"واشنطن بوست": ترامب ينقلب على قرن من السياسة الأميركية الخارجية
خلال شهره الأول في منصبه، قلب الرئيس دونالد ترامب نهج الولايات المتحدة السياسي الذي استمر نحو قرن من الزمن تجاه الشؤون الدولية.
-
"واشنطن بوست": ترامب ينقلب على قرن من السياسة الأميركية الخارجية
نشرت صحيفة واشنطن بوست الأميركية مقالاً تحدّثت فيه عن السياسة الخارجية التي انتهجها الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال الشهر الأول من تولّيه منصبه، والتي كانت معاكسةً للسياسة الأميركية السائدة.
أدناه نصّ المقال منقولاً إلى العربية بتصرّف:
خلال شهره الأول في منصبه، قلب الرئيس دونالد ترامب نهج الولايات المتحدة السياسي الذي استمر نحو قرن من الزمن تجاه الشؤون الدولية. وقد تحرّك ترامب بسرعة وطاقة لإعادة صياغة دور بلاده في العالم، وكان ذلك واضحاً في موقفه تجاه الحرب بين روسيا وأوكرانيا، حيث يحتضن روسيا وينتقد أوكرانيا، متهماً رئيسها فولوديمير زيلينسكي باستفزاز الغزو الروسي، ولم يتورّع عن إهانة الحلفاء الأوروبيين، الذين اعتمدوا لعقود من السنوات على الولايات المتحدة لكبح جماح القوة الروسية.
في المحصّلة، النتيجة كانت التنازل عن النفوذ لموسكو. وبحسب ما يقول الدبلوماسيون والمحلّلون، ربما قد تكون هذه التوجّهات مجرّد البداية. وفي أسوأ الأحوال، قد تشجّع استراتيجية ترامب القوى العالمية الأخرى، ولا سيما الصين، على تبنّي سياسات شرسة تجاه جيرانها، الأمر الذي يعاكس ما يقوله المقرّبون من ترامب بأنّه سيكون محور السياسة الخارجية الأميركية.
لقد ذهب ترامب إلى أبعد ممّا فعله في ولايته الأولى لإعادة تعريف من تحتضنه الولايات المتحدة ومن تحاربه، مما أثار دهشة زعماء العالم الآخرين الذين اعتقدوا أنهم يعرفون كتاب ترامب وكانوا يعملون لإرضائه. فالرئيس الجديد يرفض النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية الذي يمنع الاعتداءات العالمية، وبدلاً من ذلك يتبنّى ترامب أفكاراً قديمة كثيراً، تسمح للقوى التي لديها قوة عسكرية أن تفرض مجالات نفوذ إقليمية واسعة، وأن تهيمن على جيرانها. ويقول المحلّلون، يبدو أنّ ترامب يعيد عقارب الساعة إلى الوراء في تاريخ العالم، حين كانت الدول ذات الجيوش الأكبر أداة لبناء الإمبراطوريات، التي توسّع أراضيها بالإكراه، وتفرض الجزية على الدول الأضعف.
عن ذلك تقول روزا بلفور، مديرة مكتب مؤسسة "كارنيغي" للسلام الدولي في بروكسل إنّ "هذا النهج السياسي التقليدي القديم للتأثير في واقع الأمر على المناطق الجغرافية الأقرب إلى الإمبراطورية. مثل، المحادثة بين ترامب وبوتين، تظهر هذه المسألة بوضوح حيث يُقَسَّم العالم من قبل قوى مختلفة".
لقد فاجأ توجّه ترامب حلفاء الولايات المتحدة قبل غيرهم. ومعظمهم يرى باندفاعة ترامب للتوصّل إلى اتفاق مع روسيا بشأن أوكرانيا، ورفضه الواضح لدور واشنطن الطويل الأمد في الحدّ من قوة الكرملين، ما يقلّل من نفوذ الولايات المتحدة في العالم بدلاً من توسيعه.
