أميركا والصين... حرب تجارية أم معركة نفوذ؟

الرسوم الجمركية مؤلمة للصين وللاقتصاد الصيني، إلا أن بكين ترى فيها فرصة لتحسين وضعها من خلال زيادة الاعتماد على التصنيع الذاتي لا سيما أشباه الموصلات.

0:00
  •  فرض الرسوم الجمركية المتبادلة بين الصين وأميركا ليس مجرد حرب تجارية.
    فرض الرسوم الجمركية المتبادلة بين الصين وأميركا ليس مجرد حرب تجارية.

لا يوجد في تاريخ العلاقات الدولية ما هو أشد تعقيداً من العلاقات الصينية-الأميركية التي تهدأ حدّتها حيناً وتشتعل أحياناً كثيرة، نظراً إلى غياب الثقة بين البلدين ورغبتهما في بسط نفوذهما عالمياً.

حرب تجارية أشعلها الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضد أغلب دول العالم، لا سيما الصين، التي أشعلتها أكثر فأكثر عبر الرد على التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب على الواردات الصينية بفرض رسوم جمركية مماثلة.

 أثار تصرف الصين دهشة ترامب الذي لم يكن يتوقع الرد الصيني، إذ كان يظن أن بكين سترضخ للمطالب الأميركية، ويُسرع الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى الاتصال به من أجل إزالة الرسوم الجمركية كما فعل غيره من المسؤولين. وكان الرئيس ترامب قد صرّح مرات عديدة بأنه يريد التواصل مع الرئيس شي، وأنه ينتظر اتصالاً منه، وجرى الحديث عن أن لقاء قد يجمع الرئيسين في المستقبل غير البعيد.

إضافة إلى ذلك، لم ترضخ الصين، التي كانت تفاوض الولايات المتحدة الأميركية، على بيع تطبيق تيك توك، للضغوط الأميركية بهدف إرغامها على بيع التطبيق وتخفيف سقف مطالبها، بل أوقفت المفاوضات لبيع التطبيق بعد أن قام ترامب بفرض رسوم جمركية عليها في اليوم الذي سمّاه" يوم التحرير". 

فبكين لن تقبل ببيع التطبيق إلا إذا حصلت على تنازلات كبيرة من الولايات المتحدة الأميركية حتى لو تسبب فشل المفاوضات في حظر منصة التواصل الاجتماعي على الأراضي الأميركية، إذ ترى الصين أنه، بالرغم من الأضرار التي قد تلحق بشركة "بايت دانس" الصينية المالكة للتطبيق، فإن خسائر حظر التطبيق على الولايات المتحدة ستكون أكبر، إذ إن نصف الشعب الأميركي يستخدم تطبيق تيك توك، وقسماً كبيراً منهم يعتمد عليه لجني الأرباح، فضلاً عن الدور الهام الذي لعبته المنصة خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية.

لقد كان رد بكين على الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على الواردات الصينية والتي بلغت نسبتها 145% مدروساً وعقلانياً، وكانت تستعد لهذه اللحظة نظراً إلى أن الصين كانت تتوقع فرض رسوم جمركية على وارداتها. فالرئيس ترامب هدّد الصين مراراً، خلال حملاته الانتخابية، أنه سيقوم بفرض رسوم جمركية عليها تصل إلى 60% أو إلى 100%. والصين عانت خلال فترة ترامب الأولى من فرض رسوم جمركية على سلعها، لذلك لا بدّ من أن تكون قد بدأت منذ ذلك الوقت باتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لحمايتها من فرض الرسوم الجمركية على وارداتها عبر وضع خطط لتعزيز الاستهلاك المحلي، والبحث عن أسواق جديدة لتصريف منتجاتها وعدم الاعتماد على السوق الأميركي، وسنّ تدابير خاصة لحماية اقتصادها وغيرها من الإجراءات.

