جدل الجزئي والكلي في صفقة الأسرى، الخلفيّات والدوافع الإسرائيلية

بينما يحسب الأسرى الإسرائيلييون وعائلاتهم كلّ ثانية تمرّ في الأسر، فإنّ لدى نتنياهو ساعةً مختلفة تماماً في حساباتها، وهو يأمل أنّ التوصّل إلى اتفاق جزئي سيُكسبه الوقت الذي يسعى إليه.

0:00
  •  صفقة الأسرى، الخلفيّات والدوافع الإسرائيلية.
    صفقة الأسرى، الخلفيّات والدوافع الإسرائيلية.

من الواضح جداً أنّ الطرفين، نتنياهو والمقاومة الفلسطينية، لا يستعجلان الذهاب إلى صفقة شاملة، ولكلّ منهما أسبابه ودوافعه؛ فقادة المقاومة الذين يحتجزون الأسرى الإسرائيليين، لا يبدو أنهم يستجيبون لمقاربة نتنياهو القائلة بأنّ غياب السنوار والضغط العسكري وتفكيك جبهات محور المقاومة قد هيّأت الظروف لقبولهم بشروط "إسرائيل"، ولذلك فهم لا يستعجلون التخلّص من "شهادة ضمان" هامّة في ظلّ غياب ضمانات أخرى، تُلزم نتنياهو بأيّ اتفاق يوقّع معهم الآن، من خلال التنازل عن الأسرى الإسرائيليين دفعة واحدة ومن ثم الركون إلى نوايا نتنياهو "الطيّبة" وضمانات الغرب "المعهودة". 

وعلى الأرجح لن توافق المقاومة إلا على عودةٍ مُتدرّجة لبعض الأسرى الإسرائيليين في المرحلة الأولى من الصفقة، لكنها لن تتخلى عن الباقين، وذلك لعلمها أنّ التخلّي عنهم يعني ​​​​إلى حد كبير عودة نتنياهو إلى حربه التدميرية على القطاع، وهذه المرة من دون احتجاجات إسرائيلية أو انتقادات أميركية ومن دون كوابح أياً تكن إذ هُم فرّطوا في ورقة الأسرى؛ ويبدو أن لديهم الوقت ولديهم كذلك الصبر، رغم ثقتنا بحرصهم واستعجالهم على وقف المقتلة التي تجري في القطاع. 

وبطريقة مثيرة للتناقض أيضاً، يبدو أن هذه المُقاربة تتناسب تماماً مع مخطّط نتنياهو وحكومته، فإذا كانت المقاومة الفلسطينية التي تحتجز الأسرى الإسرائيليين تخشى من تسليمهم لنتنياهو دفعة واحدة فتفقد أهم أوراقها في المواجهة وعلى طاولة المفاوضات، فإن الحكومة الإسرائيلية، مع التشديد على زعيمها، تخشى على حياتها السياسية؛ فنتنياهو يعلم يقيناً أنّ ثمن التسوية الشاملة هو وقف الحرب، وهو يعلم كذلك أنّ هذا ثمن لا تودّ ولا تستطيع حكومته دفعه، ولذلك فهو على استعداد للحكم على عشرات الأسرى الإسرائيليين، بالبقاء في الأسر وربما الموت.

وبينما يحسب الأسرى الإسرائيلييون وعائلاتهم كلّ ثانية تمرّ في الأسر، فإنّ لدى نتنياهو ساعةً مختلفة تماماً في حساباتها، وهو يأمل أنّ التوصّل إلى اتفاق جزئي سيُكسبه الوقت الذي يسعى إليه؛ فالمفاوضات ستستغرق ربما أسبوعين إضافيين أو ثلاثة، وبعدها ربما يكون هناك وقفٌ لإطلاق النار يحتاج إلى كثير من الترقيع هنا وهناك، وبين هذا وذاك لن يَعدَمَ نتنياهو الذريعة لخرق الاتفاق وربما نسفه. 

بالطبع، فهذا ليس موقفاً مرتبطاً بمصلحة "إسرائيل" الأمنية وفق ما يسوّق له هو وحكومته، بل هي محاولة لمنح الجمهور الإسرائيلي وعائلات الأسرى "شيئاً" من دون تفكيك حكومته، ومنح حليفه الأميركي  "الشيء ذاته" ليحول دون الدخول معه في صدام وبما يضمن له الدخول معه في مقايضات مستقبليّة لمصلحته.

إذاً هي عصافير كثيرة يضربها نتنياهو بالحجر ذاته "الصفقة الجزئية" التي سيسيّلها نقداً في اتجاهاتٍ متعددة، الأول داخلي؛ فالمتعمّق في مواقف أقطاب الائتلاف يشعر وكأنّ نتنياهو ينسّق معهم، فأرييه درعي يتحدّث لصالح صفقة الأسرى لكنه في الوقت ذاته يتحدّث بألم عن "الأثر السلبي لفرض التجنيد على الحريديم"، وذلك حتى يتمكّن من أن يأتي لناخبيه الذين يطالبون بالانسحاب من الائتلاف بسبب التلكّؤ في فرض قانون التهرّب من الخدمة للحريديم، قائلاً: "إن مسألة فرض التجنيد الإجباري مؤلمة جداً وغير مقبولة، لكنّ ضرورة تحرير الأسرى ما زالت أمامنا ولا أستطيع الانسحاب من الحكومة بسبب التجنيد الإجباري، طالما أنّ مفاوضات الصفقة جارية"، والنتيجة أنّ على اليهود الحريديم أن يفهموا أن هذا ليس هو الوقت الأنسب للإصرار على إقرار قانون التهرّب من التجنيد.  

