اغتيال تشارلي كيرك استمرار لعدمية أميركية متأصلة

تحتاج القوة العظمى الأميركية المتراجعة إلى تبرير إخفاقاتها وجرائمها الصارخة والوحشية في الخارج، وانهيارها الاقتصادي في الداخل، بعبارات مماثلة، كالحرب على الإرهاب المحلي.

0:00
  • عدمية أميركية متأصلة.
    عدمية أميركية متأصلة.

لم يكن مقتل تشارلي كيرك، الناشط اليميني وحليف دونالد ترامب، بداية "فصل مظلم" من العنف السياسي الداخلي، ولن يكون نهاية له، ذلك أنه استمرار لعنف متأصل وراسخ في النظام السياسي الأميركي وفي نزوعه نحو الإبادة والاحتلال والفاشية واستباحة الآخرين، وهي خصائص أصيلة في الكيانات الأوروبية الاستيطانية الاستعمارية الإحلالية على مدة قرون الاستيطان الخمسة الأخيرة، بل وسمة هامة من سمات تاريخ القوى أو بالأحرى القبائل الأوروبية المتناحرة. 

يؤكد الكاتب الصحافي البريطاني، جوناثان كوك، أن العنف أصبح منذ فترة طويلة أمرًا طبيعيًا في سياسة واشنطن الخارجية القائمة على الصراع والنفي ومبدأ "الصدمة والرعب" التي يتبناها الحزبان الحاكمان.

في السنوات القليلة الماضية فقط، دعمت الولايات المتحدة السعودية عسكريًا في قصفها المستمر لليمن عدة سنوات، والذي أعاد اليمن إلى عصور الظلام. كما جمدت الولايات المتحدة أرصدة البنك المركزي الأفغاني بالمليارات ورفضت تقديم المساعدات لأفغانستان، التي لا تزال تعاني عواقب عنف واحتلال عسكري أميركي دام عقدين وانتهى مؤخرًا، ويتسبب الآن بمجاعة جماعية بين أطفال البلاد. وزوّدت الولايات المتحدة إسرائيل بقنابل الإبادة والغطاء الدبلوماسي لمحو غزة وتجويع شعبها.

إن تأثير هذا العنف المتواصل والواضح للعيان الذي تمارسه واشنطن على أجزاء واسعة من العالم، والتغطية الإعلامية التي تحتفي به وتُقدّسه بكل سهولة، لا يمكن حجبه عن الرأي العام الأميركي المُراقِب.

يتساءل كوك: من أين استوحى تايلر روبنسون (قاتل كيرك المفترض) فكرة نقش رسائل كراهية على أغلفة رصاصاته القاتلة؟ هل كان ذلك من رؤيته لحاكمة كارولينا الجنوبية الجمهورية السابقة والمرشحة الفاشلة عن الحزب الجمهوري، نيكي هيلي، وهي تكتب عبارة "اقضوا عليهم" على قذائف مدفعية ستُستخدم في الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة؟

هذا التمجيد المنحط للعنف الجماعي من قِبل المؤسسة السياسية الأميركية لا يثير الدهشة. ومع ذلك، ينصب التركيز بشدة على قاتل كيرك، تايلر روبنسون، كما لو أن الفعل العنيف المُشتبه بارتكابه هو بمنزلة لحظة فاصلة تتطلب الآن فقط محاسبة ذاتية جادة لتيار "اليسار" فقط، كما هو متوقع. 

صب الوقود على النار

لا ينبغي أبدًا أن ينصبّ تركيزنا الحقيقي على الأفراد المُدمّرين بقدر ما ينبغي أن ينصبّ على المنظومات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي شوّهتهم وأضرّت بهم ووفّرت لهم الوسائل والدوافع لتنفيذ أجندات منحرفة.

ألعاب الفيديو ووسائل التواصل الاجتماعي ليست سبب المشكلة، بل هي الوقود الذي يُصبّ على نارٍ مُشتعلة بالفعل بين شريحةٍ من الشبان المُنعزلين والعدميين في جميع أنحاء الولايات المتحدة.

بحسب كيرك، لا يُمكن تفسير هذه العدمية – أي الشعور بأن العالم وقِيمَه بلا معنى على الإطلاق وأن حياتنا بلا هدف – ببساطة بالهروب إلى عالم ألعاب الفيديو العنيفة. هذا الإدمان هو ما يدفع العدمي إلى البحث عن العزاء، هربًا من واقعٍ أصبح عبئًا ثقيلًا.

إن سياق ومصدر ودوافع النظرة العدمية لهؤلاء المسلحين المنفردين هو الدور الفريد الذي اتخذته الولايات المتحدة لنفسها في تشكيل العالم على مدى الأعوام الثمانين الماضية، سواء كمركز إمبريالي لإعادة اختراع الاستعمار الغربي، أو كمصدر رئيسي ومنفّذ لقواعد رأسمالية نيوليبرالية متوحشة ومتسارعة.

وكما يتضح من الإبادة الجماعية الجارية في غزة، فإن السياسة الخارجية الأميركية لا تتطلب فقط حملة مستمرة من الترهيب والعنف العنصري تجاه الجنوب العالمي، بل تحتفي بهذا العنف كقيمة أخلاقية وواجب قومي، وهو ما يدافع عنه اليمين وشخصيات مثل تشارلي كيرك.

