"ذا ناشونال إنترست": الحرب الباردة للذكاء الاصطناعي… هل هناك فائز؟

يٌحاكي سباق الذكاء الاصطناعي منافسات الحرب الباردة، لكنه يفتقر إلى خط نهاية واضح. وتُهدد الإدارة المُجزأة وسرديات المحصلة الصفرية بحجب المنهجيات الشاملة والتعاونية للابتكار.

  • "ذا ناشونال إنترست": ما بعد السباق الفضائي.. التعاون والمنافسة في مستقبل إدارة الذكاء الاصطناعي

مجلة "ذا ناشونال إنترست" الأميركية تنشر تقريراً مطوّلاً يتناول السباق العالمي في مجال الذكاء الاصطناعي وأبعاده السياسية والتكنولوجية والأخلاقية، من خلال تحليل سرديات "المحصلة الصفرية" التي تطرح الذكاء الاصطناعي كسباق بين قوى عظمى، مقابل الدعوات إلى رؤية أكثر شمولاً وتعاوناً.

المقال يسأل: هل الذكاء الاصطناعي سباق لا بد من الفوز فيه أم مشروع عالمي مشترك؟ ويطرح أنّ مستقبل البشرية يتوقف على تبني الخيار الثاني.

أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:

هل لسباق الذكاء الاصطناعي نهاية؟ إنّ السعي الدؤوب وراء الذكاء الاصطناعي يُعيد تشكيل عالمنا، ويتحدى أخلاقياتنا، ويُعيد تعريف معنى أن تكون إنساناً، ولكن ما الذي يعنيه سباق الذكاء الاصطناعي للجغرافيا السياسية؟ وما الذي نتسابق من أجله أو نحوه؟

الذكاء الاصطناعي وعقلية المحصلة الصفرية

في 23 تموز/ يوليو، أصدرت الحكومة الأميركية وثيقة بعنوان "الفوز بالسباق: خطة عمل أميركا للذكاء الاصطناعي". تحدد هذه الخطة أكثر من 90 إجراءً سياسياً فيدرالياً ستتخذه الحكومة الأميركية خلال الأشهر المقبلة بهدف واضح هو "الفوز" بالذكاء الاصطناعي. ويتجذر مفهوم "سباق الذكاء الاصطناعي" في المفاهيم الغربية للرأسمالية التي يستحوذ فيها الفائز على كل شيء، والتي تُصوّر الابتكار على أنه لعبة محصلتها صفر. وعلى الرغم من أن هذا النموذج قد يعكس عناصر من الحرب الباردة، فإنه لا يتناسب مع تعقيدات التكنولوجيا التي تتطلب التعاون بين القطاعات والثقافات المختلفة والتفكير الأخلاقي الدائم.

ويقول صنّاع القرار من كلا الطرفين إن الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي يجب أن "يفوز به" من يستحقه، في حين يُروّج قادة الأعمال والمبتكرون لرواية مفادها أن الذكاء الاصطناعي سيعمل على تمكين الجميع بالمعنى الأوسع. ومن خلال تصوير عملية تطوير الذكاء الاصطناعي كمنافسة محفوفة بالمخاطر، يبرز فيها رابحون وخاسرون، تُفاقم هذه السردية المخاوف من التخلف عن الركب أو هيمنة الآخرين، ما قد يُضرّ بالريادة التكنولوجية الأميركية على المدى البعيد، فهل ثمة "خط نهاية" للابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي أم أن التقدم أشبه بسلسلة متصلة؟

دروس مستقاةٌ من السباق الفضائي

غالباً ما يتم مقارنة سباق الذكاء الاصطناعي بالسباق الفضائي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، كجزء من سردية أوسع تُبرز كيف يُمكن للمنافسة ذات المُحصّلة الصفرية أن تُحفّز الابتكار السريع وتُفاقم التوترات العالمية في الوقت نفسه. خلال الحرب الباردة، انخرطت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في منافسة ثنائية للسيطرة على الفضاء، مدفوعةً بالفخر الوطني والمخاوف الأمنية. وفي حين أن سباق الفضاء حقق إنجازات بارزة وحفّز في نهاية المطاف اتفاقيات دولية مثل معاهدة الأمم المتحدة للفضاء الخارجي في عام 1967، والتي أعلنت الفضاء "محمية للبشرية جمعاء"، فإن الخطاب المعاصر يعكس تراجعاً عن روح التعاون تلك. وتؤكد التصريحات التي أدلى بها المسؤولون الأميركيون في هذا العام ضرورة العودة إلى القمر قبل الصين، وتجسد عودة القومية الاستراتيجية. على سبيل المثال، أشار سكوت بيس، المدير التنفيذي للمجلس الوطني للفضاء الأميركي في عهد ترامب، إلى أنّ "الفضاء الخارجي ليس مشاعاً عالمياً، ولا تراثاً مشتركاً للبشرية، ولا ملكاً مشتركاً ولا منفعة عامة". وبالتالي، يعكس هذا التأطير منطق المحصلة الصفرية المطبق حالياً على الذكاء الاصطناعي، إذ يتم تهميش مفاهيم مثل الموارد العالمية المشتركة لمصلحة الهيمنة والسيطرة الوطنية.

