أحداث الساحل ومستقبل الانفتاح السياسي على سوريا

ما حدث في الساحل تحدٍ كبير، ولن يكون الأخير، ولا شك أن المعالجة العسكرية والأمنية لن تكون كافية، بل يجب أن تتبعها خطوات سياسية منها الإسراع في تشكيل حكومة ممثلة لكل أطياف الشعب السوري.

  • من المفيد جداً للحكومة السورية سرعة التعاطي مع الحدث بحزم ومصداقية.
    من المفيد جداً للحكومة السورية سرعة التعاطي مع الحدث بحزم ومصداقية.

أحداث دامية شهدتها منطقة الساحل السوري شكّلت منعطفاً خطيراً وضع سوريا على مفترق طرق، لجهة الحفاظ على ما تبقى من هيبة الدولة ووحدتها، أو المضي في اقتتال طائفي يضع نهاية لخريطة الدولة السورية الواحدة الموحّدة. ما حدث لم يكن مفاجئاً فكل مسبّباته حاضرة وبقوة، و"ثنائية الداخل والخارج" تبدو متناغمة، وليس هناك ما يمنع ارتباطها في ظل توفر أكثر مسببات نجاحها.

دول عربية تحيط بسوريا لا تزال تتوجس خوفاً من التعاطي مع الإدارة الجديدة في سوريا، بل إنه من الصعب عليها طي صفحة الماضي، وما يحمله من ذكريات دامية في كثير من الأوقات. دول إقليمية متنافسة ولها من ركائز القوة ما يجعلها قادرة على الفعل، بعد أن ابتعدت عن "رد الفعل" على ما حدث في سوريا، خلال الأشهر الثلاثة الماضية. دول أوروبية بادرت إلى التواصل والتعامل مع حكومة دمشق انطلاقاً من سعيها لحماية أمنها القومي، الذي باتت ظاهرة اللاجئين السوريين أكبر تحدياته.

الجميع يعمل مستغلاً غياب "الفيتو" الأميركي على التعاطي مع حكومة دمشق، انطلاقاً من رغبة الولايات المتحدة في النأي بنفسها عما يحدث في سوريا، باعتبارها مستنقعاً لا تريد الغوص فيه.

نشاط دبلوماسي كبير قام به وزير الخارجية السورية أسعد الشيباني استطاع من خلاله خلق صورة جديدة عن "حكام سوريا الجدد"، مكرساً نهجاً براغماتياً جديداً تسعى الحكومة السورية إلى استثماره في التواصل مع الغرب، لطمأنتهم، وحثّهم على إعادة العلاقات مع سوريا ورفع العقوبات عنها.

خطاب هادئ ومقتضب ورصين حاول الرئيس الانتقالي أحمد الشرع السعي من خلاله لطمأنة المجتمع السوري بمكوّناته كافة، لكن ذلك لم يمنع ظهور بعض الخارجين عن القانون، وغير الملتزمين به، فلم يكتفوا بارتكاب الجرائم، بل قاموا بتصويرها وتوثيقها بأنفسهم، ما أعطى رسائل سلبية مفادها أنهم أمنوا العقاب.

الهجوم على عناصر الأمن العام ومهاجمة مؤسسات الدولة أمر لا يمكن التهاون معه، لكن احترام القانون والالتزام به هو المعيار، فقوة الجيش تكمن في انضباطه.

حصر السلاح بيد الدولة مطلب شعبي وهو أولى واجبات الحكومة، وبالتالي لا يمكن تركه لدى شريحة من شرائح المجتمع السوري دون غيرها.

نهاية فترة الاسترخاء الأمني

مخاوف كبيرة من حدوث تصفيات ومواجهات قد تأخذ طابعاً طائفياً في بعض الأحيان تترافق مع مرحلة سقوط النظام، تجاوزتها سوريا، ما أعطى انطباعاً بأننا تجاوزنا الذروة والمرحلة الأصعب.

مخاوف كبيرة تشكلت لدى عناصر الجيش والشرطة، بل ربما لدى شريحة واسعة من المجتمع السوري، نتيجة لاستخدام مصطلح "فلول النظام"، الذي يبدو أنه مفهوم مطاط يمكن تعميمه ليشمل قطاعات واسعة من المجتمع.

إقالات واسعة لشريحة كبيرة من العاملين في مختلف مؤسسات الدولة، من دون مراعاة لحقوقهم وتعويضاتهم التقاعدية بحجة أنهم فائض يمكن الاستغناء عنه، وفي المقابل، تعيين موظفين في تلك القطاعات نفسها.

