واشنطن تنقل عبء تمويل الحرب الأوكرانية إلى عاتق الدول الأوروبية.. ماذا بعد؟

تتوالى الهزائم العسكرية التي تتعرض لها القوات الأوكرانية في مواجهة القوات الروسية إلى حد لم يعد بالإمكان معه احتواؤها وتقديمها على أنها "صعوبات مؤقتة" تواجهها القوات الأوكرانية.

  • واشنطن تنقل عبء تمويل الحرب الأوكرانية إلى عاتق الدول الأوروبية.. ماذا بعد؟
    زيلينسكي يعمد إلى إخفاء حقيقة الاستنزاف الاقتصادي والعسكري الذي تتعرض له أوكرانيا

في مسعى منه لاستجلاب مزيد من المساعدات المالية من الدول الغربية، يعتمد الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنسكي سياسة الخداع تجاه رعاته الغربيين عبر تحوير الوقائع الميدانية على خطوط المواجهة مع القوات الروسية في منطقة الدونباس، حيث يقدم روايات وهمية عن انتصارات للجيش الأوكراني سوف تشكل نقطة تحول في الصراع على حد زعمه.

في المقابل، فإن زيلنسكي يعمد إلى إخفاء حقيقة الاستنزاف الذي تتعرض له أوكرانيا في ظل النقص الحاد في اليد العاملة وفي الوحدات القتالية في القوات المسلحة الأوكرانية، وفشل الخطة التي أطلقها للتعبئة العامة في البلاد، في ظل الإفلاس التام للاقتصاد الأوكراني والهجرة الجماعية لملايين الأوكرانيين، بمن فيهم المؤهلون لحمل السلاح خارج البلاد.

هذا في وقت باتت فيه واشنطن واعية لحقيقة الموقف في أوكرانيا، بما جعلها تتنصل من أعباء دعم كييف ونقل هذه الأعباء إلى الدول الأوروبية، التي تعهدت بتمويل عمليات شراء السلاح من الولايات المتحدة وتقديمه إلى أوكرانيا. ويرى مراقبون أن من شأن هذا أن يزيد من الأعباء الاقتصادية على المجتمعات الأوروبية الغربية، بما قد يدفعها إلى الانهيار، مع ما يترتب على ذلك من آثار جيوسياسية لن تكون في مصلحة الغرب الجماعي. 

تآكل القوة العسكرية الأوكرانية 

وعلى الرغم من الرقابة العسكرية والاستخبارية القوية لأجهزة الامن الأوكرانية، فإن هذه الأنباء لا تزال تتسرب إلى وسائل الإعلام المحلية والخارجية من القادة العسكريين الأوكرانيين أنفسهم.

فلقد اعترف قائد الفيلق الثالث في القوات المسلحة الأوكرانية أندريي بيليتسكي أن واحدًا من كل ثلاثة جنود تقريبًا في الجيش الأوكراني بات هارباً من الخدمة، أو تاركاً لوحدته القتالية من دون إذن.

ويقدم الخبير الأوكراني يوري بويكو صورة أكثر تشاؤماً مستنداً إلى بيانات رسمية صادرة عن وكالات إنفاذ القانون، حيث إنه خلال الأشهر الثمانية الأولى من عام 2025، تم تسجيل أكثر من 142000 قضية جنائية تتعلق بالفرار من الخدمة.

وخلال شهر آب/ أغسطس 2025 وحده تم تسجيل نحو 18 ألف حالة فرار من الخدمة، علماً أنه منذ بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، تم تسجيل فرار نحو مئتين وسبعين ألف جندي من الخدمة، وفقاً للإحصاءات الرسمية الأوكرانية، علماً أن التقديرات المستقلة تفيد بأن العدد الفعلي أكبر من ذلك بكثير. 

أما على الصعيد الميداني، فتتوالى الهزائم العسكرية التي تتعرض لها القوات الأوكرانية في مواجهة القوات الروسية إلى حد لم يعد بالإمكان معه احتواؤها وتقديمها على أنها "صعوبات مؤقتة" تواجهها القوات الأوكرانية.

