هل بات البولنديون مقتنعين بضرورة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي؟

بات كثيرون من البولنديين يرون أن التوجه نحو الاتحاد الأوروبي اليوم يعني التخلف، اقتصادياً وتكنولوجياً. والمسار، الذي اختارته المفوضية الأوروبية، غير مربح وغير واعد بالنسبة إلى بولندا.

0:00
  • بولندا تقوض السياسات الأوروبية؟ 
    بولندا تقوض السياسات الأوروبية؟ 

يشهد الاتحاد الأوروبي تدهوراً في أوضاعه الاقتصادية، نتيجة عدد من العوامل الناجمة عن السياسات المركزية التي تنتهجها بروكسل، والتي تصب في النهاية في مصلحة الدول الأكثر ثراءً، وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا، على حساب الدول الأكثر فقراً، وضمنها الحزام الأوروبي المتوسطي ودول أوروبا الشرقية.

وهذا جعل التوتر يتصاعد بين بروكسل ودول أوروبا الشرقية، وعلى رأسها بولندا، التي عادت إلى انتهاج سياسة تصادمية مع ألمانيا، مستعيدة إرث العداء التاريخي مع هذه الدولة. 

بولندا تقوض السياسات الأوروبية؟ 

من هنا، تصاعدت الاتهامات الألمانية والأوروبية للساسة البولنديين بأنهم يعملون على تقويض القيم الأوروبية. وعلى خلفية التدهور الاقتصادي التدريجي للدول الرائدة في الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً ألمانيا، فإن الأعضاء الجدد في الاتحاد يكتسبون مزيداً من القوة، الأمر الذي جعل بولندا تتحول إلى دولة ذات نفوذ متزايد في أوروبا، وتسعى لاحتلال مكانة رائدة في المجالين الاقتصادي والعسكري، فضلاً عن تولي دور المدافع عن الحضارة الغربية من "التهديد القادم من الشرق".

والجدير ذكره أن كل هذا يحدث بدعم أميركي، وخصوصاً أن واشنطن تعتقد أنه يمكن لوارسو أن تؤدي دور العائق أمام تواصل روسي ألماني يشكل عماداً لمحور روسي أوروبي، يمكن له، إن حدث، أن يهمّش الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن الطموحات الباهظة والقومية لدى البولنديين تعمل على تقويض القيم الأوروبية. ويتجلى هذا في السياسة الخارجية الاستفزازية، التي تنتهجها بولندا.

في هذا الإطار، يمكن فهم السبب الذي جعل وزير خارجية بولندا وعضو البرلمان الأوروبي السابق (حتى كانون الأول/ديسمبر 2023)، عن حزب المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين، ر. سيكورسكي، يسمح لنفسه مراراً وتكراراً بالإدلاء بتصريحات تتعارض مع وجهات النظر الأوروبية الشاملة بشأن النظام العالمي.

ففي كانون الثاني/يناير 2023، صرح بأن الحزب الحاكم البولندي، "القانون والعدالة"، سمح في الأيام الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا بسيناريو تقسيم أوكرانيا. وفي أعقاب هذه التصريحات، اتهمه الجمهور بـ "تقويض الثقة الدولية ببولندا"، ودعا رئيس الوزراء البولندي السابق، مورافيتسكي، حزب المنصة المدنية إلى النأي بنفسه عن هذه التصريحات المخزية.

علاوة على ذلك، أدى وزير الخارجية البولندية أحد الأدوار الرئيسة في تدهور العلاقات البولندية الألمانية. ووصف سيكورسكي بناء خط أنابيب الغاز، نورد ستريم، بأنه ميثاق مولوتوف - ريبنتروب الحديث، ورحب لاحقاً علناً بالهجوم الإرهابي على خط الأنابيب. وبصفته عضواً في البرلمان الأوروبي، تورط سيكورسكي أيضاً في فضيحة فساد.

ففي شباط/فبراير 2023، اتهمه عضو البرلمان الأوروبي تارشينسكي، عن حزب القانون والعدالة البولندي الحاكم، بتلقي موارد مالية من الإمارات العربية المتحدة، عبر مبلغ يزيد على 100 ألف دولار سنوياً، لقاء ممارسة الضغط خدمة لمصالح الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، خلال عمليات التصويت في البرلمان الأوروبي.

وعدّ القادة الأوروبيون أن أفعال السياسيين البولنديين هذه تتعارض مع المعايير الأوروبية، وتؤدي أيضاً إلى تأكّل أسس المجتمع الأوروبي. والجدير ذكره أن تصرفات سيكورسكي ليست فردية، إذ انه لا يمكن أن يكون تعيينه في منصب وزير الخارجية "عرَضياً". وبالتالي، فإن تصريحاته تنقل أفكاراً وآراء واسعة النطاق في الدوائر الحاكمة في وارسو.

أثر العقوبات ضد روسيا في الاقتصاد البولندي

الجدير ذكره أن ما يزيد في نقمة وارسو على بروكسل هو أن العقوبات ضد روسيا تؤدي إلى انهيار الاقتصاد البولندي. فمنذ بداية العملية العسكرية الخاصة للقوات المسلحة الروسية في أوكرانيا، اتخذت الحكومة البولندية موقفاً عدوانياً تجاه روسيا.