وما زاد من جنون الرئيس ترامب تجاه الصين، أنه كان ينتظر أن يتصل به الرئيس الصيني، إلا أن الأخير رفض ذلك، وفضّلت الصين أن تكون هناك مناقشات رسمية بين مسؤولي البلدين. كما أن هناك معضلة تتمثل بإمكانية عقد لقاءات بين وزيرَي خارجية البلدين، نظراً إلى أن الصين تفرض عقوبات على وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو منذ العام 2020، فضلاً عن أن بكين تفضّل أن تكون هناك مناقشات في الكواليس وبعيداً من الإعلام كتلك التي حصلت بين وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، ومستشار الأمن القومي السابق، جاك سوليفان، والتي نتج عنها عقد لقاء بين الرئيس الصيني والرئيس السابق جو بايدن.

قدّم ترامب الذي كان يعتقد أنه عبر فرض الرسوم الجمركية على الصين قد يتمكّن من كسر شوكتها، وجعلها تقدم تنازلات، لأنه كان يعتقد أن الصين التي تعامل معها في ولايته الأولى هي نفسها الصين اليوم، قدّم هدية كبيرة للصين التي تبرز نفسها للعالم على أنها تسعى إلى تحقيق التنمية والازدهار وبناء المجتمع المشترك للبشرية جمعاء.

فرسوم ترامب الجمركية التي تم تعليقها، أضرّت بالعلاقات مع حلفاء وشركاء رئيسيين للولايات المتحدة الأميركية، من خلال دفعهم بعيداً من الولايات المتحدة الأميركية وتقربهم من الصين، ولكن ذلك لا يعني تخليهم عن واشنطن، بل تبقى هي الحليف الأمني الأساسي، إنما أدت الرسوم الجمركية إلى زيادة التعاون التجاري بين الصين وهذه الدول ككوريا الجنوبية واليابان وفيتنام.

 كما أن توتر العلاقات بين أميركا والاتحاد الأوروبي الذي فرض ترامب عليه رسوماً جمركية ثم علّقها، جعلت التكتل يعيد حساباته في علاقاته مع الصين التي شابتها بعض التوترات، إذ يجري حالياً التفاوض حول إزالة الرسوم الجمركية التي فرضها الاتحاد على السيارات الكهربائية الصينية.

أيضاً من المرجح بشكل كبير أن تسفر زيارة الرئيس الصيني إلى فيتنام وماليزيا وكمبوديا إلى توقيع عشرات الاتفاقيات وزيادة التبادل التجاري بين هذه البلدان.

ومن ناحية أخرى، استطاعت الصين من خلال فرضها الرسوم الجمركية على الواردات الأميركية أن تظهر أمام العالم أنها ذات ثقة عالية، وأنها قادرة على أن تكون قطباً ضمن العالم المتعدد الأقطاب الذي تسعى إلى إنشائه مع روسيا وغيرها من الدول، وأنها لا تخاف المواجهة مع واشنطن وتقاتل حتى النهاية مع علمها بأنه لا فائز في الحرب التجارية.

صحيح أن الرسوم الجمركية مؤلمة للصين وللاقتصاد الصيني، إلا أن بكين ترى فيها فرصة لتحسين وضعها من خلال زيادة الاعتماد على التصنيع الذاتي لا سيما أشباه الموصلات.

عدا عن ذلك، شكّلت المواجهة مع أميركا تحدّياً للرئيس الصيني الذي أخذ على عاتقه الحلم الصيني الذي يتمثل بتحقيق النهضة العظيمة للأمة الصينية. في خطابه عام 2021، بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني، قال الرئيس الصيني إن الزمن الذي كان يمكن فيه التنمّر على الشعب الصيني قد ولّى بلا رجعة. وبالتالي، فإن الرجوع عن الرسوم الجمركية كان سيظهر الرئيس شي بمظهر الضعيف. 

إن فرض الرسوم الجمركية المتبادلة بين الصين وأميركا ليس مجرد حرب تجارية، بل مسألة كسر عظم بين أكبر اقتصاديين في العالم. إنها لعبة من يصرخ من الألم أولاً.

في النهاية، ستتوصل بكين وواشنطن إلى اتفاق تجاري. ومع ذلك، ستبقى التوترات تشوب العلاقة بين البلدين لأن الرئيس ترامب يريد أن يُبقي الولايات المتحدة هي المهيمنة عالمياً مع شعار "أميركا أولاً"، بينما الصين تريد القضاء على الهيمنة الأميركية وبناء عالم تكون قطباً فيه.