ما وراء تشبيهات الحرب الباردة: طبيعة التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي

كما أثار سباق الفضاء رؤى التقدم العلمي والمخاوف من وقوع كارثة كوكبية، فقد أصبح سباق الذكاء الاصطناعي ساحة معركة للمستقبل التنافسي، فقد تصوّرَت الطوباوية في حقبة الحرب الباردة الفضاء كحدود مشتركة، في حين حذرت المخاوف الديستوبية من التدمير المتبادل الحتميّ. واليوم، يثير الذكاء الاصطناعي تناقضات مماثلة؛ فبينما تلوح وعود التمكين والوفرة في الأفق، تبرز تحذيرات من المراقبة وعدم المساواة والمخاطر الوجودية. وتكشف كلا الحقبتين كيف يُمكن للطموح التكنولوجي أن يُفاقم القلق الجماعي، وخصوصاً عندما يتم تهميش التعاون العالمي بسبب التنافس الاستراتيجي. ويتسم السرد العام الحالي للمستقبل بالشك والقلق والإدارة القائمة على رد الفعل، التي يُحركها سيناريوهات افتراضية بدلاً من الحقائق الراهنة التي تُلاحظها غالبية سكان العالم.

ومع ذلك، ينهار هذا التشبيه عند التفكير في نطاق الابتكار ووتيرته. على سبيل المثال، من المتوقع أن يمتد تأثير الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي إلى جميع قطاعات الاقتصاد والمجتمع، في حين اقتصر تأثير السباق الفضائي إلى حد كبير على قطاعي الاتصالات والفضاء الجوي. وقد تطور التقدم التكنولوجي في حقبة الحرب الباردة على مدى سنوات وعقود، محققاً إنجازاتٍ بارزة، مثل دخول المدار أو الهبوط على سطح القمر. وقد أتاحت هذه الفترات خاتمة وإقراراً عاماً. في المقابل، يتسم تطوير الذكاء الاصطناعي بالاستمرارية والانتشار، إذ يتطور في أيام ودقائق من دون نقطة نهاية محددة، ما يُصعّب تحديد الفائز أو قياس النجاح بشكل مطلق. وعلى الرغم من أن ميزة المبادرة في سباق الفضاء أدت إلى تحقيق إنجازات تشغيلية بارزة، فإن الميزة في سباق الذكاء الاصطناعي قد تكون عابرةً نظراً إلى طبيعة تطوره.

ويتجلى هذا الغموض بشكل خاص في المناقشات حول الذكاء الاصطناعي العام (AGI)، الذي يُوصف غالباً بأنه هدف سباق الذكاء الاصطناعي. وعلى الرغم من أن الكثير يعتبره نظام ذكاء اصطناعي قادراً على فهم المعرفة وتعلمها وتطبيقها عبر مجموعة واسعة من المهام بمستوى شبيه بالمستوى البشري، لا يوجد تعريف متفق عليه عالمياً لهذا المفهوم، ويستمر الجدل الدائر بين الباحثين حول ما إذا كان من الممكن تحقيقه وكيف ومتى. إن الغموض المحيط بتعريف الذكاء الاصطناعي العام يعني أنه قد يكون تحقيقاً تدريجياً أكثر منه إنجازاً حاسماً. وكما نرى بالفعل، فإن كل ابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي يبني على الإنجازات السابقة، ممهداً بذلك الطريق لإمكانيات وتطبيقات جديدة، ويخلق دورة مستمرة من التحسين والتطوير. كما أنّ اعتبار الذكاء الاصطناعي العام هدفاً نهائياً يبسط حقيقة الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي بشكل مبالغ فيه، باعتباره مسعى معقداً ومتطوراً مدفوعاً بإنجازات متكررة وتُشكله جهات فاعلة عالمية متنوعة في المجالات العامة والخاصة والمدنية.

