"فورين بوليسي": ما علاقة القهوة بالاستعمار والديمقراطية؟

ارتفع السعر الحالي لرطل من حبوب قهوة أرابيكا في أسواق السلع العالمية إلى 3.84 دولارات أميركية، وهذا أعلى سعر يُسجّل على الإطلاق.

  • "فورين بوليسي": لماذا ترتفع أسعار القهوة؟ وما علاقتها بالاستعمار؟

مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر تقريراً تتحدّث فيه عن ارتفاع سعر القهوة، وتأثيرات ذلك على شاربي القهوة في جميع أنحاء العالم، وتطرّقت إلى علاقة القهوة بالاستعمار والديمقراطية.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرّف:

وصل السعر الحالي لرطل من حبوب قهوة أرابيكا في أسواق السلع العالمية إلى 3.84 دولارات أميركية. وهذا أعلى سعر يُسجّل على الإطلاق ويُعدّ نعمة بالنسبة لمنتجي القهوة. إلا أنّ أسعار السلع الرئيسة هذه قد تطال قريباً جيب شاربي القهوة في جميع أنحاء العالم. فكيف يؤثّر ذلك على مزارعي البن وعلى التجار  في جميع أنحاء العالم؟ وكيف لا يزال تاريخ الاستعمار واضحاً في تجارة القهوة؟ وما الرابط بين القهوة وبداية الديمقراطية؟

ما الذي يجعل القهوة سلعة عالمية؟

السلع الأساسية، بشكل عامّ، هي أيّ سلعة يتمّ شراؤها وبيعها وتستخدم لتصنيع سلع أخرى. وهي تشكّل مدخلات في إنتاج سلع وخدمات أخرى بدلاً من السلع الجاهزة المباعة للمستهلكين، ولا سيما تلك التي تحمل اسم علامة تجارية. لذا فإنّ السلعة تشير أيضاً إلى قابلية التبادل. فعلى سبيل المثال، عندما نتحدّث عن سوق النفط باعتباره السلعة الأساسية الأضخم، سيقول لك جميع الخبراء المتخصصين في مجال النفط إنّ النفط الفنزويلي يختلف تماماً عن نفط تكساس، الذي يختلف بدوره عن خام برنت. إلا أنّ كلّ واحدة من هذه السلع تعدّ بمثابة سلعة يتمّ تداولها، ولا تحتاج إلى الاستفسار عن منصة الحفر المحدّدة التي تأتي منها. وبالتالي، فإنّ النفط يعتبر سلعة أساسية، وكذلك الفحم وخام الحديد والقهوة والكاكاو والقمح، وأيضاً بعض شرائح الذاكرة العامّة على عكس رقائق "Nvidia" المتطورة، حيث يكون مصدر الشريحة واسم الشركة المصنّعة مهمّين. 

إنّ الأخبار التي تعرض عن ارتفاع الأسعار مفيدة لمزارعي البن في جميع أنحاء العالم. لكنّ المشكلة في صغار التجار العالقين في المنتصف. فإذا كنت تمتلكين مزرعة بن، ستحصلين على مصدر وعلى مشترٍ كبير. وفي الوقت الذي تحاول شركات بيع القهوة الكبيرة المطالبة بسعر ثابت، يقوم المزارعون برفع الأسعار؛ فيعلق المصدر في المنتصف. ويتعرّض مصدّرو البن لضغوط هائلة لأنه يتعيّن عليهم جمع الديون لدفع مستحقّات المزارعين، ولا يتمكّنون دائماً من استردادها عندما يبيعون في السوق. وبالتالي، فهو سوق يتعرّض لضغوط كبيرة، ويمثّل اللاعب الأكبر فيه 3% منه. 

