أكبر من "فاغنر".. سؤال الداخل الروسي ومواجهة الغرب
يلتقي نقيضان يتفارق خطابهما تماماً تجاه الغرب والاقتصاد المحلّي، يوالي أولهما الغرب واقتصاد السوق، ويستخدم الثاني إدانتهما بضاعة، ويجمعهما تغليب الربح والمصالح الضيقة.
لم يمثّل تشكيل شركة "فاغنر" للخدمات الأمنية استجابة مضادة، بالتقليد، للولايات المتحدة أو استنساخاً لشركة Black water بالذات، لأسباب عديدة أولها اختلاف طبيعة الدولتين والنخبتين الحاكمتين، وموقع مركزية القرار وحدود نفوذ جماعات المصالح في المعادلة الداخلية، فضلاً عن اختلاف وظيفي مصدره تباين الدور العسكري لكل من روسيا وأميركا، وحجم الاستثمارات الموجّهة في عمل "الشركتين"، مع فارق حجم الربح، وهو الأهم، الناتج من العمليات الاقتصادية، أو السياسية والأمنية أو العسكرية ذات الناتج الاقتصادي النهائي، المنفّذة أو المشارَك فيها.
من ناحية أخرى، يجمع النموذجان وجود ضرورة عملية موضوعية لاستخدامهما، باختلاف التفاصيل، مؤدّاها العام الحاجة إلى قوة غير نظامية تقوم بوظائف تأمينية ذات طبيعة خاصة، اقتصادية أو أمنية، وتنفّذ عمليات خارج الاعتراف الرسمي لأسباب سياسية متنوّعة، وتقلل الكلفة "الرسمية" للخسائر البشرية، وللخسارة السياسية في حال فشل تحقيق الهدف.
في الحالتين، اختلف متعهّد الخدمة أو العملية، إذ يشهد المتعهّد الروسي تمرداً يزيد المشهد في أوراسيا تعقيداً، ويصعب في إطار المشهد ذاته أن يكون انطلق بلا تفاهم -أقل من تنسيق -مع القوى الغربية. ما تعكسه تصريحات بريغوجين اللامنطقية والمبالغ فيها عن دخول موسكو وإسقاط الإدارة الحالية، وانطلاق التيار الرئيسي للإعلام الغربي، ووكلائه غير المعلَنين، فوراً في التهويل ورفع سقف إمكانات "فاغنر"، وتقدّمها الواقع تحت الأقمار الصناعية والطيران الروسيين أصلاً، والتوقّعات منها، يبدو أكثر من غزل شعبوي للمتلقّي الغربي أو دعاية لأمثاله في دول الأطراف والجنوب، بل محاولة لتأجيج الداخل الروسي بالدعاية والترهيب والشائعات، امتداداً للعقوبات التي تهدف، مما تهدف، إلى اندلاع احتجاجات لن يمانع الغرب كونها "معيشية"، ويدعم مفجّرها، سياسياً أو عملياً، دافعاً في اتجاهها، ويعوّمها الدور الإعلامي سابق الذكر، وعادةً تصاحبها، أو تليها، حرب أهلية، طائفية أو جهوية أو عرقية.
تكتيك بات مألوفاً، تدعم تكراره التناقضات المألوفة في أي بيئة اجتماعية-سياسية، وتباين المصالح، وغياب عمره سنوات لاستراتيجية موحّدة محددة للغرب الجمعي تجاه أعدائه، من إيران إلى روسيا وصولاً إلى الصين، يعود إلى أسباب عديدة منها تباين المصالح الأميركية-الأوروبية، وتغيّر الإدارات الأميركية، وتصدّعات في الهيكل الاتّحادي الأوروبي وانعدام تجانسه وتباين مصالحه، وخيار أميركي بالإحجام عن استخدام القوة العسكرية المكثّفة.
من ناحية أخرى، تدعم الصلابة الروسية تجاه العقوبات والنجاح النسبي، قياساً لحجمها، في تخفيض أثرها على السكّان، تماسكاً اجتماعياً لا يسهل تفجيره، وإن أمكن تقويض أمنه في جبهة أو أخرى. مشهد نراه الآن، ورأينا مثله سابقاً في الجبهة الشيشانية، ينحصر على الأرض في قطاع ضيق غرب روسيا، ويمثّل خرقاً حقيقياً للأمن القومي، كلفة خطأ الإبقاء على قوات لـ"فاغنر" قرب العاصمة بعد تصريحات بريغوجين التي أدان فيها خطة العملية الخاصة وتوزيع مهامها، لكنه لا يفيد تهديداً ملموساً للكرملين أو خطراً على السيادة الوطنية بالمعنى العام، في مواجهة تمرّد شركة مسلّحة بلا تمثيل اجتماعي، في أكبر بلاد العالم مساحة.