في الأسبوع الماضي، قال رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية البريطاني السابق "إم آي 6" أليكس يانغر في مقابلة صحافية، "نحن في عصر جديد حيث لن تُحَدَّد العلاقات الدولية بشكل عامّ من خلال القواعد والمؤسسات المتعدّدة الأطراف. بل ستُحَدَّد من خلال الزعماء الأقوياء والصفقات. وهذه هي عقلية دونالد ترامب، وبالتأكيد عقلية بوتين. والرئيس الصيني شي جين بينغ، ولا أعتقد أنه يمكن العودة إلى ما كنّا عليه من قبل".
كانت الإدارات الأميركية السابقة قد سعت إلى إعادة تقييم الدور الأميركي في العالم، خاصّة بعد تجاوزات الرئيس جورج دبليو بوش، الذي قاد البلاد إلى حربين في أفغانستان والعراق بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001. وقد عمل الرئيس باراك أوباما على إعادة ضبط العلاقات مع فلاديمير بوتين، بعد غزو روسيا لجورجيا المجاورة، وما لبث أن تراجع حين استُخدمت في سوريا الأسلحة الكيميائية. وعلى التوالي كان قرار إدارة الرئيس جو بايدن بسحب القوّات الأميركية من أفغانستان بوتيرة سريعة أربكت الحلفاء وفرضت عليهم ابتكار وسائل للتعامل مع القرار المتسرّع.
مع ذلك، مواقف ترامب تندرج ضمن فئة مختلفة عن سابقيه من الرؤساء، كما يقول العديد من صنّاع السياسات الذين صدموا من سرعة ترجمة مواقف ترامب وتحوّلها إلى سياسة أميركية ملموسة خلال شهر واحد فقط.
أحياناً، يقدّم ترامب رؤى متناقضة لسياسته الخارجية. فقد اقترح أن تحكم أميركا العالم من خلال قوّتها الاقتصادية واستخدامها كهراوة من خلال التعريفات الجمركية. وفي الوقت عينه، عبّر عن موقف أكثر انعزالية من خلال شعار حملته الانتخابية "أميركا أوّلاً"، لكنّه يقلّص بشكل نشط البصمة الأميركية العالمية بالتنازل عن التأثير في المنافسين طالما ابتعدوا عن الحدود الأميركية. وفي الأسبوع الماضي، قال ترامب إنّ الحرب في أوكرانيا "لا تؤثّر فينا بشكل كبير، ويفصلنا عنها محيط كبير وجميل". وبهذا فقد رفض ترامب عقيدة آمنت بها أميركا لأجيال، تعتبر أنّ المصالح الأميركية تتأثّر عندما يقرّر منافس عالمي القيام بعملية غزو إقليمية.
وكان قد تحوّل بعض مساعدي ترامب إلى منتقدين له خلال ولايته الأولى، وحذّروا من الإدلاء بتصريحات مبالغ فيها حول فلسفة الرئيس في الحكم. ومنذ أيّام كتب مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون في مجلّة "ناشيونال ريفيو" عن ترامب، أنّه" لا يتبنّى فلسفة شاملة للأمن القومي، ولا يضع استراتيجية كبرى. وقراراته معاملاتية، وارتجالية، وقصصية، ومتباعدة".
يقول ترامب وأنصاره إنهم ببساطة يعيدون تأكيد أولوية المصالح الأميركية بعد عقود من الزمن فقد خلالها "الديمقراطيون" و"الجمهوريون"، الصلة مع الأميركيين العاديّين، خاصّةً باتّخاذ القرارات بشأن دور واشنطن في العالم. ويقولون إنّ الرؤية الضيّقة للمصالح الأميركية ستساعد على الحفاظ على الموارد واستفادة المواطنين والشركات الأميركية من خلال الشروط التجارية الأفضل على المستوى الدولي.