الإدارة العالمية المجزّأة

مع تسارع وتيرة هذا الابتكار من دون تحديد نقطة نهاية واضحة، يتفتت مشهد الإدارة العالمية للذكاء الاصطناعي بدلاً من أن يتقارب، بحيث تسعى الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي إلى تطوير أجندات تنظيمية وتكنولوجية مختلفة. ويسعى الاتحاد الأوروبي، بهدف تكرار نجاحه في تطبيق اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR)، إلى إعطاء الأولوية لإدارة المخاطر ووضع معيار عالمي للسلامة، إلا أن متطلباته الصارمة قد تواجه صعوبة في مواكبة الابتكارات السريعة. ويمزج النموذج الصيني الذي تتولى قيادته الدولة، والمتأصل في "القيم الاشتراكية الجوهرية"، بين السيطرة المركزية والتوسع الصناعي السريع من خلال شركات مثل "تينسنت" (Tencent) و"بايت دانس" (ByteDance) و"علي بابا" (Alibaba). وعلى الرغم من الجهود الأميركية المبذولة لكبح التقدم الصيني من خلال فرض ضوابط تصدير، تواصل شركات مثل "ديب سيك" (DeepSeek) الابتكار متجاوزةً كلّ القيود. وفي الوقت نفسه، تتفوق الولايات المتحدة في تطوير النماذج الرائدة والاستثمار الذي يقوده القطاع الخاص، ولكن المشهد التنظيمي المجزأ فيها، والذي يتميز بالفجوات القطاعية والمبادرات على مستوى الولايات مثل مشروع قانون مجلس الشيوخ رقم 1047 في كاليفورنيا، يعوق قدرتها على خلق رؤية عالمية متماسكة للابتكار المسؤول في مجال الذكاء الاصطناعي.

وكان قرار الولايات المتحدة عام 2022 بفرض قيود تصدير أحادية الجانب على الرقاقات المتطورة وبرامج الذكاء الاصطناعي بمنزلة إشارة واضحة كانت لها عواقب وخيمة على قطاع التكنولوجيا؛ فبدلاً من توحيد المعايير العالمية، دفع هذا القرار الاتحاد الأوروبي إلى سنّ قانون الرقاقات الأوروبي عام 2024. وقد أدى ذلك إلى تداخل أنظمة الرقابة على الصادرات، ما أجبر الشركات على إثبات امتثالها لقواعد دولية متعددة.

وبالعودة إلى الولايات المتحدة، أدى غياب خارطة طريق فيدرالية واحدة إلى ظهور تحديات خاصة بها. ففي السنة المالية 2025، أطلقت 5 وكالات فيدرالية أميركية، بما في ذلك مؤسسة العلوم الوطنية (NSF)، ووكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة (DARPA)، ووزارة الطاقة (DOE)، ومعاهد الصحة الوطنية (NIH)، ووزارة الزراعة الأميركية (USDA)، مشاريع تجريبية متداخلة لقياس موثوقية الذكاء الاصطناعي، ما أدى إلى تكرار الجهود التي كان من الممكن أن تستفيد من الموارد المشتركة. وتعكس هذه المبادرات، على الرغم من حسن نيتها، تحدياً أوسع نطاقاً يواجهه عدد من الحكومات، وهو تحقيق التوازن بين الابتكار والتنظيم في ظل مشهد سريع التطور. 

ويكشف النقاش الدائر حول الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر مدى تعقيد النهجين الأميركي والصيني في إدارة الذكاء الاصطناعي. ومن المتوقع أن تُحقق نماذج الذكاء الاصطناعي وأدواته مفتوحة المصدر فوائد كبيرة للدول النامية من خلال توفير أدوات سهلة المنال وبأسعار معقولة للابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي. وفي الوقت الذي تروّج الصين للذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر باعتباره شاملاً وتعاونياً، فإن نماذج مثل "ديب سيك – آر1" (DeepSeek-R1) و"سبارك إكس 1" (Spark X1) تخدم مصالحها الاستراتيجية من خلال صياغة المعايير التقنية وتقليل الاعتماد على التكنولوجيا الأميركية. في المقابل، يدعو قادة الذكاء الاصطناعي الأميركيون إلى استخدام الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر، ولكن بحذر تجاري وقانوني واستراتيجي كبير. وبعد التشاور مع أكثر من 200 مسؤول حكومي ومتخصص وموظف من شركات الذكاء الاصطناعي الرائدة، أوصى تقرير صادر عام 2024 عن شركة "غلادستون إيه آي" (Gladstone AI) بحظر استخدام أوزان النماذج مفتوحة المصدر في النماذج الرائدة، مع احتمال معاقبة المخالفين بالسجن. وقد أُعدّ هذا التقرير المثير للجدل بتكليف من الحكومة الأميركية، وأثار نقاشاً حاداً في قطاع الذكاء الاصطناعي. 

