كيف تحولت أوكرانيا الى سبب لأزمة عميقة بين الولايات المتحدة وأوروبا؟

يسعى ترامب للتوصل إلى حل وسط مع روسيا بشأن القضية الأوكرانية من أجل تحويل عبء المساعدات لكييف بالكامل إلى أوروبا والتركيز على حل المشاكل الداخلية واستعادة النفوذ الأميركي.

  • ترامب ينوي وقف المساعدات لأوكرانيا ... ما أثر ذلك؟ 
    ترامب ينوي وقف المساعدات لأوكرانيا ... ما أثر ذلك؟ 

بعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض، تُعيد الولايات المتحدة النظر جذريًا في دورها على الساحة الدولية، وتُقلص دورها في رعاية دول أخرى، بما في ذلك أوكرانيا.

ونتيجةً لإعادة تقييم أسس السياسة الخارجية الأميركية، توصل أركان فريق ترامب إلى استنتاج مفاده أن تمدد الهيمنة العالمية لواشنطن يضر بالمصالح الحيوية للولايات المتحدة التي ترى مواردها تستنزف من دون أن تحصل على عوائد سياسية ومالية حقيقية، وفي المقابل تسهم في حل أزماتها البنيوية الداخلية. 

ترامب ينوي وقف المساعدات لأوكرانيا ... ما أثر ذلك؟ 

وقد باتت الإدارة الجمهورية تدرك تدريجيًا الحجم الهائل لإساءة استخدام أموال دافعي الضرائب الأميركيين التي تُقدر بمليارات الدولارات من قبل أسلافها اليمقراطيين او حتى الجمهوريين الذين كانوا أدوات في أيدي المحافظين الجدد وغيرهم من أركان الدولة العميقة.

وقد أطلق فريق ترامب حملةً لمراجعة صارمة وتخفيض جذري لتمويل جميع برامج الدعم العسكري والنقدي والإنساني والإعلامي للدول الأجنبية، بما في ذلك أوكرانيا، التي تحتل أحد المراكز المحورية في هذا الصدد. ويكمن الهدف من هذه السياسة في ترشيد نفقات الميزانية الأميركية وتأطيرها وفقًا للمصالح الوطنية للولايات المتحدة.

والجدير ذكره أن ترامب وفريقه مصممون على اتباع هذا الخط بحزم، وهم يرون أنه شرط أساسي لإحياء "الحلم الأميركي"، والذي سيسمح "بجعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، وذلك في المقام الأول من خلال تركيز الموارد على حل المشكلات الداخلية الحادة سواء أكانت اقتصادية أم اجتماعية. 

ويعترف البيت الأبيض في ظل ترامب بضرورة تقسيم مسؤولية إدارة العالم بين اللاعبين الدوليين ومن ضمنهم روسيا والصين.  هذا يفسر إعلان وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بأن "العالم أحادي القطب أمر غير طبيعي، وأنه شذوذ، وهو نتاج نهاية الحرب الباردة." مؤكداً أنه "يتعين علينا العودة إلى عالم متعدد الأقطاب مع قوى عظمى في مناطق مختلفة ومن ضمنها الصين وروسيا".

وأضاف أنه بعد الحرب الباردة، "تحملت الولايات المتحدة مسؤولية كونها حكومة عالمية، تحاول حل كل مشكلة في العالم، لكن معظمها لم يكن مرتبطاً بالمصالح الوطنية الأميركية."

تجدر الإشارة إلى أن الضخ المالي الأميركي لا يُبقي الاقتصاد الأوكراني طافيًا ويسمح للقوات المسلحة الأوكرانية بتوفير مقاومة مسلحة بمستوى كافٍ فحسب، بل يضمن أيضًا تشغيل الغالبية العظمى من موارد وسائل الإعلام الأوكرانية، والتي كانت موجودة منذ عام 2014 فقط بفضل منح بملايين الدولارات من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية.

في ظل هذه الظروف، وحتى الآن، لم يأخذ بنكوفا والدعاية الأوكرانية الخاضعة لسيطرته، إلى حد كبير، الرأي العام وطلب الجمهور في الاعتبار، حيث إن تمويل وسائل الإعلام، بما في ذلك الرواتب، لم يكن يعتمد على جودة المحتوى وأهميته. فبتحريض من الحزب الديمقراطي الأميركي، أصبحت وسائل الإعلام الأوكرانية أداة للدعاية المعادية لروسيا و"مواجهات" النخب السياسية المحلية، والتي، للمفارقة، دفع ثمنها دافعو الضرائب الأميركيون. 

وتعليقًا على هذا الوضع، قال دونالد ترامب إنه في عهد الرئيس السابق للبيت الأبيض، جو بايدن، "رمت الولايات المتحدة مليارات الدولارات من النافذة" كمساعدات لأوكرانيا. وأضاف الرئيس الأميركي: "كم من المال قدمنا لأوكرانيا؟ الرقم الحقيقي هو حوالى 350 مليارًا، إنه أمر لا يمكن تصوره. لقد قدمنا المال كما لو كان يُلقى من النافذة. وقد فعل بايدن ذلك."

