ما دلالة الضربة التي تلقتها روسيا؟ أمنيةٌ أوكرانية أم إعلان ضمني لحرب أطلسية؟

ما جرى داخل روسيا لا يمكن فصله عن السياقات الدولية الأوسع. الضربة تحمل رسالة مزدوجة: لأوكرانيا، بأن الدعم الغربي مستمر، ولروسيا، بأن التفاوض لا يعني بالضرورة وقف الضغط.

0:00
  • الضربة في سياقها السياسي: مفاوضات وتوقيت مدروس.
    الضربة في سياقها السياسي: مفاوضات وتوقيت مدروس.

في معمعة التحولات الجيوسياسية المتسارعة، وبين خطوط الاشتباك الممتدة من شرق أوروبا إلى قلب آسيا، برزت الضربة الأخيرة التي استهدفت منشآت عسكرية استراتيجية داخل العمق الروسي بوصفها لحظة فارقة، تتجاوز في دلالاتها البعد التكتيكي الظاهر، لتلامس حدود التحول في منطق الصراع نفسه.

ما جرى ليس عملية تقليدية يمكن إدراجها ضمن خانة الهجمات المتبادلة بين موسكو وكييف. بل هو حدث يتسم بجملة من السمات النوعية: عمق جغرافي غير مسبوق تجاوز 4500 كلم من مسرح المواجهة المباشرة، واستهداف مباشر لقواعد استراتيجية تُعد من أركان منظومة الردع الروسية، وقبل كل ذلك، تنفيذ جزئي للعملية من داخل الأراضي الروسية نفسها.

كل هذه المؤشرات تجعلنا أمام نمط جديد من الاشتباك، تتقاطع فيه الجغرافيا مع الاستخبارات، والتقنية مع الرسائل السياسية، وتتحول فيه الأرض الروسية إلى ساحة اختراق معقدة، بما يحمله ذلك من أسئلة عن مدى التغلغل الغربي، وعن التورط الأطلسي غير المعلن.

من طهران إلى موسكو: نمط الاختراق المشترك

هذا النمط يعيدنا إلى ما شهدته إيران في العام الماضي، حين وقعت سلسلة من الاغتيالات والعمليات النوعية داخل أراضيها، "اتُّهمت" إسرائيل حينها بتنفيذها، وهي، كما هو معلوم، شريك عضوي غير رسمي في منظومة الناتو. واليوم، تواجه روسيا ضربة مشابهة من قبل شريك رسمي هو أوكرانيا، لكن بروح استراتيجية توحي بتنسيق متقدم بين كييف ومكونات حلف شمال الأطلسي، وخصوصًا في بُعدها الاستخباري-اللوجستي، وربما حتى في مستوى الإشراف العملياتي.

الخطورة هنا لا تكمن فقط في الفعل العسكري ذاته، بل في ما يفتحه من احتمالات جديدة لمسار الحرب. فنحن لم نعد أمام حرب ميدانية على الجبهات التقليدية، بل أمام عمليات هجينة تُنفذ بوسائل أمنية متطورة، تستند إلى تقنيات الرصد والتوجيه، وتُنفذ داخل العمق الاستراتيجي للخصم، وهو ما يُخرج الحرب من طابعها المحدود، ويدفع بها نحو مستوى جديد من الاشتباك المركب.

الضربة في سياقها السياسي: مفاوضات وتوقيت مدروس

اللافت أن توقيت الضربة جاء قبيل انطلاق جولة تفاوضية جديدة بين روسيا وأوكرانيا، في ظل ضغوط أميركية مكثفة على موسكو لتقديم تنازلات تُسرّع الوصول إلى تسوية. ويبدو واضحًا أن واشنطن، من خلال هذه الرسائل الأمنية، تحاول دفع الكرملين إلى طاولة المفاوضات بشروط أكثر مرونة، تحت ضغط العمليات الموجعة. فقبل يومين فقط من الضربة، خرج الرئيس ترامب ليُحذر روسيا من “أحداث سيئة” ستقع لها إذا ما استمرت في مماطلتها، وهي عبارة لم تكن عابرة أو منزوعة من سياقها، بل عكست نوعًا من الإنذار غير المباشر الذي سرعان ما تُرجم على الأرض.

لكن الأمر لا يقتصر على روسيا. فبموازاة ذلك، يُلاحظ تصاعد الضغط الأميركي على طهران في ملفها النووي، حيث عادت وكالة الطاقة الذرية لتصدر مواقف متشددة، وتُحذّر من أن إيران تملك مخزونًا يكفي لصناعة عشر قنابل نووية، في محاولة واضحة لإعادة تشكيل ميزان التفاوض. كما يشهد الميدان الفلسطيني ضغوطًا باتجاه فرض تسوية لوقف الحرب على غزة، بالتوازي مع توجيه رسائل ضغط إلى حلفاء إيران في الإقليم.

استراتيجية "الضغط-التفاوض”

ما يجري إذًا ليس سوى تطبيق مدروس لاستراتيجية “الضغط-التفاوض”، وهي المقاربة التي يفضلها ترامب منذ عودته إلى الحكم، وتقوم على تكثيف الضغوط الأمنية والاقتصادية والسياسية لدفع الخصوم إلى قبول تسويات مُعدة مسبقًا، تخدم مصالح البيت الأبيض، وتُقدّم للرئيس على أنها انتصارات استراتيجية في سجله الانتخابي.