إعادة النظر في سردية الذكاء الاصطناعي

إذاً، كيف لنا أن نواجه الابتكارات السريعة والقلق الذي يحيط بعالم متغير؟ وكيف لنا أن نفكر بوضوح في خضمّ ضجيج الذكاء الاصطناعي الذي نجد أنفسنا محاصرين فيه؟ لا بدّ لنا من أن نبدأ بقراءة القصص التي نرويها عن الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي. تتشكل السرديات والأولويات والتشبيهات والأطر الأخلاقية التي تهيمن على النقاشات من قِبل المؤسسات والشركات وصنّاع القرار الغربيين. هذا المنظور الضيق يُهمّش أصوات المجتمعات غير الغربية وتجاربها وابتكاراتها، ما يُرسّخ فهماً مُشوّهاً للتأثير العالمي للذكاء الاصطناعي.

ومن خلال اعتبار الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي مسعىً ثنائياً، يُنتج المنظور الغربي للذكاء الاصطناعي رابحين وخاسرين، متجاهلاً السياقات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية المعقدة التي يشهدها الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم. ورداً على لذلك، تعمل الحكومات في جميع أنحاء الجنوب العالمي على تعزيز السيادة الرقمية وإنشاء أطر لإدارة الذكاء الاصطناعي أكثر ملاءمةً للمصالح المحلية. على سبيل المثال، أصدرت كينيا ورواندا قوانين لتوطين البيانات لإبقاء البيانات الشخصية والتنظيمية تحت سيطرة محلية صارمة. في الوقت نفسه، نشرت دولٌ مثل الهند والبرازيل استراتيجياتٍ وطنيةً للذكاء الاصطناعي تُشدد على نهجٍ أكثر تعدديةً لإدارة الذكاء الاصطناعي، مُتجذّرٍ في الأولويات الإقليمية كالزراعة والرعاية الصحية.

الابتكار الشامل في مجال الذكاء الاصطناعي

لا يُمكن الفوز في سباق الذكاء الاصطناعي، ولكن يُمكن تعزيز نتائج أفضل لعدد أكبر من الناس بمجرد إشراكهم وضمان تقاسم فوائد الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع. وعلى الرغم من أن مستقبلاً بائساً قد ينشأ من ظروف متنوعة ناجمة عن المنافسة غير المنضبطة والتحيز واختلال توازن القوى، إلا أن النتائج الواعدة في مجال الذكاء الاصطناعي تنبع من التعاون الشامل. يرجع ذلك إلى أن أداء أنظمة الذكاء الاصطناعي يعتمد على كيفية تدريبها فحسب، ويعتمد تدريب الذكاء الاصطناعي على بيانات تمثيلية. على سبيل المثال، من غير المرجح أن يعمل نظام ذكاء اصطناعي مُدرّب من قِبل سكان كاليفورنيا ولمصلحتهم بالطريقة نفسها عند تطبيقه في الكاميرون. إضافة إلى ذلك، تُفاقم المعايير والأنظمة التنظيمية المُجزّأة مشكلات شائعة مثل الرقابة البشرية، ومخاطر اختراق الأنظمة، وغياب الشفافية حول كيفية عمل الذكاء الاصطناعي. لذلك، إذا كنا نبتكر طرقاً لتمكين الذكاء الاصطناعي للجميع، فإن التصميم الشامل ليس مجرد ضرورة أخلاقية، بل ميزة استراتيجية. وفي حال استمر اعتبار الذكاء الاصطناعي الجبهة التالية لتنافس القوى العظمى بدلاً من كونه مسعىً عالمياً مشتركاً، فإننا نخاطر بتصميم أنظمة غير مؤهلة لحل المشكلات المعقدة والمترابطة في عالم تعددي. وبدلاً من ذلك، ستعمل أنظمة الذكاء الاصطناعي على إدامة دورات تاريخية من التبعية، بحيث تُوزع فوائد الذكاء الاصطناعي بشكل غير متساوٍ، ويتم تحمّل أعبائه بشكل غير متناسب.