وكان مبعوث ترامب للمهامّ الخاصّة ريتشارد غرينيل، قد قال مؤخّراً، في عهد دونالد ترامب، لا نغيّر الأنظمة، وسنتعامل مع البلدان التي أمامنا كما هي، ومعيارنا ليس كيف نجعل هذا البلد أفضل، بل كيف نجعل أميركا أفضل وأقوى وأكثر ازدهاراً للناس الذين يعيشون هنا. كذلك، لم يتأخّر ترامب عن مهاجمة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي واصفاً إيّاه بالطاغية غير المنتخب، وزعم زوراً أنّ أوكرانيا هي من بدأت الحرب، ورفض دعم بيان يتهم الكرملين ببدء العدوان. كما طلب من كييف الموافقة على صفقة ضخمة تسمح للولايات المتحدة بالتنقيب عن المعادن الطبيعية كتعويض عمّا قدّمته لأوكرانيا من مساعدات في أثناء الحرب. كما خفض ميزانية البنتاغون بطريقة من المتوقّع أن تؤدّي إلى سحب الآلاف من القوّات الأميركية من أوروبا.
وقال ترامب في "مؤتمر العمل السياسي المحافظ" في الأسبوع الماضي، سأحاول إنهاء كلّ هذا الموت. لذا فنحن نطلب المعادن النادرة والنفط، أيّ شيء يمكننا الحصول عليه. لكننا نشعر بالغباء. هذه أوروبا، وكما تعلمون، هذا يؤثّر في أوروبا ولا يؤثّر بالولايات المتحدة فعليّاً". كذلك، أشاد بزعماء اليمين المتطرّف في جميع أنحاء العالم الذين حضروا التجمّع. ولقد حيّر هذا النهج حتّى الجمهور المقرّب من ترامب.
حين ضغط براين كيلميد من قناة "فوكس نيوز" على نحو متكرّر على ترامب خلال مقابلة تلفزيونية، للاعتراف بأنّ روسيا هي من بدأ الحرب، تهرّب الرئيس من الإجابة في كلّ مرّة. وقال: "لقد سئمت من الاستماع إلى هذا الكلام، وسأخبرك بما حدث. لقد نظرت في الأمر ما يكفي". ورفض ترامب شكوى زيلينسكي الأسبوع الماضي بشأن استبعاده من المحادثات بين الولايات المتحدة وروسيا التي كانت تهدف إلى إحلال السلام في الأراضي الأوكرانية. وأضاف ترامب "أنّه يشعر بالملل من هذا والجميع كذلك".
وبعد أن جمّد ترامب الجهود الأميركية في مختلف أنحاء العالم لمكافحة النفوذ الروسي والصيني من خلال المساعدات الإنمائية، وأعلن عن رغبته في ضمّ جزيرة غرينلاند الدنماركية وكندا وقناة بنما، قال حلفاء الولايات المتّحدة إنّ الدروس التي يتعلّمونها من الشهر الأوّل لترامب في منصبه قد تكون أكبر من موقفه الرافض لاستمرار مساعدة أوكرانيا وتعاطفه مع وجهة بوتين التي ترى أنه يجب عدم السماح لكييف بالانضمام إلى حلف "الناتو".
وفي السياق نفسه، تبنّى أعداء الولايات المتّحدة اللدودين خطاب ترامب. وكتب ديمتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي معلّقاً على منشور ترامب الذي وصف زيلينسكي بأنّه "طاغية بلا وطن"، أنّ الرئيس ترامب محقّ بوصفه "المهرّج المفلس" بنسبة 200%، و"لو أخبرني أحد قبل أشهر أنّ هذه هي كلمات صادرة عن رئيس أميركي لاعتبرتها مزحة، وضحكت بصوت عال".