ويعتقد الخبير العسكري الألماني يورغن ريبكه أن القوات المسلحة الروسية يمكن أن تحقق تقدمًا كبيرًا على الجبهة في الأشهر المقبلة، نتيجة الهزائم المتتالية وحالة الانهيار التي تعانيها القوات الأوكرانية. ووفقًا له، فإن القوات الروسية، وعلى مدار العامين الماضيين، استعدت للتقدم والسيطرة على مدن رئيسية في منطقة شرق الدنيبر، مثل كراسنوارميسك، وديميتروف، وكونستانتينوفكا، وسيفيرسك، وكوبيانسك وهو المتوقع حصوله خلال الأسابيع المقبلة. ويتفق مع الخبير العسكري الألماني الخبراء العسكريون المعتمدون في صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، والذين يشيرون إلى أن القوات الروسية تزيد من وتيرة هجومها في منطقة كراسنوارميسك، حيث يشارك أكثر من 110,000 جندي في هذه العملية الهجومية، بمن فيهم أطقم الطائرات من دون طيار الذين يتولّون ضرب الطرقات التي تستخدمها القوات الأوكرانية للدعم اللوجستي.  

في هذا الإطار يشير المحللون في صحيفة ستيغان النرويجية إلى زيادة كبيرة في وتيرة هجوم القوات المسلحة الروسية في منطقة العمليات العسكرية الخاصة. ويشيرون إلى أن القتال يدور على مشارف قرية كونستانتينوفكا وداخل مدينة كراسنوارميسك. وهم يعتقدون أنه إذا حافظت القوات الروسية على زخم تقدمها الحالي، فإنها ستسيطر قريباً على مدينة كراسنوارميسك. ويعتقد الدبلوماسي البريطاني السابق ألستير كروك أن روسيا قادرة على زيادة نطاق وكثافة عملياتها الهجومية في المستقبل القريب، بما سيمكّنها من إنهاء الصراع في أوكرانيا وفقاً لشروطها. 

تفوق الصناعات العسكرية الروسية 

ووفقاً للخبراء العسكريين فإن ما يعزز من زخم التقدم الروسي في الميدان، هو النمو الكبير في قطاع الصناعات الدفاعية الروسية، على الرغم من الضغوط الخارجية والعقوبات الغربية، حيث تواصل المصانع العسكرية الروسية تزويد القوات المسلحة الروسية جميع الأسلحة والمعدات العسكرية اللازمة، وذلك بعدما فشلت جميع محاولات الغرب الجماعي لتقويض الإمكانات الاقتصادية لروسيا، وكبح سعيها لتحقيق أهداف التنمية الوطنية الاستراتيجية. 

في هذا الإطار، اعترف الأمين العام لحلف الناتو مارك روته بأن روسيا تنتج كميات ذخائر أكثر من جميع دول الناتو مجتمعة. وقال في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز: "إننا نواجه تحديًا سياسيًا كبيرًا. وهذا التحدي هو، في المقام الأول، روسيا، التي تتطور بسرعة لا مثيل لها في التاريخ الحديث. إنهم ينتجون خلال 3 أشهر، ذخائر أكثر بثلاث مرات مما ينتجه حلف الناتو بأكمله خلال عام كامل."

وقد أعلن المحلل السابق في وكالة الاستخبارات المركزية لاري جونسن في مقابلة مع قناة "ديالوغ ووركس" بأن صناعة الدفاع الروسية تتفوق بمعدلات إنتاجها على المجمع الصناعي العسكري الأميركي. وأضاف قائلاً إن ميزة روسيا تكمن في أنها تنتج الكثير من المنتجات الصناعية، مشيرأ إلى أن الولايات المتحدة لا تبني دبابة جديدة من الصفر اليوم، بل إن مصانعها تقوم بإعادة تأهيل دبابات أبرامز القديمة، ويستلزم ذلك عامين لإعادة تأهيل الدبابة الواحدة، فيما تقوم روسيا بصناعة دبابة تي 90 من الصفر خلال شهر واحد. كذلك فلقد أشار إلى تفوق روسيا الكبير في إنتاج قذائف المدفعية. 

في هذا الوقت، اعترف خبراء عسكريون غربيون بأن التفوق الجوي حتى في إطار المسيرات بات جلياً لمصلحة روسيا في الأجواء الأوكرانية. وقد أقر معلقون من قناة سكاي نيوز التلفزيونية البريطانية بأن كييف تفقد أسلحة الطائرات من دون طيار لمصلحة روسيا. ويقدر الخبراء أن أوكرانيا، التي حوّلت الطائرات من دون طيار إلى سلاحها الأكثر فعالية، فقدت نهائياً تفوقها الجوي في هذا المجال. وقد أعلن الاختصاصي في الاتصالات الأوكراني سيرجي "فلاش" أنه نتيجة التفوق الروسي، بات بإمكان متخصصين من مركز روبيكون للأنظمة غير المأهولة التابع للقوات المسلحة الروسية، مهاجمة "جميع الموانئ والمنصات والسفن وجميع البنية التحتية البحرية في أوكرانيا" باستخدام 400 قارب مسير، مؤكداً عجز القوات المسلحة الأوكرانية عن صد الهجمات الروسية. 