في هذه الأثناء، في الداخل، يُمجد اليمين الفاشي الداعي لـ"أميركا عظيمة مجددًا" تجاوزات الرأسمالية النيوليبرالية، متجاهلاً الانتهاكات الاستغلالية للفئات الأضعف والأكثر تهميشًا، وتدمير صحة الكوكب، وما ينتج منه من تهديدات لمستقبل الجنس البشري.

لا شيء من هذا يُمثل بيئة سياسية سليمة للتنشئة والنمو.

استندت بدعة "القومية المسيحية" أو "القومية البيضاء" التي تبناها تشارلي كيرك – خلافًا لكل الأدلة – إلى أن أميركا تُقدِّم خدمة الله في الترويج لـ"قيم" داخلية وخارجية لا تخدم إلا المصالح الضيقة لطبقة مليارديرات يمثلها دونالد ترامب.

ومع أن من الصعب حتى الآن معرفة منطق قاتل تشارلي كيرك، إلا أنه يبدو على الأرجح أنه فقد هذا النوع من الإيمان عديم التبصّر.

وكيف يمكن لنا أن نحدِّد أي منهما، القاتل والقتيل، كان ينطوي على رؤيةً أكثر قتامة للواقع؟

ولأن قاتل تشارلي كيرك نشأ "مسيحيًا" متدينًا ولا يقل عن كيرك في ذلك، ربما لم يعد الأوّل قادرًا على تصديق الرواية التي تُروِّج لها "القومية المسيحية" التي تبناها كيرك، والتي تُشير إلى تطابق إرادة الله وإرادة ترامب وإرادة إسرائيل.

إشعال نيران كل المدافع

الأمر الأوضح هو أن شريحة متنامية من الشباب الساخطين بالولايات المتحدة أصبحت أقل استعدادًا لتقبل نظام قيمي "ثنائي الحزبية" يتطلب حروبًا دائمة ومجاعات وإبادة جماعية في الخارج، وإفقارهم وتهميشهم هم في الداخل، ومستقبلًا قاتمًا لا تجد فيه الرأسمالية النيوليبرالية الانتحارية، القائمة على نمو لا نهائي على كوكب محدود، حلولًا سريعة.

يرى كوك أنه إذا كانت هذه هي القيم الوحيدة المتاحة، فإن البعض – مثل مطلقي النار في المدارس وقاتل كيرك – يختارون عدم وجود أي قيم على الإطلاق. إنهم يختارون العدم والموت مُطلقين النار.

لماذا اختار القاتل تشارلي كيرك؟ لأنهما على الأرجح لم يكونا مختلفَين كثيراً.

كان هروب كيرك من الواقع إلى عالمٍ الاستثنائية الأميركية العنيفة، ويُزعَم أنه مُبررٌ بالكتاب المقدس، لا يقلّ عدميةً عن هروب قاتله إلى عالم ألعاب الفيديو العنيفة.

كلا القاتل والقتيل مرتبط بنظامٍ ينبع فيه المعنى أساسًا من القدرة على إلحاق العنف بالآخرين: كيرك منطلقًا من خلال هياكل السلطة القائمة القمعية؛ وقاتله منطلقًا من خلال فوهة البندقية.

مارس كيرك نفوذه عبر شبكة المعلومات العالمية (إنترنت)، مُؤجّجًا عبرها الاستياء والغضب، في حين غذّت الشاشاتُ عدمية قاتله واغترابه، فيمتزج عالم ألعاب الفيديو المُظلم، حيث  الحياة بلا قيمة والقتل بلا عواقب، بعالمٍ حقيقيٍّ مُظلمٍ أصبح فيه موت الأطفال جوعًا أمرًا عاديًا.

هذا النوع من التوازي، بالطبع، لا يُمكن لتيار "أميركا عظيمة مجددًا" اليميني أن يتقبله. لأنه لا يُدين "يسارًا" مُتخيّلًا، بل يدين رؤية اليمين نفسه لأميركا المُهيمنة، أميركا التي تُجرّد فيها نماذج التضامن والقيم المشتركة من جوهرها، حيث القوة وحدها هي الصواب. 

بالطبع، سيُحَمّل "اليسار" مسؤولية مقتل كيرك، مهما كانت الحقيقة، لأن منطق النظام السياسي الأميركي القائم على عنف مؤسسي هيكلي تجاه الآخرين داخليًا وخارجيًا، والذي سبق وصول ترامب إلى البيت الأبيض بفترة طويلة، يستبعد بالضرورة إجراء محاسبة ذاتية حقيقية.

الإرهاب الحقيقي

تحتاج الإمبراطورية الأميركية، التي تفقد زخمها وشرعيتها بسرعة، إلى كبش فداء. لعقود عديدة، تم توفير هؤلاء الكباش في ساحات خارجية، إذ اختارت الولايات المتحدة تصدير عنفها في حروب مزعومة ضد "الإرهابيين".

الآن، تحتاج القوة العظمى الأميركية المتراجعة إلى تبرير إخفاقاتها وجرائمها الصارخة والوحشية في الخارج، وانهيارها الاقتصادي في الداخل، بعبارات مماثلة، كالحرب على الإرهاب المحلي.

يخلص كوك إلى أنّ الإرهاب الحقيقي هو ما تمارسه المؤسسة السياسية الأميركية الحاكمة من الحزبين، والتي لا تهتم إلا بإثرائها، وهي مستعدة لاستخدام أي عنف ضروري لحماية مكانتها وثروتها.

لا تخطئوا، فهذا يعني المزيد من العنف السياسي، وتحديدًا من جانب أولئك الذين يزعمون أنهم يعملون على وضع حد له.