دمشق وكردها: الطلاق المستحيل
يبدو أنَّ مستقبل الجزيرة السورية غامض الملامح، ولا أفق له خارج إطار الدولة السّورية في إطار مشروع وطني سوري يحقق لجميع أبنائه فكرة الشراكة في بنائه وانعكاس ذلك عليهم جميعاً.
تأرجحت العلاقة بين دمشق والكرد الأوجلانيين على مدى 4 عقود بين مدّ وجزر، وفقاً للتهديدات والفرص بين الطرفين، والتي بدأت عملياً بعد لجوء عبد الله أوجلان إلى سوريا في العام 1980، إثر هروبه من السجن بعد الحكم عليه بالإعدام في تركيا، ودخلت في مرحلة الكمون بعد اضطرار دمشق إلى التخلي عن الزعيم الكردي، بفعل التهديدات التركية باجتياح سوريا في العام 1998، لتنتقل بعد ذلك إلى الطور السلبي، بفعل ارتفاع العلاقات السوية بين دمشق وأنقرة، لتعود إلى التنسيق العالي المستوى إثر اندلاع الحرب على سوريا وبروز الدور التركي الفعال فيها، ما دفع إلى التعاون الكبير بين الطرفين والقتال سوياً في بعض الأحيان، إلى حين تسليم دمشق شمال سوريا بأكمله لهم مع المعدات العسكرية، في خطّة لترتيب الأولويات العسكرية.
شكّل التدخل التركي المباشر عبر دعم تنظيم "داعش" في الهجوم على عين العرب في العام 2014 نقطة تحول حادة في العلاقة بين الطرفين، لعجز دمشق عن تقديم الدعم العسكري لهم، ما هيّأ الفرصة لواشنطن للدخول على خطّ دعمهم عسكرياً مقابل فرصة تاريخية لا تعوض، تتيح للولايات المتحدة التموضع في شمال شرق سوريا واتخاذ المنطقة كمنصة رئيسية للتحكم بمسارات الداخل السوري، كما العراقي والتركي، وما يترك ذلك من آثار في المشروعين الروسي والصيني اللذين يستندان إلى إيران وتركيا كركيزتين أساسيتين لنجاحهما في قارة آسيا لبعديهما الجيوسياسي والديمغرافي.
أثارت أحداث الحسكة التي تعرض الجزء المتبقي منها تحت سلطة دمشق للحصار والضغط لغطاً كبيراً على المستوى السياسي السوري، بما يوحي بوجود مشروع انفصالي وتشكيل كيانية مستقلة استناداً إلى دعم أميركي غير واضح المعالم حتى الآن، فهل هذا الأمر ممكن؟
رغم الخلفية اليسارية الماركسية المُؤسسة لحزب الاتحاد الديمقراطي "PYD" الذي يعتبر الوجه السوري لحزب العمال الكردستاني "PKK"، فإن القادة العسكريين للحزب لم يجدوا حرجاً في الاصطفاف مع خيارات الولايات المتحدة، في محاولة لاستخدام أوراق ضغط كبيرة على دمشق، بفعل سيطرتهم على مصادر الطاقة والغذاء الأساسية لسوريا، والحماية العسكرية الأميركية التي سمحت بسقوط عفرين بالتواطؤ مع موسكو وأنقرة، واحتلال الشريط الحدودي بين تل أبيض ورأس العين على عمق 33 كم، إضافة إلى جرابلس والباب سابقاً.
يقف قادة الكرد حائرين اليوم بعد سقوط ترامب وعودة الديموقراطيين إلى الإدارة الأميركية، فعلى الرغم من التصريحات الأميركية السابقة على لسان الرئيس الأميركي جو بايدن بدعم الكرد في سوريا، فإنهم يدركون أن السياسة الأميركية محكومة بهاجسين هما روسيا والصين.
أما ما تبقى، فإنها تنظر إليه وفقاً لقواعد الاشتباك غير المباشر، والأولوية فيها لاسترداد تركيا التي خرج بها رئيسها إردوغان عن المسار العام لـ"الشرق الأوسط الكبير" الذي تم وضع أسس مشروعه في مؤتمر "سي آيلاند" في الولايات المتحدة في العام 2004، وهي تشكّل أيضاً العنصر الأهم في التأثير في الداخل الروسي باستخدام الأقلية المسلمة التركية، إضافة إلى التأثير في جمهوريات آسيا الوسطى ذات الأصول القومية التركية.
ولا تخرج الصين عن ذلك بفعل التهديدات التركية باستخدام الأقلية التركية الإيغورية في زعزعة استقرار إقليم شينغيانغ في شمال غرب الصين، الذي يمثل بمساحته التي تتجاوز 1.6 مليون كم2 ممراً أساسياً للطرق البرية خارج الصين.
