مصر وجيبوتي: استعادة المجال الحيوي في زمن الصراع على الممرات
جيبوتي، الدولة المنفتحة على مصر تاريخياً، والداعمة لموقفها في ملف السدّ، تمثّل بوابة يمكن عبرها نسج شبكة تحالفات تمتد إلى إريتريا والصومال وحتى أوغندا.
-
القرن الأفريقي بين التحوّلات والمخاطر.
في عالم لا يرحم الغياب، لا تعترف الجغرافيا بالفراغ طويلاً. من هنا، تكتسب زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى جيبوتي قيمة استثنائية، ليس فقط لكونها الأولى من نوعها لرئيس مصري، بل لأنها تحمل محاولة جادّة لاستعادة ما يمكن تسميته بـ "المجال الحيوي المصري" في منطقة باتت ميداناً لصراع الكبار على مفاتيح السيطرة، وفي مقدّمتها البحر الأحمر.
لقد تحوّلت جيبوتي، هذه الدولة الصغيرة مساحة، الكبيرة وزناً في حسابات الجغرافيا السياسية، إلى رقعة شطرنج تتقاطع فوقها أطماع القوى العالمية والإقليمية: قواعد عسكرية أميركية وصينية وفرنسية ويابانية، حضور تركي متنامٍ، طموحات إماراتية اقتصادية، وتغلغل إسرائيلي يتسلل من نوافذ متعددة. وفي قلب هذا المشهد المعقّد، يأتي الحضور المصري كضرورة تاريخية، وأولوية استراتيجية، لا ترفاً دبلوماسياً.
القرن الأفريقي بين التحوّلات والمخاطر
الزيارة جاءت في لحظة يتقاطع فيها الداخل الأفريقي المضطرب، بالخارج الطامع، في ظل أزمات متلاحقة تمتد من الحرب الأهلية في السودان، إلى اضطرابات إثيوبيا، مروراً بجبهة تيغراي، وانتهاءً بالمشهد اليمني المشتعل. ومع تصاعد التنافس على السيطرة على موانئ البحر الأحمر، لم يعد بوسع مصر أن تقف على الهامش، وهي التي لطالما اعتبرت أمن البحر الأحمر امتداداً مباشراً لأمن قناة السويس، بل وعمقاً وجودياً للدولة المصرية.
تدرك القاهرة أن غيابها الطويل عن أفريقيا، منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد في أواخر السبعينيات وما ترتّب عليه من عزلة سياسية أفريقية، قد منح الفرصة لقوى إقليمية ودولية لملء المشهد، وأنّ العودة لا تكون بشعارات عاطفية، بل بزيارات استراتيجية، وتحالفات ذكية، واستثمارات جريئة.
البعد المائي... وسدّ النهضة في الخلفيّة
وراء الزيارة أيضاً، تقف مياه النيل. لا يمكن فصل التحرّك المصري في جيبوتي عن أزمة سدّ النهضة، التي جعلت من أمن منابع النهر معركة وجود، ودفعت القاهرة نحو سياسة خارجية أكثر براغماتية، تتعامل مع محيطها الأفريقي كجبهة واحدة مترابطة، وليس كساحات منفصلة.
جيبوتي، الدولة المنفتحة على مصر تاريخياً، والداعمة لموقفها في ملف السدّ، تمثّل بوابة يمكن عبرها نسج شبكة تحالفات تمتد إلى إريتريا والصومال وحتى أوغندا، بما يعزّز من قدرة القاهرة على المناورة، والضغط، وتوسيع دوائر التأثير في مواجهة التعنّت الإثيوبي.
من السياسة إلى الجيوبوليتيك: لماذا جيبوتي؟
جيبوتي ليست مجرّد حليف سياسي محتمل، بل هي نقطة ارتكاز في معادلة جيوسياسية شديدة الحساسية. فموقعها على باب المندب، يجعلها مفتاحاً لتأمين ممرات التجارة العالمية، وحارساً غير مباشر لأمن قناة السويس. من هنا، فإن تطوير علاقات استراتيجية معها، لا يعني فقط تحصين الأمن المصري، بل استعادة زمام المبادرة في ملف البحر الأحمر، الذي بات ساحة مزدحمة بين دول الخليج وتركيا والكيان الصهيوني.
إنّ ما يجري في جيبوتي لا ينفصل عمّا يجري في اليمن أو إريتريا أو السودان. ومن هنا تكتسب الزيارة أبعاداً تتجاوز البروتوكول، لتدخل في عمق لعبة الأمم، حيث تُصنع القرارات الكبرى في الكواليس، لا على موائد المؤتمرات.
ماذا بعد الصورة التذكارية؟
التحدّي الأكبر الذي يواجه مصر اليوم، ليس في "الظهور"، بل في "الاستمرار". ليس في عقد لقاءات ومؤتمرات، بل في ترجمتها إلى مشاريع ملموسة، واستثمارات ذكية، وحضور مستدام لا يترك فراغاً تتسلل إليه قوى الطموح الإمبراطوري.
وبدلاً من الاكتفاء بالخطاب السياسي، يجب الانتقال إلى تفعيل أذرع التعاون العسكري، وتأسيس مراكز لوجستية واقتصادية، تشكّل امتداداً طبيعياً لموقع مصر بين البحرين والنهر.
حين تعود مصر بثقلها لا بخيالها
إنّ أهمية زيارة السيسي إلى جيبوتي تكمن في رمزيّتها أولاً، لكنها لن تُحفر في ذاكرة السياسة الأفريقية إلا إذا كانت مقدّمة لتحوّل جذري في نظرة مصر إلى أفريقيا، ليس بوصفها ملعباً للمنافسين، بل مجالاً حيوياً طبيعياً لحضور مصري أصيل.
والرهان اليوم هو أن تتحوّل هذه الخطوة إلى استراتيجية طويلة النفس، تُعيد التوازن في مواجهة مشروعات السيطرة من بوابة الجغرافيا، وتُعلي من شأن التعاون جنوب-جنوب في زمن أصبح فيه الشمال أكثر قسوة واستغلالاً.
وإذا كانت جيبوتي قد ساندت الموقف المصري في ملف سدّ النهضة، وأعلنت دعمها الصريح للقضية الفلسطينية في المحافل الدولية، فإنّ الوقت قد حان لتعيد مصر إنتاج هذه الروح من الأخوّة السياسية والتضامن الاستراتيجي، لا عبر البيانات، بل من خلال مشاريع ومصالح ونفوذ مستحقّ… يعيد لمصر مكانتها، ويمنح أفريقيا ما تستحقّ.