وبعد انتقاد ترامب أوكرانيا الأسبوع الماضي، رفضت إدارته السماح باستخدام لغة تصف روسيا بـالمعتدي في بيان صادر عن "مجموعة السبع"، كما قال دبلوماسيّان أوروبّيان كبيران، وطالبت إدارة ترامب بدلاً من ذلك بلغة أكثر غموضاً. وعلى نحو مماثل، ضغطت واشنطن في الأمم المتّحدة على أوكرانيا والاتّحاد الأوروبيّ لسحب قرار يخلّد الذكرى الثالثة لغزو روسيا لأوكرانيا، والذي يشير إلى الحرب باعتبارها عدواناً. وبدلاً من ذلك، وزّعت إدارة ترامب قراراً منافساً يدين خسارة الأرواح في "الصراع الروسي الأوكراني"، ممّا وضع البلدين على قدم المساواة، وأدّى إلى فوز ترامب بإشادة من روسيا.
يشعر العديد من الأوروبيين بالحيرة بشأن استراتيجية ترامب، مع أنّه لم يكن أحداً يتوقّع سوى عدد قليل من صنّاع السياسات أن تنضم أوكرانيا إلى حلف "الناتو" في أيّ وقت قريب. كما لم ينظروا إلى استعادة أوكرانيا لأراضيها بالكامل كهدف واقعي قصير الأجل. لكنّهم يقولون إنّ رفض هذه الأفكار منذ البداية، كما فعل ترامب، أدّى إلى القضاء على أكثر أوراق التفاوض قيمة التي كانت لدى أوكرانيا وداعميها بمواجهة روسيا.
ويقول بعض المحلّلين إنّ نهج ترامب قد يكون مساراً قيد التنفيذ. ويقول كليفورد ماي، رئيس "مؤسّسة الدفاع عن الديمقراطية" التي تتّخذ من إيران موقفاً متشدّداً إنّ "ترامب ليس شخصاً يقول هذه هي سياستي الخارجية، أو هذه هي عقيدتي. علينا أن نرى ما سيحدث، ومن يؤثّر فيه وبأيّ طرق. لا أعتقد أنّ جميع مستشاريه يتفقون معه تماماً".
حتّى كبار مسؤولي الأمن القومي في إدارة ترامب اضطرّوا إلى نفي تصريحات سابقة كانت تعتبر في السابق غير مثيرة للجدل. وقد سئل مستشار الأمن القومي لترامب، مايكل والتز، عمّا إذا كان لا يزال يؤمن بما كتبه في مقال رأي عام 2023 بأنّ بوتين هو المسؤول عن الحرب، فأجاب "لا ينبغي أن يفاجئك أنني أشارك الرئيس تقييمه لجميع أنواع القضايا، وما كتبته كان بصفتي عضواً سابقاً في الكونغرس. والآن أشارك الرئيس تقييمه هو أنّ الحرب يجب أن تنتهي".
إِذا كان الهدف هو "جعل أميركا عظيمة مرّةً أخرى"، فلا بدّ أن نحدّد ما تعنيه العظمة. كيف تبدو أميركا العظيمة، من حيث القوّة الصلبة، أو من حيث زعامتها ونفوذها في العالم، أو من حيث ما إذا كان السلام الأميركي سيستمرّ، وماذا عن النظام العالمي الذي تقوده أميركا، هذه كلها أسئلة خطيرة، ويعتقد أنّها لم تحلّ بعد. بينما، يرى بعض الحلفاء أنّ مواقف ترامب تشكّل تهديداً وجوديّاً لحلف شمال الأطلسي. وقد صرّح فريدريش ميرز الذي يتّجه ليصبح المستشار الألماني المقبل المحتمل في مقابلة إنّ "الضمانات الأمنية التي يقدّمها حلف شمال الأطلسي لم تعد موثوقة. ويتعيّن علينا أن نكون مستعدّين لحقيقة مفادها أنّ دونالد ترامب لن يقبل من الآن فصاعداً الالتزام بمعاهدة حلف شمال الأطلسي.
نقله إلى العربية: حسين قطايا.