لكن هذه الاستراتيجية، التي تبدو منطقية على الورق، تحمل في طياتها بذور انفجار محتمل، إن فُهمت من قبل الخصوم على أنها خطة إذعان لا تفاوض. وهنا تحديدًا تظهر لعبة التوازن الحساسة التي تمارسها كل من موسكو وطهران: قبول مبدأ التفاوض، مع الحفاظ على شروط الحد الأدنى، والإبقاء على أوراق ضغط كافية للحؤول دون الانهيار الكامل.

ترامب والأزمة الداخلية: تسارع الخطى وتآكل التماسك

في الداخل الأميركي، لا تبدو صورة الإدارة أكثر إشراقًا. فالرئيس الذي دخل ولايته الثانية وهو يَعِد بإصلاح شامل في بنية الدولة، يواجه اليوم اضطرابًا واضحًا في فريقه. سلسلة إقالات وتبديلات، أبرزها إبعاد مايك والتز عن مجلس الأمن القومي، وتسليم ماركو روبيو زمام الملف، إضافة إلى الحديث عن نقل مورغان أورتاغوس إلى الشرق الأوسط، في خطوة تعكس ارتباكًا في مقاربة واشنطن لهذا الإقليم الساخن.

إلى جانب ذلك، انهار مشروع DOGE الذي قاده إيلون ماسك لرقمنة الإدارة الأميركية، وهو مشروع طموح وُضع كأداة لخفض الإنفاق وتحسين الأداء، لكنه فشل بسبب ما وُصف بغياب الرؤية الجدية لدى فريق ترامب. كذلك، تعرّضت سياسة الرسوم الجمركية لضربة قوية، بعدما أصدرت المحكمة الفدرالية حكمًا يُقيد قدرة الرئيس على اتخاذ قرارات من هذا النوع من دون تفويض من الكونغرس.

هذه التطورات تُضعف قدرة ترامب على المناورة، وتضعه تحت ضغط متزايد لتقديم “إنجازات” خارجية تعوّض الخسائر الداخلية، وهو ما يفسر استعجاله في الملفات الكبرى: الملف الإيراني، التسوية مع روسيا، وقف الحرب في غزة، وغيرها.

قراءة روسية دقيقة: لا حرب… ولكن لا تراجع

في موسكو، يبدو أن الكرملين يدرك أبعاد اللحظة بدقة. فهو من جهة يرى في الضربة تطورًا خطيرًا يمس هيبة الدولة وسيادتها، ويستوجب ردًا، لكنه في المقابل يعرف أن الانجرار إلى مواجهة شاملة قد يُفقده مزايا المسار التفاوضي، ويضعه في موقف دولي حرج. ولذلك، تشير الترجيحات إلى أن الرد سيكون موضعيًا، مركزًا على أهداف حيوية، ربما تشمل البنية التحتية الأوكرانية أو منشآت الطاقة، لكن من دون تجاوز الخط الأحمر الذي يفصل بين “الضغط المتبادل” و”الانفجار الكبير”.

الأهم أن موسكو، رغم الضربة، أرسلت وفدها التفاوضي في اليوم التالي، وقدّمت ورقة تفاوض جديدة، وإن بقيت عند سقف مرتفع نسبيًا مقارنة بالموقف الأوكراني، وهو ما يدل على أن روسيا لا تزال تُراهن على التفاوض كمسار مركزي، مع الاحتفاظ بخيار التصعيد كأداة توازن.

تقاطع المصالح والتهديدات: من هو المستفيد من التعطيل؟

عند قراءة المشهد من زاوية أوسع، يمكن القول إن هناك قوى داخل وخارج الإدارة الأميركية لا تُريد لترامب أن يُنجز تسويات كبرى. بعضها يرى في عودته تهديدًا للمشروع الليبرالي العولمي الذي ساد العقدين الأخيرين، وبعضها الآخر يتحفظ على طبيعة الحلول التي يسعى إليها، كونها ترتكز إلى الانكفاء من التورط العسكري، واعتماد الواقعية السياسية والتوازنات الإقليمية، لا الهيمنة الأحادية.

هؤلاء يدفعون باتجاه تعطيل التسويات عبر تفجير الملفات الأمنية، سواء في أوكرانيا، أم في إيران، أو حتى غزة. الهدف ليس إشعال الحرب بالضرورة، بل منع إطفائها بشروط لا تخدم مشروع الهيمنة، والحؤول دون أن يتحول ترامب إلى “صانع تسويات” يُعيد تشكيل النظام الدولي برؤية محافظة وانعزالية.

بين الرد الروسي وضبط الإيقاع الدولي

إن ما جرى داخل روسيا لا يمكن فصله عن السياقات الدولية الأوسع. الضربة تحمل رسالة مزدوجة: لأوكرانيا، بأن الدعم الغربي مستمر، ولروسيا، بأن التفاوض لا يعني بالضرورة وقف الضغط. لكنها أيضًا رسالة لترامب، بأن طريقه إلى التسويات لن يكون مفروشًا بالورود، وأن كل تأخير في الحسم سيُقابل بتسخين ميداني أو تعطيل سياسي.

أما الرد الروسي، فسيكون حتميًا، لكنه محسوب، يستوعب الضربة من دون نسف المسار، ويعيد ضبط ميزان القوى على الأرض من دون إسقاط أدوات الدبلوماسية. في المقابل، تبدو إدارة ترامب عالقة بين ضغط الداخل، وانفجار الخارج، ومحاولات إفشالها من قوى نافذة لا تريد إعادة هندسة التوازنات العالمية، بل الحفاظ على معادلة “الضغط بلا تسوية”.

إنها لحظة مفصلية، تتقاطع فيها أدوات الحرب وأوراق الدبلوماسية، وتُكتب فيها التحولات الكبرى لا بالحبر، بل بالدم والرماد، على أطراف روسيا، وفي قلب العالم.