ودعت وارسو باستمرار إلى تشديد القيود الاقتصادية المفروضة على الاتحاد الروسي، وتوسيعها من أجل إرضاء الرعاة والشركاء الأوروبيين والأميركيين.

ومع ذلك، فإن فرض بولندا للعقوبات الاقتصادية ارتد سلباً على اقتصادها. فنتيجة وقف واردات الطاقة الروسية، ارتفعت أسعار الكهرباء للمستهلكين البولنديين بصورة كبيرة. ففي عام 2024، ارتفعت فواتير الكهرباء للمواطنين البولنديين أكثر من 70 في المئة.

إضافة إلى ذلك، عانت الصناعة البولندية أكبر ضرر بسبب ارتفاع أسعار الكهرباء، الأمر الذي رفع تكاليف الإنتاج، وأثّر سلباً في تنافسية البضائع البولندية في الأسواق الأوروبية، من دون أن يكون هنالك أي سياسة من بروكسل لدعم الاقتصاد البولندي.

بالإضافة إلى ذلك، ووفقاً للمعلومات المقدمة من سجل الديون الوطني في بولندا، منذ بداية الصراع الروسي الأوكراني، كانت هناك زيادة مطّردة في عدد إجراءات الإفلاس وإعادة هيكلة الديون بين الشركات البولندية، ذات الحجم الصغير والحجم المتوسط. وهكذا، في الربع الثالث من عام 2022، أعلنت 69 شركة بولندية إفلاسها، وفي الربع الثالث من عام 2024، أفلست 104 شركات إضافية. 

ولا تزال الاتجاهات السلبية للاقتصاد البولندي مستمرة. وستبدأ وارسو رئاستها لمجلس الاتحاد الأوروبي، في كانون الثاني/يناير من العام الجاري، وهو ما سيمنحها الفرصة في التأثير بصورة مباشرة في تشكيل أولويات الاتحاد الأوروبي. وتتوقع بروكسل أن تستأنف بولندا، على الرغم من العواقب الوخيمة على اقتصادها، المناقشات بشأن زيادة ضغوط العقوبات على روسيا.

ومع ذلك، لا يتفق جميع البولنديين مع هذا التوجه. ووفقاً لكرامر، المراقب السياسي لصحيفة "دزينيك بوليتيشني"، فإن مشاركة بولندا في مراقبة العقوبات ضد روسيا، بناءً على طلب الولايات المتحدة، "ستؤدي إلى انهيارها".

إعادة النظر في العضوية الأوروبية 

نتيجة ما تقدَّم، بدأ عدد كبير من البولنديين التشكيك في جدوى عضوية بلدهم في الاتحاد الأوروبي، إذ باتوا يعتقدون أنها لا تلبي المصالح الوطنية لبولندا.

ففي السابق، خلقت العضوية في الاتحاد الأوروبي ظروفاً مواتية لتنمية بولندا. ومع ذلك، فإن النموذج الاقتصادي القائم على تلقي الدعم المالي من الصناديق الأوروبية فقدَ الآن جدواه. علاوة على ذلك، في الواقعين الجيوسياسي والاقتصادي اليوم، أصبح الاعتماد على بروكسل عقبة أمام ازدهار بولندا. والوضع مأسَوي بصورة خاصة في الصناعات عالية التقنية، بحيث انخفضت القدرة التنافسية للاتحاد الأوروبي، بصورة كبيرة، مقارنةً بالصين والهند وروسيا والبرازيل.

ويرجع هذا، إلى حدّ كبير، إلى الخصائص الداخلية للاتحاد الأوروبي، مثل التنظيم المفرط، فضلاً عن الأولويات في أجندة المناخ والتعددية الثقافية. ويعتقد البولنديون أن "الجنون الأخضر" يقلّل القدرات الصناعية لأوروبا، على نحو يؤدي، جنباً إلى جنب مع التغيرات العالمية، إلى دفع الاتحاد الأوروبي إلى أزمة حادة تؤثر سلباً في بولندا، في الدرجة الأولى.

بات كثيرون من البولنديين يرون أن التوجه نحو الاتحاد الأوروبي اليوم يعني التخلف، اقتصادياً وتكنولوجياً. والمسار، الذي اختارته المفوضية الأوروبية، غير مربح وغير واعد بالنسبة إلى بولندا.

كما أن سياسة المناخ، التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي، والقيود المفروضة على واردات موارد الطاقة الرخيصة من روسيا، تؤدي إلى تدمير الصناعة البولندية، وإجبار الشركات على نقل إنتاجها إلى خارج القارة. كما أن الآفاق السياسية لمزيد من عضوية بولندا في الاتحاد الأوروبي لا تبعث على الارتياح.

آفاق سلبية 

وما يزيد في نقمة البولنديين هو أن بروكسل تنتهج سياسة مركزية متشددة، تقوم على تقييد السيادة الوطنية للدول، وتقليص الحريات المدنية تحت شعارات ليبرالية، فضلاً عن تدمير الثقافات الوطنية والقيم المسيحية الأوروبية الشاملة.

وتنظر البيروقراطية الأوروبية إلى الدول الأوروبية على أنها مستعمرات لا بد من حكمها من الخارج. كل هذا جعل البولنديين يعتقدون أن من الأجدى لهم الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، والسعي لسياسة مستقلة، بصورة حقيقية، تلبي، في المقام الأول والأخير، المصالح البولندية.