إلياس والسنوار ووجع المؤرخ الإنسان

يقتلون المؤرخ في غزة ويحرقون آثار التاريخ في مساجدها وكنائسها، حتى لا يعتب عليهم هولاكو في بغداد ولا هتلر في لينينغراد، ويمضون غير آبهين!

0:00
  • استل زكريا السنوار إجابة إلياس، وختمها بدمه.
    استل زكريا السنوار إجابة إلياس، وختمها بدمه.

اختصر الشاهد الثائر إلياس رودريغز التاريخ بثلاث كلمات "فلسطين حرّة حرّة"، وهو عالم التاريخ الشفوي، وقد نفذ مهمته وأوقع العقاب الإلهي في المتحف اليهودي، وكتب وصيته الأخيرة في 900 كلمة أراحت ضميره التاريخي المعذب على أطلال غزة الذبيحة، فماذا كتب إلياس؟

وكيف احتضنت كلماته شهقات روح المؤرخ الشهيد زكريا السنوار في اليوم ذاته ربما؟ وكأنما كانت صياغة مشتركة بين ميدان الجريمة التاريخية في غزة، وعقاب التاريخ حيث أخذ يتجلى بعيداً خلف مياه الأطلسي من حيث يستجلبون أم القنابل، وما هي العلاقة بين عقل المؤرخ وثقافة الاشتباك؟

كتب إلياس رودريغز قائلاً "الإنسانية لا تعفي أحداً من المساءلة، كان يمكن تبرير العمل أخلاقياً منذ 11 عاماً خلال عملية الجرف الصامد في غزة، في الوقت الذي أصبحت فيه على دراية شخصية بسلوكنا الوحشي في فلسطين، لكني أعتقد أن مثل هذا العمل كان سيكون غير مفهوم لمعظم الأميركيين، وسيبدو جنونياً".

وختم إلياس معبّراً عن سعادته الإنسانية وهو يعاقب القتلة قائلاً "أنا سعيد لأنه اليوم على الأقل هناك العديد من الأميركيين الذين سيفهمون العمل بوضوح، وبطريقة ما، سيرونه الشيء العقلاني الوحيد الذي يجب فعله".

منذ عقود خلت وقبل ولادة إلياس، قالها فتحي الشقاقي في عتمة محبسه الإسرائيلي "المثقف أول من يقاتل وآخر من ينكسر". لذا، كان الطبيب والمؤرخ المفكر والشهيد، وكان ينصح زميله في زنزانة سجن نفحة وهو يتحنن عليه حنين المعذب، قائلاً "اقرأ يا رفيقي حتى ينطفئ نور عينيك"، فلا فرق بين انكسار المثقف وانطفاء نور عينيه، إلا أن يكون كما أرادها الشهيد المؤرخ باسل الأعرج ومن بعده الشهيد المقدسي بهاء عليان؛ ثقافة الاشتباك، ثقافة جسدها هذا الشاب المعذب وهو المسيحي الإنسان إلياس رودريغز، وهو يعاقب القتلة المتوحشين، أو ذاك الشاب الدرزي؛ يثرو شاهين يوم خرج في أوائل رمضان ليعاقب الوحشية الإسرائيلية وليس بنيته أن يعود، فكان له ما أراد عندما قضى برصاص العبريّ في حيفا.

 إلياس كما يثرو، كلاهما على غير دين غزة ومذهبها العقائدي، ولكنها وحدة التاريخ الإنساني التي عاشها المؤرخ الشهيد زكريا السنوار، شقيق الشهيد يحيى قائد الطوفان كما شقيق القائد محمد، والذي ما زالت حياته أو شهادته سؤال الحرب المتجددة على غزة، حيث ينام نتنياهو ويصحو ليسمع الخبر اليقين.