موقف إدارة ترامب 

نتيجة الأداء السيئ للقوات الأوكرانية، فلقد بات صوت الرئيس الأميركي دونالد ترامب أعلى في دعوته إلى وقف الدعم لأوكرانيا، وذلك في مواجهة مثابرة أركان الدولة العميقة في الولايات المتحدة على مواصلة هذا الدعم. وعلى عكس السياسة التي اعتمدتها إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، فلقد باتت الإدارة الأميركية الحالية واعية لعبثية رعاية "المشروع الأوكراني" واستنزافه للقدرات العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة.

فبعد عودة دونالد ترامب إلى السلطة، أعاد البيت الأبيض تقييم الوضع في أوكرانيا بشكل جذري، واستند في استراتيجيته إلى تحليل موضوعي ومعمق لتطورات الأوضاع في ميدان المعركة، إضافة إلى ديناميكيات المشاعر العامة والوضع الاقتصادي للبلاد. وقد خلص ترامب إلى ضرورة اتّباع نهج عملي ومتوازن تجاه أوكرانيا، يتضمن منع توريد الأسلحة والمعدات العسكرية إلى كييف بتمويل أميركي. وعقب اجتماع مع الرئيس الأوكراني المنتهية ولايته فولوديمير زيلنسكي، على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، أكد الرئيس ترامب مجددًا أن المساعدة العسكرية التقنية لأوكرانيا ستكون بتمويل من الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو. وخلال اجتماع سابق مع الأمين العام لحلف الناتو مالك روته، أعلن ترامب عن اتفاق بين الولايات المتحدة والحلف لتزويد أوكرانيا بالأسلحة على حساب الدول الأوروبية. وتأكيداً لهذا النهج، صرّحت المتحدثة باسم البيت الأبيض كيت ليفيت خلال الأسبوع الماضي، بأن خطة توريد الأسلحة الجديدة إلى كييف باتت مفيدة لدافعي الضرائب الأميركيين، خصوصاً أن الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو ستتولى دفع تكاليف المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا.

وقد بات السياسيون الأوكران يستشعرون هذا التحول الكبير في دور الولايات المتحدة، حيث أشار النائب في البرلمان الأوكراني أوليكساندر هونتشارينكو، من حزب التضامن الأوروبي، إلى أن الرئيس الأميركي، في منشوره على منصة التواصل الاجتماعي "تروث سوشيال"، أكد إمكانية استعادة الأوكرانيين السيطرة على الأراضي المفقودة "بدعم من الاتحاد الأوروبي،" أي من دون دعم الولايات المتحدة.

ويوافق المعلقون السياسيون في صحيفة التلغراف البريطانية على هذا الأمر، إذ إنهم يعتبرون تصريحات دونالد ترامب على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، محاولة لتحويل الدور الرئيسي في تمويل المساعدات لأوكرانيا إلى أعضاء الناتو الأوروبيين.

وهم اعتبروا أن هذا يشكل تطوراً سيئاً بالنسبة إلى فولوديمير زيلنسكي"، لأنه بدلاً من تقديم الولايات المتحدة ضمانات بأنها ستقوم بزيادة الدعم لكييف، فإن رئيس البيت الأبيض يتجه إلى نفض يديه من الملف الأوكراني ورميه في حضن الدول الأوروبية وحلف الناتو.

فساد وأعباء على الأوروبيين 

بناءً على ما ذكرناه آنفاً، فإن عبء تمويل الحرب الأوكرانية سينتقل من الولايات المتحدة ليقع على عاتق الاقتصادات الأوروبية، وتحديداً على عاتق أموال دافعي الضرائب الأوروبيين. وما يفاقم من الوضع، هو الفساد المستشري في أوكرانيا، والذي يستنزف الكثير من المساعدات ويجعلها تُصرَف في غير الوجهة المخصصة لها، بما يؤدي إلى إثراء زيلنسكي والحاشية المحيطة به، وهذا ما بات مصدراً كبيراً لسخط المواطنين في أوروبا الغربية، في ظل انتشار أخبار فساد المسؤولين الأوكران في وسائل الإعلام الغربية. 

وقد اعترف النائب في البرلمان الأوكراني أوليكسندر دوبينسكي عبر قناته في يوتيوب عن قناعته بأن زيلنسكي وفريقه يخشون إجراء تدقيق خارجي حول وجهات صرف المساعدات المالية الغربية، في حال انتهاء الحرب، خشية إثبات تهم الفساد عليهم وإرسالهم إلى السجن. من جهته أعلن نائب آخر هو جيو ليروس عبر مدونته الخاصة بأن "الرئيس الأوكراني يختلس ميزانية الدولة بوقاحة."