لعلّ أخطر ما يواجه روسيا، غير الوضع الأمني، أهمية حسم الموقف من شرائح أو عناصر إما تجد مصالحها في التربّح من اقتصاد أو تصعيد عسكرة المواجهة مع الغرب، أو في اتّباع مصالحه والشراكة معه بالأساس. فرز ظهَر في بداية العملية الروسية، وقيام مواجهة اقتصادية مع أوروبا وأميركا شملت خروجاً كبيراً لرؤوس الأموال من البلد، وله بعد اجتماعي وسياسي أوسع، مضمونه غياب مصلحة تلك المجموعات في مشروع تنمية ذاتية وفكّ ارتباط منهجي إيجابي مع الهيمنة الغربية، مالياً وعملياً، ونفسه لدى مجموعات مشابهة لكن قريبة للدولة، وجهازها، من مستغلّي النفوذ أو كبار المورّدين (مثل بريغوجين نفسه)، أو عناصر من كبار البيروقراطية أو تجّار الأزمة، حيث تحويل اتجاه متصاعد تدريجي إلى التخطيط المركزي للاقتصاد وهيكل الواردات، إلى تركّز أرباح بالوساطة أو الاحتكار في البيئة التجارية أو غيرها.
هنا، يلتقي نقيضان يتفارق خطابهما تماماً تجاه الغرب والاقتصاد المحلّي، يوالي أولهما الغرب واقتصاد السوق، ويستخدم الثاني إدانتهما بضاعة، ويجمعهما تغليب الربح والمصالح الضيقة، في مواجهة فرصة، أتاحتها العقوبات الطويلة والإرث المعرفي والتقني السوفياتي والإمكانات العامّة، لبناء دولة أكثر تحرراً من النهب المنظم المُدار غربياً، بكسر احتكار توزيع القيمة العالمي واحتكار التكنولوجيا، وبالتحرر المعرفي البحثي، والمساهمة في كسر الهيمنة الاقتصادية. ما يشهد، رغم ذلك، تحديات مثل اعتمادية الاقتصاد على صادرات الطاقة، والعقبات الاقتصادية والعلمية التي تخلّفها العقوبات، وأي وجه فساد ــــــ لا يحمل بالضرورة صفة العمالة وقد يحمل مشروعاً ربحياً خاصاً.
قد يكون هذا نفسه ما جعل الانشقاق قصير الأجل ومنتهياً إلى صفقة سياسية، تزامنت مع إقالة نائب وزير الدفاع المنطقية عملياً بعد خرق عسكري كبير، مع تأكيد روسي أن لا شروط فُرضت على الوزارة أو تغييرات في مناصب الجيش. خرج الرجل إلى بيلاروسيا حافظاً ماء وجهه بتصريح ينكره توازن القوى، عن "وقف التقدّم إلى موسكو حقناً للدماء"، وقد عكَس تحرّكه غياب مفهوميّ السياسة العليا والهدف السياسي، مع تغليب المصلحة الأضيق التي قد تحمل أبعاداً شخصية ووجدانية جوار السياسية، ومفاهيم مثل الإصلاح والسيادة الوطنية تتناقض بطبيعتها مع الانشقاق وإرباك الوضع العسكري حول العاصمة، في دليل واضح أن تحرّكه جاء انتقامياً إعلامي الطابع، يفيد ضربة معنوية سياسية للسلطة الروسية، ويراهن على الاستقواء بعناصر عسكرية غاضبة، إذ تلقّت هواتف آلاف الجنود على الجبهة رسائل نصية موحّدة، قبلها بيومين، تحرّضهم على الانشقاق بدعوى الفشل العسكري وطول مدّة الحرب. لكن الرجل ترك هذا كله بعد ساعات تفاوض قليلة لأنه يوقن أن لا أفق لمغامرته، وغالباً أُعطي، مع ضمان سلامته الشخصية، حدّاً أدنى من المكسب غير العسكري (واستُبعد من هذا المجال للأبد) أقنع ذهنية الربح لديه.
غير الإشارة إلى بعض أصحاب المصالح أو الصلاحيات الكبيرة أن التمرّد ليس مستحيلاً حدّ ذاته، والضربة المعنوية، لم يحقق تحرّك بريغوجين ما هو أبعد. وأظهَر التعامل الروسي سيطرة عملية كذّبت الشائعات السريعة، وهدوءاً لم يعكّره التهويل الغربي وإعلام الإنترنت المقدِّس للرواج على حساب الدقّة والحقيقة، وصولاً إلى تفاهم بوساطة بيلاروسية، وقرار صائب -متأخّر ربما -بضمّ عناصر "فاغنر" غير المتمرّدة إلى الجيش بصفة التعاقد، أي انتفاء كيانها المستقل.
ويبقى السؤال عن السبب والسياق اللذين أنتجا إمكانية هذا التمرّد بالأساس: الصلاحيات ذات الطابع العسكري والأمني، ومصدرها البديهي الانتماء إلى دائرة الحكم القريبة، التي تحتاج إلى ما هو أكبر وأكثر نضجاً وجذرية من التآلف المصلحي الطبقي أو البيروقراطي، وطبيعي أن يكلّفها مشروع تحويل البيروقراطية الروسية (إجمالاً) إلى قوة طليعة عالمية لممانعة هيمنة الغرب ما هو أكبر من مصادرة الأموال الشخصية في الخارج أو العجز عن السفر إلى دول عديدة، بل سيدفعها، حال استمراره، إلى تغيير طبيعة تلك الشريحة ومفهومها عن "الدولة"، التي تمثّل في تلك الحالة مشروعاً وطنياً وليس أداة تحصيل مكاسب أضيق.