يزال يشكّل جدارًا صلبًا في وجه محاولات الاختراق والتجنيد.

لذا، فإن التصدي للخيانة لا يكون فقط عبر الإجراءات الأمنية، بل بتعزيز الوعي الجمعي، فحماية الجبهة الداخلية واجب وطني ومسؤولية جماعية، لا تقتصر على أبناء المقاومة، بل هي مهمة كل فرد، وكل مؤسسة وكل قلم.

فلا شيء أخطر على الشعوب من الطعنات التي تأتي من الداخل، ولا شيء أنبل من أن يحمي المرء وطنه من الاختراق، كما يحميه من القصف والدمار.

ولقد أثبتت التجارب المتعاقبة أن الاحتلال حين يفشل في كسر إرادة المقاومة في الميدان، يلجأ إلى تفتيت المجتمع من داخله، عبر إثارة الفوضى، وتحويل المواطن إلى خصمٍ لأخيه، ومن ثم صناعة بيئة مواتية للتطويع أو التهجير أو الاستسلام. لكنها معركة وعيٍ قبل أن تكون معركة بنادق. فالمجتمعات الحرة هي التي تصون نفسها بالانتماء، وتقف على أطراف جراحها من دون أن تسمح للعدو بالتسلل إلى وعيها وأحلامها وأخلاقها.

فالمعادلة باتت واضحة: إما وعي جماعي يتحمل مسؤوليته الجميع، أو انزلاق إلى فوضى يتحكم فيها العدو بأدوات داخلية. والخيار دومًا بيد الشعوب، لا بيد من يعبثون بأمنها. وعلى كل من يرى نفسه جزءًا من هذه الأرض، أن يختار بين أن يكون درعًا لها، أو خنجرًا في خاصرتها.

الخيانة ليست فقط رصاصة في الظهر، بل هي زلزال يهدد ما تبقى من ثوابت، ومسمار في نعش الحلم الفلسطيني. لذلك، لا مجال للصمت، ولا حياد في هذه المعركة. فإما أن نكون جدارًا يحمي غزة، أو صدعًا يسمح للعدو بالعبور، ولعل العوائل التي خرجت في بيانات تندد بالفلتان، دليل على أن هذه الحقبة السوداوية ستنتهي عما قريب، وستشرق شمس غزة من جديد.