لذلك، فإن أولوية استرداد تركيا بالنسبة للولايات المتحدة تفوق بعشرات الأضعاف مصالح واشنطن مع الكرد الذين خذلتهم في استفتاء كردستان العراق في العام 2017، والعلاقة الأميركية معهم لن تتجاوز استخدامهم كورقة ضغط أساسية لتهديد الداخل التركي والضغط على دمشق وطهران.
في الجانب الآخر، يحمل القادة الكرد هاجساً آخر يتمثل بالاندفاع الكبير لفريق جو بايدن للعودة إلى الاتفاق النووي مع طهران، لإدراكهم بأنَّ استعادة إيران تشكل حجر الزاوية في مواجهة المشروعين الصيني والروسي، وأن استجابة طهران للعودة إلى الاتفاق ستكون على حساب التمدّد الصّيني والروسيّ في غرب آسيا، الذي يمتدّ من أفغانستان حتى شاطئ البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، وقبول إيران بذلك سيعطيها الدّور الأساس في كل غرب آسيا، إذ تعتبر المؤشرات الأولية التي اتخذتها الإدارة الأميركية الجديدة نحو اليمن، مع استبعاد الرياض وأبو ظبي والقاهرة من دائرة القرار الأميركي في ما يتعلق بالملف النووي الإيراني - "وهي العواصم التي تدعم المشروع الكردي في الجزيرة السورية" - نقطة مثيرة للقلق، فقد خبروا خلال أكثر من قرن من الزمن بأنهم غالباً ما يدفعون ثمن الصراعات الدولية والإقليمية وما يترتب عليها من اتفاقيات وتسويات جديدة.
وفي السياق ذاته، يبدو الدور الروسي عامل تهديد أكثر من كونه فرصةً بالنسبة إليهم، فعلى الرغم من الاجتماع الشهير الذي جرى في موسكو بين إلهام أحمد الرئيسة التنفيذية لمجلس سوريا الديموقراطية وقدري جميل رئيس حزب الإرادة الشعبية المقرب من موسكو، فإنّ مجيء إدارة أميركية معادية بشدة للأخيرة قد يدفع قادة الكرملين إلى التشدد أكثر تجاههم، والنظر إليهم من وجهة نظر الصراع الأميركي الروسي، والذهاب أبعد للتفاعل مع مطالبات دمشق بعودة كل الأراضي السورية الخارجة عن السيطرة الحكومية.
تحاصر التهديدات المشروع السياسي للكرد السوريين من كل حدب وصوب، فمع كل الدعم الأميركي حتى الآن، إلا أنَّ الكثير من القوى الكردية تستعد للانقضاض عليهم، بما في ذلك المجلس الوطني الكردي، الذي يعمل تحت المظلة التركية ضمن الائتلاف المعارض، إضافة إلى أربيل التي تتطلع إلى تمدد طموحاتها في الشمال السوري والقضاء على تجربة سياسية كردية لا تقيم وزناً للبعد العشائري والعائلي في السيطرة على مسارات السياسة والاقتصاد.
وهناك أيضاً العشائر العربية التي تشكل النسبة العددية الأكبر في محافظة الحسكة التي تتعاطى بحذر مع سيطرة الكرد على التوجهات السياسية والاقتصادية، وخصوصاً النفط السوري الذي تقوم بتوزيع ريوعه على بعض وجهائهم وشيوخ عشائرهم، وهم قابلون للانقضاض عليهم بفتنة ذات طابع قومي في حال تغيرت المسارات الإقليمية القابلة للتحقّق.
إضافةً إلى كلّ ذلك، هناك دمشق التي لا تقبل التعاطي معها تحت الضغط، وخصوصاً إن ترافق ذلك مع دعم أميركي، وهي التي استطاعت خلال عقود امتلاك خبرة في التعاطي مع الوقت ورفض كل ما تريده واشنطن وما لا ينسجم مع ما تريده هي، كما تعتبر العلاقة مع السوريين من خارج إطار سلطتها خطاً أحمر، ما يدفعها إلى التشدد أكثر في أية مفاوضات معهم، ومن دون منحهم أية مكاسب سياسية واقتصادية وثقافية.
يبدو أنَّ مستقبل الجزيرة السورية غامض الملامح، ولا أفق له خارج إطار الدولة السّورية في إطار مشروع وطني سوري يحقق لجميع أبنائه فكرة الشراكة في بنائه وانعكاس ذلك عليهم جميعاً، على الرغم من أنه لن يرى النور إلا بعد نهاية الحرب على البلاد، حيث لا غنى للسوريين الكرد عن دمشق، ولا غنى لدمشق عن كردها، وهما اللذان يتجنبان حتى الآن الدخول في أية مواجهة عسكرية ستعني الطلاق الدائم.