تأخر في صرف رواتب الموظفين والمتقاعدين نتيجة شح الليرة السورية، وهبوط كبير في سعر الدولار أدى إلى انخفاض قيمة الحوالات التي يرسلها بعض المغتربين إلى أهلهم.

فشل الحكومة في تأمين زيادة الرواتب التي وعدت بها منذ وصولها إلى السلطة، والتي حددتها بنسبة 400%، وزيادة أسعار الخبز وغيره من المواد الأساسية التي يحتاجها الفقراء.

تآكل مدخرات السوريين فجأة، فمن كان يمتلك سيارة كمشروع استثماري يعيش منه، وجد نفسه وقد فقد نحو 70% من قيمتها، وبالتالي فإنه بحاجة إلى العمل سنوات عدة لتعويض الخسارة في رأس ماله.

هذه الأسباب وغيرها تثير القلق لدى المواطن، ولا يجد خطاباً حكومياً رسمياً يعمل على طمأنته، في ظل غياب وسائل الإعلام الرسمية، وتسريح عدد كبير من العاملين فيها.

ظهور شخصيات ناطقة باسم الحكومة، ومستفزة للشعب السوري، في ظاهرة أقرب ما تكون إلى استنساخ شخصيات من أركان النظام البائد.

الاستهداف الكبير لنشاط الحكومة وتوجهاتها من قبل الذباب الإلكتروني حقيقة يمكن رؤيتها في مواقع التواصل الاجتماعي، التي باتت المصدر الرئيس لمعلومات السوريين، رغم غياب المصداقية والتشويش الكبير الذي تتضمنه أخبارها.

هذا الواقع لا شك أن الحكومة لا تتحمّله وحدها، خصصواً أنها ورثت بلداً مدمراً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ليس على الصعيدين السياسي والاقتصادي فقط، بل حتى الواقع الاجتماعي الذي يحمل في ثناياه شرخاً يجب العمل على ترميمه.

مقارنة أخطاء اليوم بخطايا النظام السابق فيه ظلم كبير للحكومة، والحرص على الحفاظ على الثورة السورية يحتّم على الجميع الإشارة إلى تلك الأخطاء وفضح مرتكبيها.

الحديث عن "العدالة الانتقالية" يثير فزع البعض

العدالة الانتقالية ومحاسبة من تلطخت أيديهم بدماء الشعب السوري، مطلب شعبي تعهدت الحكومة بتنفيذه، وأكّده مؤتمر الحوار الوطني.

الكثير من هؤلاء بات من المحتم عليه الدفاع عن وجوده، لمعرفته بما اقترفت يداه، خصوصاً أن الكثير من الجرائم التي ارتكبوها كانت موثقة، ويشهد عليها الكثير من أبناء سوريا.

سعى العديد منهم إلى تغيير الواقع، ومواجهة قوى الأمن في الساحل السوري، أملاً في جر البلاد إلى مشهد طائفي يستدعي تدخل قوى أجنبية لفرض "حماية الطائفة العلوية"، حتى لو كان ذلك على حساب وحدة سوريا.

استقواء البعض بقوى أجنبية لحمايتهم أمر يستنكره جميع السوريين، فـ "إسرائيل" لن تحمي الدروز، وأميركا ليست حريصة على الكرد، وروسيا معنية أولاً وأخيراً بحماية مصالحها لا حماية العلويين.

دعوات كثيرة ظهرت لحض فلول النظام البائد على عدم إلقاء السلاح، رغم أن العديد منهم كان قد بادروا إلى تسوية أوضاعهم مستفيدين من العفو الذي دعت إليه الحكومة الجديدة.

رفض الكرد في الشمال إلقاء سلاحهم، وكذلك الدروز في الجنوب، وعدم دخول عناصر الأمن العام إلى تلك المحافظات، ولّد شعوراً لدى الكثير من أبناء الساحل أن إلقاء السلاح كان خطأً، وأنه يجب تأخيره أسوة بغيرهم من الطوائف، أو إلى حين الحصول على عفو عام يؤسس لبداية مرحلة جديدة عنوانها "عفا الله عن ما مضى".

الخوف من أن تصبح هناك حاضنة شعبية لمثل هؤلاء نتيجة لتفاقم الأوضاع الاقتصادية أمر يجب الانتباه إليه، ومعالجته من قبل الحكومة.