أما بن غفير، عرّاب الاستيطان، فلا يبدو أنه مهتمٌ فعلاً "بإعادة أجزاء من الوطن إلى شعب إسرائيل"، بقدر ما يريد فتح جبهة جديدة، عنوانها الاستيطان في غزة تسمح باستمرار الحرب وتوسّعها أكثر في كلّ اتجاه ممكن، لأنه ببساطة من دون صراع لا قائمة ولا وجود له ولأفكاره ولحزبه، وهذا ما ينطبق على شريكه سموترتش.

أما في إطار الائتلاف بشكل عامّ فلن يرغب أكثر من 60 عضواً في كنيست الاحتلال في أن يُنظر إليهم على أنهم يُعطّلون الصفقة، حتى ولو كانت جزئية، وسيصوّتون لصالحها، وقد انبرى جزءٌ منهم سلفاً للحديث عن تأييده لها. 

أما "السيد أمن"، نتنياهو شخصياً، فستمنحُه الصفقة الجزئية واستمرار الحرب إمكانية التسويف والمماطلة والانسحاب متى شاء من الإدلاء بشهادته أمام المحكمة التي تنظر في شبهات الفساد الموجّهة إليه وتأجيل مداولاتها مرةً تلو الأخرى بذريعة أن هنالك حالة طوارئ تفرضها الحرب، وهو ما فعله بالضبط في الاستعراض المسرحي خارج وداخل قاعة المحكمة، مضيفاً مزيداً من الدراما إلى عملية قانونية من المفترض أنها "ممّلة" في الغالب، وفي المحصّلة حصل على ما أراد فلم يتمّ الإدلاء بالشهادة في اليوم الذي زار فيه جبهة الشمال، وانشغل العالم كلّه مرة أخرى بمقدرة نتنياهو على إدارة أجندة إعلامية تتعامل معه، ومعه فقط. 

وعندما يتطلّع نتنياهو إلى الأمام، يرى أنه حتى لو تمكّن من التوفيق بين قانون التهرّب من التجنيد ومحاكمته الجارية ووصل إلى الربيع القادم من دون صَدَماتٍ تهزّ ائتلافه، فإنّ عليه أن يستعدّ لليوم الذي سيشهد فيه ائتلافه هزيمة ساحقة، وهو بالتأكيد لا يريد أن يصل إلى هذه النقطة مُثقلاً بفشل السابع من أكتوبر ونفقات الحرب وأعبائها الاقتصادية على المجتمع، وعبء المحاكمة وثقلها؛ فهل أسهل من الادّعاء بحالة الحرب لاستمرار التملّص من ثِقَلِ هذه الأحمال!

وعلى المقلب الآخر وبعيداً عن ذوي الأسرى الإسرائيليين الذين لا يريدون سوى رؤية أبنائهم بينهم، فإنه يبدو لافتاً ارتفاع وتيرة انتقاد أقطاب المعارضة وهجومهم على نتنياهو واتهامه بتعطيل صفقة الأسرى عبر إصراره على بقاء قواته في القطاع وإعلانه المُسبق عن رفض إنهاء الحرب. ويبدو أنّ خلفيّة هذه الانتقادات ليست مرتبطة فقط برغبة قادة المعارضة بالإفراج عن الأسرى، إذ يبدو أنّ المعارضة الضعيفة والعاجزة أمام مقدرة نتنياهو على اللعب على تناقضاتها وتطويعها بحيث يمضي في مخططاته من دون أن يقيم لانتقاداتها أيّ وزن، تُدرك أن الدفع باتجاه صفقة شاملة هو السبيل "الوحيد" إلى التسريع في إنهاء حُكم نتنياهو ووضع حدٍ لائتلافه.

ولا يخفى على متابع أنّ رموز المعارضة يشعرون بغيظ وحنق شديدين جداً على نتنياهو لذلك يسعون لتأليب المجتمع الإسرائيلي وحثّه أكثر على معارضة الصفقة الجزئية بما يُضيّق عليه مساحة المناورة ويدفعه إلى الموافقة على صفقة شاملة تتضمّن إنهاء الحرب، خاصة أنّ استطلاعات الرأي الأخيرة أثبتت أنّ نسبةً عالية جداً تصل إلى 74% من الإسرائيليين يريدون صفقةً شاملة ولو بثمن إنهاء الحرب، والأهم أن جزءاً من المُستطلعة آراؤهم هم من جمهور اليمين المتشدّد الذي يدعم هذه الحكومة.

ومع أن جُزءاً كبيراً من الإسرائيليين يتمنّون أن يذهب نتنياهو إلى صفقة أسرى شاملة، لا يدركون أن الصفقة الجزئية هي بالضبط ما يسعى إليه، وأولئك الذين يعتقدون أنه يختلف حقاً عن الذين يدعون إلى إعادة استيطان غزة وترحيل الفلسطينيين منها، ويأملون أنه سيفعل أخيراً الشيء الصحيح، هم في الواقع سُذّجٌ واهمون، فنتنياهو لا يكبح الفوضى بل يخلقها، هذا هو نتنياهو وهذه هي طبيعته.

خلاصة المشهد السياسي الإسرائيلي اليوم يختزله أحد الإعلاميين الإسرائيليين الذي قال قبل يومين: "كلما كان الأمر أسوأ بالنسبة لنا كلما زاد الصراع بيننا، كلما كان ذلك أفضل بالنسبة لأولئك الذين جعلوا البقاء في مناصبهم مهمة حياتهم، إذاً لا مانع من حالة الطوارئ واستمرار الحرب وعدم اليقين لفترة أطول".

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.