ويُعدّ الإنترنت ونظام تحديد المواقع العالمي (GPS) مثالين بارزين على الابتكار الناتج عن التعاون العالمي، فقد نشأت هاتين التقنيتين نتيجة جهد جماعي لأشخاص من خلفيات متنوعة، ما ضمن تقاسم فوائدها على نطاق واسع. وقد تطور الإنترنت، الذي كان في البداية مشروعاً عسكرياً، إلى شبكة اتصالات عالمية بفضل مساهمات المهندسين والعلماء وصنّاع القرار من جميع أنحاء القارات. ويعكس تصميمه المفتوح واللامركزي مساهمات أصوات متنوعة، ما مكّنه من أن يصبح منصة للابتكار والتعليم والتواصل الاجتماعي. وعلى نحو مماثل، تحوّل نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، الذي تم تطويره في الأصل للملاحة العسكرية، إلى أداة للوصول العالمي من خلال التعاون الدولي. ومن خلال دمج الرؤى في مختلف المجالات، بما في ذلك علوم الجغرافيا المكانية والهندسة وتصميم تجربة المستخدم، بات نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) ركيزة أساسية في الحياة العصرية، بحيث يدعم تطبيقات متنوعة، من النقل إلى الاستجابة للكوارث.

إنشاء منظومة عالمية للذكاء الاصطناعي

من أجل منظومة عالمية حقيقية لتطوير الذكاء الاصطناعي ونشره، لا بدّ من إنشاء مؤسسات تدعم مشاركة المناطق والمجتمعات المحرومة بفعالية، وهذا يعني الاستثمار في الاتصال الرقمي، وتعليم الذكاء الاصطناعي محلياً، وتطوير مجموعات بيانات تمثيلية متنامية تُمكّن المزيد من الناس من اغتنام فرص الابتكار. على سبيل المثال، يمثل إطار عمل سياسة بيانات الذكاء الاصطناعي للاتحاد الأفريقي (2023) جهداً إقليمياً لجمع الموارد ووضع معايير محلية، في حين تسعى مجموعة عمل إدارة الذكاء الاصطناعي التابعة لرابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، والتي تم إطلاقها في مطلع عام 2025، لبناء موارد بيانات مشتركة عبر الحدود في جنوب شرق آسيا. وقد طرح أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي من كلا الحزبين آليات تمويل متشابهة لـ"الذكاء الاصطناعي من أجل الخير"، مؤكدين أن الشمولية في الذكاء الاصطناعي تُعدّ قيمة أميركية مشتركة. ويمكن لمنصات التعاون مفتوحة المصدر وموارد البيانات الإقليمية المشتركة أن تساعد في كسر الحواجز وتعزيز تبادل المعرفة عبر مختلف الانقسامات الجيوسياسية. كذلك، يتضمن تصميم السياسات الشاملة الاعتراف بالأطر الأخلاقية التعددية التي تتجاوز النماذج الغربية السائدة، مثل "أوبونتو" (Ubuntu) من جنوب أفريقيا أو التفكير البوذي العلائقي في شرق آسيا، من أجل إعلام المنهجيات الأكثر توافقاً مع الثقافة في مجال الإدارة.

في النهاية، لا يقتصر بناء منظومة ذكاء اصطناعي عالمية التمثيل على إعادة التوزيع، بل يشمل أيضاً إعادة تعريف من يملك حق تصوّر مستقبل الأنظمة الذكية وبنائها وتقريرها. وهذه أوقات عصيبة وغير مسبوقة. وبينما نخوض غمار عصر الذكاء الاصطناعي، علينا أن نقاوم إغراء تصوير التقدم على أنه لعبة محصلتها صفر أو سباق مجازيّ تحسمه قلّة مختارة. وبدلاً من ذلك، علينا أن نتبنى وجهات النظر والمواهب المتنوعة لبلدان الجنوب العالمي، التي تُعدّ مساهماتها ضرورية لبناء مستقبل عادل ومستدام. ومن خلال تعزيز الشمول العالمي، يمكن أن نضمن تحوّل الذكاء الاصطناعي إلى أداة للتمكين لا للانقسام، وإطلاق العنان لإمكاناته الكاملة لمصلحة البشرية جمعاء.

نقلته إلى العربية: زينب منعم.