تطبيق العدالة الانتقالية يحتاج إلى هيئات قضائية مستقلة، ورقابة دولية تعزز من مصداقية عمل الحكومة ودورها كـ "ميسر" لتحقيق ذلك، مع التأكيد أنها تشمل جميع الأطراف، من دون أن تكون هناك حصانة لطرف دون آخر، بمعنى أن تكون عدالة "فوق طائفية".

في العدالة الانتقالية الجميع له حقوق إلا الدولة، بمعنى أنه لا يوجد هناك "حق عام" وفقاً للقانون السوري، وبالتالي فليس من حق السلطة إصدار العفو عن المجرمين، ويتلخص دورها في حماية الحقوق وتحقيق المساواة.

رغبة دول الاتحاد الأوروبي في لعب دور في قضية العدالة الانتقالية يبدو أنها لن تحظى بالرضى والقبول لدى الحكومة السورية، التي ترى في ذلك تدخلاً في شؤونها الداخلية.

المهم هو الشفافية في تطبيق ذلك، والأهم هو الابتعاد عن عقلية الغالب والمغلوب، فالجميع مهزومون ما دامت سوريا باتت اليوم تعيش أسوأ مراحلها التاريخية.

ما حدث في الساحل السوري تحد كبير، ولن يكون الأخير، ولا شك أن المعالجة العسكرية والأمنية لن تكون كافية، بل يجب أن تتبعها خطوات سياسية منها الإسراع في تشكيل حكومة ممثلة لكل أطياف الشعب السوري، وتشكيل برلمان مصغر يضم قامات وطنية من مختلف المكوّنات، وألا يكون الولاء هو المعيار الأوحد في اختيارهم، مع التذكير بضرورة الاستفادة من أخطاء النظام السابق وسياساته.

ما حدث من تجاوزات بحق أهلنا المدنيين في الساحل أمر يجب عدم السكوت عنه، خصوصاً أن الحكومة منفتحة على محاسبة المسيئين، وهو ما تجسد بصدور قرار رئاسي بتشكيل لجنة وطنية مستقلة للتحقيق وتقصي الحقائق في أحداث الساحل السوري.

رفع الصوت في وجه من يستنكر المجازر في حق أهلنا في الساحل السوري وتذكيره بجرائم نظام الأسد فيه إساءة للحكومة الانتقالية في سوريا، فما فائدة الثورة إذا كانت ستكرر مجازر النظام.

اعتراف الحكومة بحدوث بعض التجاوزات أمر إيجابي يعزز مصداقيتها، ويجعل الكثير منا ينتظر نتائج التحقيق التي سوف تصدر خلال 30 يوماً، وفقاً للقرار الرئاسي.

الحديث عن سلوك غير منضبط من قبل بعض الفصائل لم يعد مبرراً، خصوصاً أن تلك الفصائل باتت منضوية تحت مظلة وزارة الدفاع. مع الإشارة إلى شهادات الأهالي التي أشادت بسلوك قوات الأمن العام، ما يعني أن هناك مصداقية وإنصافاً في التقييم.

وجود المقاتلين الأجانب أثار حفيظة السوريين، والمشاهد المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي تشير إلى همجية هؤلاء ووحشيتهم، وخطورة الخطابات الطائفية التي استخدموها.

السوريون محكومون بالعيش المشترك، والمتربصون بثورتها كثر، ويبدو أن أزمتها بدأت تأخذ أبعاداً أخرى، بعد دخول الولايات المتحدة الأميركية على خط أزمتها، وهو ما يفتح الباب أمام سماع مواقف دولية أخرى تؤدي في النهاية إلى عرقلة مسار الانفتاح السياسي على سوريا.

دعوة كل من روسيا والولايات المتحدة إلى عقد جلسة مغلقة لمجلس الأمن الدولي لإجراء استشارات حول أحداث العنف في سوريا من المرجح أن تصل إلى توافقات لاستصدار قرار لاحقاً قد لا يكون مريحاً للإدارة الجديدة في سوريا.

خسارة دمشق وقوف كل من روسيا والصين إلى جانبها في مجلس الأمن يزيد من احتمالات صدور قرار أممي سيكون من أولى مفاعيله عرقلة موجة الانفتاح السياسي على دمشق ومراجعة قضية رفع العقوبات عنها.

من المفيد جداً للحكومة السورية سرعة التعاطي مع الحدث بحزم ومصداقية، ومعالجة الأخطاء، وصولاً إلى خلق قناعة صادقة لدى الجميع برغبتها في بدء صفحة جديدة من تاريخ سوريا عنوانها المحبة والبناء ونبذ منطق المنتصر والمهزوم، ومحاربة الفكر الطائفي وتجريمه.