يقتلون المؤرخ في غزة ويحرقون آثار التاريخ في مساجدها وكنائسها، حتى لا يعتب عليهم هولاكو في بغداد ولا هتلر في لينينغراد، ويمضون غير آبهين، وحدهم المعذبون في الأرض ممن تحترق أرواحهم وتختنق أنفاسهم بالوجع والقهر، يعبّر عنهم فرانس فانون منذ عقود وهو يعالج آثار الاستعمار وجرائم الرأسمالية، حتى لا يكون الحاخام الصهيوني إليعيزر كشتيئيل محقاً، وهو يهذي قائلاً "نحن عنصريون، لأن هناك شعوباً بها خلل جيني، ندعوهم لأن يكونوا عبيداً لدينا، العرب يحبون الاسترقاق والعيش تحت الاحتلال، ولأننا نصل إلى إنجازات مثيرة أكثر منهم، في المجالات الأخلاقية والفكرية والشخصية، فمن واجبنا مساعدتهم، وعدم إبقائهم كالمساكين، يجب أن نمد لذلك الغير يد المساعدة، ونقول له، تعال لتكون عبدي".

قبل المفكر الفرنسي فرانس فانون وقبل الحاخام الصهيوني كشتيئيل، كتب مفكر فرنسيّ آخر هو إيتيان دولا بويسيه عام 1574، كتابه "العبودية الطوعية"، ولم يكن تجاوز الثامنة عشرة من عمره، وفيه ضَرَبَ بني إسرائيل كمثال تاريخي لمن رموا بأنفسهم تحت أيدي الطغاة من دون إرغام، ثم يضيف "وأنا لا أقرأ تاريخهم قط من غير أن أشعر بأقصى استياء، يكاد يدفع بي إلى موقف لا إنساني حتى البهجة، بما نالهم من شدائد". 

بين بهجة لا بويسيه لما نال اليهود من شدائد في القرن السادس عشر الميلادي، وقد اختاروا أن يكونوا عبيداً بين يدي الطغاة من دون إرغام، وبين عنصرية الحاخام كشتيئيل في زمن الخلل الجيني من القرن الحادي والعشرين، حيث صار اليهود أسياداً للعملاء والخونة من العرب والغرب والترك والعجم، وصار كشتيئيل صهراً للجنرال زيني، مرشح الملك نتنياهو لقيادة مسالخ الشاباك، ثمة زمن بدأ يتشكل منذ كتب الشاهد الشهيد نعمان طحاينة "الكادر الحركي والعمل الثوري".

وحال نعمان كحال لابويسيه، كان دون السابعة عشرة من عمره، وقد صاغ آلية عمل للطليعة الثورية المرتقبة، حيث جيل غزة المحترق مع السنوار في وجه الشدائد رفضاً لعبودية ترامب ونتنياهو، كأنهم أصحاب الأخدود يحلّقون من عليائهم على أطلال عبودية البشر في سورة البروج، دونها برج ترامب بطبقاته الـ58 في مانهاتن، ودون أسفلها برج ترامب المزمع تشييده في دمشق في زمن عبودية وليد الزعبي وتهريج فيصل القاسم، من كدح الفلاحين في أرض الياسمين، وحيث الشام ستبقى مصائد الثغور ورباط الساحل في وجه تسونامي المتوسط حتى لو حلّ في بنطال مثليّة ألمانية تهزأ بقيم رجولتنا وفخر عبوديتنا. 

صاغ إلياس تاريخ الإنسان الشفوي وقدّم إجابته الكاملة كلمة كلمة حتى اكتملت 900 كلمة، أمام سؤال غزة وجنين وطولكرم وصعدة وبنت جبيل، استل زكريا السنوار إجابة إلياس، وختمها بدمه وبعض من لحم أشلاء أطفاله الطريّة، وهو يدشن مع الراحلين في تجدد الصعود الفلسطيني، تاريخ مرحلة لا مكان فيها للعبيد والخلل الجيني، حيث العملاء والخونة وحدهم يحتفون بالسيدين العبري والأميركي، ويقدمون التريليونات في فاتورة فخر الصناعة الأميركية وإنتاج أضخم القنابل الذكية، لتدك عميقاً عمق ذاكرتنا التاريخية حيث نصر الله وصفي الدين، وحيث الأنفاق الغزية تصنع تاريخاً لم يزل يقاتل.