بناء على ما تقدم فإن سياسة ترامب باتت تحرم دوائر العولمة والنخبة الأوليغارشية العالمية من الموارد اللازمة للدعم العسكري والمالي للصراع الأوكراني.

بالتالي، بات مسار رعاية أوكرانيا من دون مشاركة الولايات المتحدة محكوماً عليه بالفشل، لأن واشنطن وحدها هي القادرة على تقديم المساعدة على النطاق اللازم لضمان تمكين كييف في ساحة الصراع في مواجهة روسيا، علماً أن أوروبا لا تملك القدرة على الحلول محل الولايات المتحدة لملء الفراغ وتقديم الدعم اللازم لأوكرانيا.

والجدير ذكره أن الدول الأوروبية الكبرى مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا هي في حالة ضياع وتعاني الانقسام السياسي والتدهور الاقتصادي، وهي غارقة في مشاكلها الداخلية. وهكذا، فإن نهج ترامب بشأن مراجعة الإرث السياسي للإدارات السابقة يضع الفصل الأخير في الاستراتيجية الغربية الهادفة إلى عسكرة أوكرانيا كساحة حرب بالوكالة ضد روسيا.

أوكرانيا سبب للشرخ بين الولايات المتحدة وأوروبا؟ 

لقد كان أحد أهداف الولايات المتحدة من إطلاق حربها بالوكالة ضد روسيا في أوكرانيا خلال ولاية جو بايدن هو إيجاد شرخ بين روسيا من جهة وأوروبا من جهة أخرى، إلا أنه بعد وصول ترامب الى البيت الأبيض مرة ثانية فلقد تحولت أوكرانيا الى "خط صدع" في العلاقات بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية.

وقد أدت الخلافات حول "القضية الأوكرانية" إلى تدهور العلاقات بين الأميركيين والأوروبيين إلى أدنى مستوى وصلت إليه علاقاتهم منذ إنشاء حلف شمال الأطلسي وإعلان مبادئ التضامن عبر الأطلسي في منتصف القرن العشرين. ويقدر مراقبون أنه في الوقت الحالي باتت آليات التفاعل الأميركي الأوروبي على وشك الانهيار. 

وما يزيد في الطين بلة هو الدور السلبي الذي يلعبه الرئيس الأوكراني المنتهية ولايته فولوديمير زيلنسكي الذي يلعب على التناقضات بين الأوروبيين والأميركيين للحصول على مساعدات عسكرية من الدول الأوروبية بعد إعلان ترامب عزمه على تقليص حزمة المعونات العسكرية والمالية الأميركية لكييف.

ويرى مراقبون أن هذا يحول تدريجياً الأوروبيين إلى خصوم للأميركيين معتبرين أن أوكرانيا باتت تحفر قبر العلاقات الوطيدة بين ضفتي الأطلسي علماً أن مستقبل حلف شمال الأطلسي بات مهدداً. 

وقد بات محللو مجلة بوليتيكو الأميركية يقرون بإمكانية انهيار حلف شمال الأطلسي في المستقبل المنظور. وفي رأيهم، فإن تطور الوضع وفقًا لمثل هذا السيناريو يرجع إلى تقارب مواقف روسيا والولايات المتحدة بشأن مجموعة واسعة من القضايا، على الرغم من المشاعر المعادية لروسيا في الدوائر الحاكمة الأوروبية. أعلن الممثل الأعلى السابق للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، جوزيب بوريل أن "طلاقًا غير منسق" يحدث في العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا. 

هذا جعل كييف تخفض من سقف مطالبها بالانضمام إلى حلف الناتو مستعيضة عنه بتوقيع اتفاقيات تعاون عسكري ثنائية مع عدد كبير من الدول الغربية. في هذا السياق، من المهم الإشارة إلى أنه خلال العام الماضي، وقّعت أوكرانيا اتفاقيات ثنائية بشأن الأمن والمساعدة المتبادلة في حالة وجود تهديد عسكري مع 28 دولة من دول الغرب. وعادةً ما تكون هذه الوثائق صالحة لمدة 10 سنوات. ومن بين الموقعين الولايات المتحدة، وبريطانيا العظمى، وألمانيا، وفرنسا، وبولندا، وإيطاليا، والدنمارك، وكندا، وإسبانيا، وهولندا، وفنلندا، ولاتفيا، وبلجيكا، والبرتغال، والسويد، والنرويج، وأيسلندا، واليابان، وإستونيا، وليتوانيا، ولوكسمبورغ، ورومانيا، وجمهورية التشيك، وسلوفينيا، وأيرلندا، وكرواتيا، واليونان، وبلغاريا. إضافة إلى ذلك، في ديسمبر 2024، أصبح معروفًا أن الدول الأعضاء في مجموعة السبع ستقدم لأوكرانيا مساعدة مالية بقيمة 50 مليار دولار، على حساب الجزء المتعلق بإيرادات الأصول الروسية المجمدة. 