القهوة تاريخياً

من الناحية التاريخية، بالنسبة للقهوة، نعتقد أنه تمّ استخدامها للمرّة الأولى، وفقاً للأسطورة، من قبل راعي الماعز في إثيوبيا الذي اكتشف تأثير القهوة المنشّط. كما كان يستخدمه الصوفيون في اليمن، إلا أنّ مصدرها الرئيس هو القرن الأفريقي. وقد غدت سلعة أساسية في اليمن وأجزاء أخرى من الشرق الأوسط ثم انتشرت في الإمبراطورية العثمانية ومنها إلى أوروبا الحديثة المبكرة. في البداية، كان الأمر مثيراً للجدل، وكان على الكنيسة الكاثوليكية أن تجري نقاشاً كبيراً حول هذا الموضوع في أواخر القرن السادس عشر. وقد أجاز البابا كليمنت السابع شرب القهوة، ولهذا السبب تمتنع بعض الطوائف المسيحية مثل كنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة، المورمون، عن شرب القهوة لأنها تعتقد بأنها منبّه غير مسموح به. وبحلول القرن السابع عشر، وصلت القهوة إلى إيطاليا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط والهند وجزر الهند الشرقية وأوروبا الغربية. وبدأ افتتاح المقاهي في لندن في خمسينيات القرن السابع عشر، وكان أوّلها مقهى "Pasqua Rosée"، الذي تمّ افتتاحه عام 1652. وفي القرن التاسع عشر، وصلت القهوة إلى الأميركيّتين. وهذا هو الجانب الاستهلاكي من السلعة.

أما الجانب الآخر من السلعة، فهو الإنتاج بالجملة. وجزء من ذلك مدفوع بتاريخ الانتشار الخارجي لإنتاج القهوة من القرن الأفريقي، وشرق أفريقيا، إلى جزيرة جاوة في عام 1690 من قبل المستعمرين الهولنديين إلى المارتينيك وسانت دومينغ (هايتي الآن)، ومن قبل الفرنسيين ثم البرازيل، التي أصبحت في أربعينيات أو خمسينيات القرن التاسع عشر أكبر منتج للبن في العالم، مع نحو 40% من الإنتاج. وكان هذا ممكناً بسبب اعتماد قطاع القهوة على العبودية والرقّ. وبحلول النصف الأول من القرن التاسع عشر، شارك نحو 1.5 مليون من العبيد في إنتاج القهوة البرازيلية. وعندما تمّ حظر تجارة العبيد من الخارج، استمرّت المزارع البرازيلية في استرقاق العبيد من السكان المحليين إلى أن تمّ منع العبودية أخيراً في البرازيل في عام 1888. 

وحتى يومنا هذا، لا تزال البرازيل الدولة المنتجة المهيمنة مع نسبة 37%. وقد يخيّل إليك، إستناداً إلى التاريخ، أنّ كولومبيا أو إندونيسيا أو إثيوبيا تحتلّ المرتبة الثانية عالمياً. لكن فيتنام هي ثاني أكبر منتج عالمي للقهوة مع نسبة 17%. ويصل إنتاج كولومبيا وإندونسيا للقهوة إلى 7% و8% على التوالي. أما إثيوبيا، الموطن الأصلي للقهوة، فلا يتعدّى إنتاجها نسبة 4%. وهذا الأمر في الواقع يُعدّ مشكلة كبيرة الآن مع الاتحاد الأوروبي، لأنّ القهوة من إنتاج الفلاحين على نطاق صغير في إثيوبيا والاتحاد الأوروبي يفرض قواعد استخدام الأراضي التي تشكّل عبئاً عليهم.

هل لا تزال بصمة الاستعمار واضحة في تجارة البنّ في عصرنا الحالي؟

لا يزال الاقتصاد العالمي بأكمله، إلى حد كبير، مرآة للعصر الاستعماري. فأغنى بلدان العالم هي نفسها الجهات الاستعمارية، وأفقر البلدان هي ضحايا السياسات الاستعمارية؛ وهذا أمر مسلّم به وملفت جداً. وبالنسبة لبعض السلع، استقرّت تلك التأثيرات، كما هو الحال بالنسبة للهواتف المحمولة. وكما هو معلوم، تتمتع منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بتغطية كاملة للهواتف المحمولة الآن، على الرغم من أنها موطن لأفقر الناس في العالم، ولم تجد المكان الذي تحتاجه في التقسيم العالمي للعمل. وفي مجالات معيّنة، في مجالات محدودة من التكنولوجيا، تراها تنافس. ولكن في جوانب أخرى، في ما يتعلّق بالمعدات الرأسمالية الأساسية، ليست حاضرة. وكذلك الأمر في ما يتعلّق بأنواع الاستهلاك المختلفة، مثل استهلاك القهوة. وهذا هو المكان الذي ترين فيه أنّ مخلّفات الاستعمار لا تزال موجودة. 