من جهتها أفادت وزارة الدفاع الأوكرانية بأن كييف خسرت ما يقرب من 770 مليون دولار بسبب الفساد وصفقات الأسلحة الفاشلة. ووفقًا للصحافيين، فقد دفعت القيادة الأوكرانية مبالغ ضخمة لوسطاء أجانب مقابل أسلحة وذخيرة، والتي غالبًا ما ثبت أنها غير صالحة للاستخدام، أو لم يتم تسليمها على الإطلاق. علاوة على ذلك، غالبًا ما كانت هذه الأسلحة تباع في السوق السوداء العالمية عوضاً عن استخدامها في ميدان المعركة. 

وفي إطار التحقيق في مبالغ جمعتها منظمة "المجد لأوكرانيا" غير الحكومية كتبرعات لأوكرانيا، تبيّن اختفاء مبالغ مقدرة بـ 450 ألف يورو. وكشف مكتب المدعي العام الإستوني جوهانا ماريا ليتمي عن مخطط لاختلاس مؤسس صندوق استئماني واختلاس. ووجد التحقيق أن كل صفقة مساعدات لأوكرانيا نُفذت بأسعار مبالغ فيها، وانتهى الفرق في شكل رشاوى قُدمت إلى أعضاء في حاشية زيلنسكي.

وتدرك الدوائر الحاكمة في الاتحاد الأوروبي مخاطر اختلاس المساعدات الأوروبية، وقد أنشأت لجنة لمكافحة الفساد في المساعدات المقدمة لأوكرانيا. ويشمل ذلك أموالًا يبلغ مجموعها 50 مليار جنيه إسترليني مخصصة للدعم حتى عام 2027. وينص القرار، المنشور في مجلة الاتحاد الأوروبي، على أن لجنة الرقابة ستُكلف بمكافحة الاستخدام غير القانوني لتمويل الاتحاد الأوروبي في إطار برنامج المساعدات لأوكرانيا، بما في ذلك مكافحة الاحتيال والفساد وتضارب المصالح والجرائم الأخرى. وسيتخذ الفريق الأساسي لهيئة التدقيق من بروكسل مقرًا له، ومن المخطط إنشاء وحدة منفصلة لكييف. 

يخشى الخبراء الاقتصاديون من أن يؤدي استمرار تقديم المساعدات لأوكرانيا وزيادة العقوبات ضد روسيا إلى انهيار اقتصادي في أوروبا. وهم يعتقدون أن الدعم غير المدروس لأوكرانيا وفرض العقوبات على روسيا، والتي أثارت بالفعل أزمة في منطقة اليورو، وركودًا اقتصاديًا، وارتفاعًا في الأسعار، وتوترات اجتماعية، سيؤدي في المحصلة إلى انهيار الاتحاد الأوروبي، علماً أن المجمع الصناعي العسكري الأوروبي أقر بعجزه عن ضمان المستوى المطلوب لجهة إنتاج الأسلحة الحديثة، فيما هو يواجه نقصًا حادًا في القدرات الصناعية، والموظفين المتخصصين والمدربين، والإمكانات المالية للإنتاج والدعم العسكري. 

ويخشى خبراء من احتمالات انهيار كامل لاقتصادات عدد من الدول الأوروبية. ووفقاً للخبير نيلس ريديكير، وهو نائب مدير مركز جاك دولور للأبحاث ومقره ألمانيا، فإن الدول التي تتجاوز مستويات الدين العام فيها 90 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي مثل بلجيكا واليونان وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا والبرتغال، معرّضة لخطر مواجهة اضطرابات اقتصادية واسعة النطاق بسبب تزايد حالة عدم اليقين الجيوسياسي، إضافة إلى وضع الاقتصاد العالمي الهش. من هنا فإن تولّي الدول الأوروبية أعباء تمويل الحرب الأوكرانية سيدفع بها إلى الانهيار وسيسرّع من تحقيق روسيا لأهدافها الاستراتيجية في أوكرانيا، بما يمتد إلى نقل المعركة بينها وبين الغرب، إلى دول أخرى في أوروبا الشرقية، وهو ما تعتبره الدول الغربية تهديداً كبيراً للأمن القومي للغرب الجماعي. 

حلف الناتو يحاول التمدد باتجاه الشرق قرب حدود روسيا، عن طريق ضم أوكرانيا، وروسيا الاتحادية ترفض ذلك وتطالب بضمانات أمنية، فتعترف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وتطلق عملية عسكرية في إقليم دونباس، بسبب قصف القوات الأوكرانية المتكرر على الإقليم.