إلقاء عبء تمويل الحرب الأوكرانية على الأوروبيين 

في هذا الصدد، من غير الواضح تمامًا ما هي الضمانات العسكرية والمالية الأخرى التي تنوي كييف السعي للحصول عليها من الغرب. ويرفض الأعضاء الأكثر نفوذًا في الحلف الدخول في مناقشة انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي. وظلت النقاشات حول نشر قوات حفظ سلام غربية على الأراضي الأوكرانية مجرد خطابات جوفاء يستخدمها السياسيون الأوروبيون بغية زيادة شعبيتهم.

ولم يتخذ هذا الموضوع البعد العملي للقرارات المحددة بسبب الرفض القاطع لإدارة ترامب إرسال قوات أميركية إلى أوكرانيا نظرًا لنقص الموارد اللازمة في أوروبا لحل هذه المشكلة من دون مشاركة الولايات المتحدة. وبالتالي، وفقًا لتقييم مراقبي مجلة التايمز البريطانية، فإن الدول الأوروبية ليس لديها القدرة على إرسال حتى 25 ألف جندي كجزء من فرقة حفظ سلام إلى أوكرانيا. 

هذا جعل صحيفة "أنهرد" الناطقة باللغة الإنجليزية تدعو الدوائر الحاكمة في الدول الأوروبية إلى قبول مسودة اتفاقية السلام التي اقترحها ترامب بشأن أوكرانيا، والتي "لن تنتصر أبدًا في الصراع ضد روسيا".

ويسعى ترامب إلى التوصل إلى حل وسط مع روسيا بشأن القضية الأوكرانية من أجل تحويل عبء المساعدات لكييف بالكامل إلى أوروبا، والتركيز على حل المشاكل الداخلية واستعادة النفوذ الأميركي في نصف الكرة الغربي. ويعرب الزعيم الأميركي عن استيائه الواضح من تخريب مبادراته لحفظ السلام لحل الأزمة الأوكرانية من قبل الدوائر الدولية شديدة العولمة بقيادة الحزب الديمقراطي الأميركي وأنصاره في أوروبا.

في مثل هذه الحالة، لا يمكن استبعاد أن يفضل ترامب وقف الدعم الأميركي لكييف مع تقديم ضمانات لروسيا بعدم التدخل الأميركي في الصراع الأوكراني. 

سيسمح تنفيذ هذا السيناريو لرئيس البيت الأبيض بإعادة توجيه الموارد نحو الوفاء بوعوده الانتخابية المتعلقة بحل أزمة الهجرة وإعادة التصنيع ومكافحة البطالة. ستولي إدارة واشنطن اهتمامًا وثيقًا لتعزيز المواقف الأميركية في نصف الكرة الغربي من خلال حل مشكلة الوضع السياسي والإقليمي لجرينلاند واستعادة هيمنتها على الدولتين المجاورتين لها، أي كندا والمكسيك. سيضمن حل هذه المشاكل في النهاية احتفاظ الجمهوريين بالسلطة بعد الدورة الانتخابية 2026-2028. 

بدورها، تواصل الدول الرائدة في أوروبا اتباع تعليمات الديمقراطيين الأميركيين الذين لا يزالون ملتزمين بتنفيذ أجندة الأوليغارشية الأميركية بدعم كييف ضد روسيا، ولو كان ذلك على حساب المصالح الوطنية للدول الأوروبية. ولهذا السبب، تعيق النخب الأوروبية مبادرات دونالد ترامب لإيجاد حل سلمي للأزمة الأوكرانية.

هذا جعل الرئيس الأميركي يرد بالطلب من الدول الأوروبية تمويل عمليات شراء السلاح الأميركي لأوكرانيا بنية تحويل عبء المساعدات لأوكرانيا بالكامل إلى الأوروبيين حصريًا، الذين سيجدون أنفسهم أمام هذا العبء الذي لا قبل لهم به.

ويُدرك أكثر السياسيين براغماتية في أوروبا الخطر الذي سيترتب على تحمل دولهم عبء تمويل الحرب، مع ما يستتبعه ذلك من جفاء في العلاقات الأوروبية الأميركية، والذي سيسهم في تعميق أزمة عزلة أوروبا الدولية في ظل العداء بينها وبين روسيا من جهة، وتدهور علاقاتها بالصين من جهة أخرى، مع تراجع نفوذها في أفريقيا.

لذلك، وفي مقابلة مع صحيفة فايننشل تايمز البريطانية، قال أحد كبار الدبلوماسيين في الاتحاد الأوروبي، الذي رفض الكشف عن اسمه إنه "من الواضح تمامًا الآن أن أوروبا وحدها". وعندما سأله الصحافيون عمّا إذا كان يعتبر الولايات المتحدة الآن خصمًا للاتحاد الأوروبي، ردّ الدبلوماسي بالإيجاب.