أعتقد بأنه يجب القول إنّ القهوة مرتبطة في الأساس بالأنماط الثقافية. لذلك، يرتفع معدل استهلاك القهوة بشكل كبير في شمال أوروبا بشكل خاص. وهذه أرقام جنونية! فمثلاً، تسجّل فنلندا الرقم القياسي العالمي في استهلاك القهوة الذي يبلغ 26 رطلاً من القهوة للفرد سنوياً، أي نصف رطل من القهوة للشخص الواحد في الأسبوع. وهذا أمر جنوني بالفعل! ويجب عليهم شربها بشكل مستمر. وتحتلّ البرازيل المركز الـ14 بواقع 13 رطلاً للفرد. أما الولايات المتحدة، فهي متواضعة نسبياً، حيث جاءت في المركز الـ25 بـ9 أرطال. لكنّ الانتشار الأوسع للقهوة يظهر في الصين، حيث أصبحت رمزاً لمكانة الشباب الصيني، كما شاي الفقاعات؛ إلا أنّ القهوة تُعدّ أحدث أنواع الاستهلاك على النمط الغربي. وهذا سوق عملاق لأنّ الصينيين يستهلكون حالياً نحو نصف رطل من القهوة للفرد. وفي المدن الكبرى، يستهلك الفرد أكثر من ذلك بكثير.

ما هو الدور المحدّد الذي تؤدّيه القهوة بصعود الليبرالية السياسية؟

كتب الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس عن مدى ارتباط القهوة ارتباطاً وثيقاً بصعود الليبرالية السياسية في الغرب عبر المقاهي كأماكن بدأ فيها الناس الاجتماع والتحدّث عن السياسة.

هذه هي الأطروحة الكلاسيكية الثانية لهابرماس، التحوّل الهيكلي للمجال العامّ (The Structural Transformation of the Public Sphere). بالنسبة لهابرماس، كان ذلك نوعاً مهماً من التوسّع في النقاش الماركسي لأنّه أراد أن يُظهر أنّ التنمية الحديثة والتنمية الرأسمالية قدّمت وعوداً للخطاب الديمقراطي المنفتح لكنها فشلت في الوفاء بها. وكانت حجّته أنّ الرأسمالية الحديثة المبكرة، من خلال تجارة القهوة هذه، فتحت مساحات للخطاب عبر المقاهي التي كانت تنتشر في لندن منذ منتصف القرن السابع عشر. فكانت هذه الأماكن التي يمكنك الذهاب إليها واحتساء كوب من مشروب منشّط ولكنه غير مُسكر. وكانت هذه ابتكارات جديدة، وأماكن جديدة للقاء، حيث تحقّق هذا الاختلاط الأرستقراطي مع البرجوازية التجارية الجديدة. وهذا، بالنسبة لهابرماس، هو ما يجعلها مركزية للغاية.

وقد تمّ الاعتراف بها في ذلك الوقت. وبحلول العقد الأول من القرن الثامن عشر، كان هناك 3 آلاف مقهى في جميع أنحاء بريطانيا. وكانت الحكومة البريطانية قلقة للغاية بشأن هذا الأمر. وفي عام 1675، قام الملك تشارلز الثاني، الحاكم الذي استعاد منصبه بعد الثورة الإنكليزية، بقطع رأس والده؛ وعندما عاد إلى لندن، أصدر مرسوماً يقضي بمنع المحادثات المعارضة في المقاهي لأسباب معيّنة. فخلال الصراع بين بريطانيا ومستعمراتها في أميركا الشمالية بعد 100 عام، أدّت المقاهي مرة جديدة دوراً مهماً للغاية. وبطبيعة الحال، أدرك الناس أنّ الشاي والضرائب المفروضة عليه أصبح من القضايا الرئيسة التي أشعلت الغضب في نفوس المستعمرين في نيو إنغلاند ضدّ لندن. ونتيجة لذلك، أعلن الكونغرس القاري أنّ القهوة هي المشروب الوطني لأميركا احتجاجاً على الضرائب البريطانية. وفي كلّ من فيلادلفيا وبوسطن وويليامزبرغ، كانت المقاهي بمثابة مراكز للغليان السياسي في الولايات المتحدة في القرن الثامن عشر. وهذا هو الدور نفسه الذي أدّته خلال الثورة الفرنسية بعد عقدين من الزمن. بالإضافة إلى ذلك، يرتبط التاريخ الاستعماري للولايات المتحدة وتاريخها الثوري ارتباطاً مباشراً بالقهوة. ففي تاريخ الثورة الليبرالية أو في أوائل القرن الحديث والقرن الثامن عشر، أدّت القهوة دوراً مهماً للغاية.

نقلته إلى العربية: زينب منعم.