هل يعبر الإرهاب الاقتصاديّ إلى العقول قبل البطون؟
في الجانب اللبناني، تأتي المفاوضات مع صندوق النقد الدوليّ بشروط مكمّلة لقانون قيصر، إذ يرغب الصندوق، ومن ورائه الإدارة الأميركية، في إغلاق الحدود بين البلدين.
ليس سهلاً أن لا تطلب دولة من الدول النامية قرضاً من صندوق النقد الدولي، الأمر الذي أغضب رعاة الاقتصاد العالمي من سوريا، وهم على دراية بأن ذلك يمنعهم من فرض أيّ تسويات سياسية عليها، فاستخدموا شتى أنواع التّدمير.
لقد جنّ جنون الملياردير الأميركي جورج سوروس حين علم بما كان يخطّط له رئيس ليبيا الراحل معمر القذافي، وهو تحويل عملة بلاده إلى ذهب، متحدياً الخطوط الحمراء الاقتصادية التي رسمتها الإدارة الأميركية للعالم. وكان ذلك كافياً لتدمير ليبيا وتقسيمها وقتل رئيسها بأبشع الطرق، فهل يُسمح لسوريا بأن تخرج من حرب مدمرة لتصنع وتزرع وتنسج وتبني؟ إنّ ما لم تحققه الإدارة الأميركية وأدواتها في الحرب، تسعى إلى تحقيقه اليوم بتضييق الخناق عليها وعلى دول الممانعة.
تشهد سوريا ولبنان ظروفاً اقتصادية تعتبر الأسوأ على الإطلاق، والبلدان خارجان لتوهما من أبشع حرب في العصر الحديث. ترصد مراكز الدراسات الأجواء السورية، وتتوقع انهيارات دراماتيكية في الدولة السورية، متّكلة في صياغة تقاريرها على مراسلي المجموعات المسلحة التي كانت تنقل الأحداث في بداية الأزمة السورية، والتي أخبرت المواطن العربي بأن الدولة السورية انهارت منذ العام 2011.
اليوم، وبعد مرور أكثر من 8 سنوات على الحرب، وحين كادت الدولة السورية تبدأ بمرحلة إعادة الإعمار، جاء قانون قيصر الأميركي ليفرض عقوبات على كل من يتعامل مع الدولة السورية، أفراداً كانوا أو شركات، فتحطم بذلك آمال رجال الأعمال العرب في فرصة كانوا ينتظرونها بفارغ الصبر.
في الجانب اللبناني، تأتي المفاوضات مع صندوق النقد الدوليّ بشروط مكمّلة لقانون قيصر، إذ يرغب الصندوق الدولي، ومن ورائه الإدارة الأميركية، في إغلاق الحدود بين البلدين، بحجّة "سد المعابر غير الشرعية"، عبر تكليف الجيش اللبناني بإغلاق معابر المقاومة أيضاً، ما يعني إشعال حرب أهلية لا يمكن للجيش اللبناني أن يخوضها ضدها بأي شكل من الأشكال.
وعلى هذا الأساس، بدأ الضغط لإيقاف المساعدات الأميركية للجيش اللبناني على خلفية هذا الرفض، لتبدأ مهمة حلفاء الولايات المتحدة في لبنان بالمشاركة في حصار سوريا، ولو بطريقة شعبيَّة، عبر إشراك بعض المتظاهرين في الشّمال في مهمة إعاقة مسير شاحنات المواد الغذائيّة إلى سوريا، بحجّة أنّ "لبنان أحقّ بهذه المواد".
تماماً مثل سوريا، تشكّل الصواريخ الدقيقة التي تمتلكها المقاومة مصدر قلق للعدو الإسرائيلي. هذا الأمر يعتبر سبباً كافياً للإدارة الأميركية لفرض عقوبات اقتصادية على لبنان، فإذا لم تستطع التفاوض معه على نزع سلاح المقاومة، فيمكن تجزئة المفاوضات وتأطيرها بنزع الصواريخ الدقيقة التي تمتلكها المقاومة. وإذا كانت المقاومة لم تقبل بالتخلي عن شبكة الاتصالات في العام 2005، فكيف بصواريخ ستغيّر كفة الصراع العربي الإسرائيلي، وتعتبر مصدر قوة وازنة للمقاومة وللبنان؟
مع كلّ هذه العثرات، يأتي رياض سلامة ليشكّل رأس حربة الإدارة الأميركية في الميدان المالي والاقتصادي والتلاعب بسعر الدولار، ريثما ينكفئ حزب الله ويرضخ. في المقابل، ورغم الغضب والفوضى من بوابة الأوضاع الاجتماعية، عجز الشارع اللبناني عن تحريك حتى مشاعر سلامة، بل سعت بعض الأطراف السياسية إلى تحويل غضب المتظاهرين وتوجيهه نحو الرئيسين عون ودياب، وطمأنة الخط الأحمر الأميركي الحساس في بيروت؛ رياض سلامة.
يدرك السياسيون اللبنانيون أنّ رغبة الشارع في إسقاط سلامة ضرب من الجنون، فأميركا هي الآمر الناهي في الاقتصاد اللبناني، وهذه حقيقة لا يمكن تجاوزها، وبالتالي يعتقد هؤلاء أن إسقاط سلامة يعني مواجهة مفتوحة مع أميركا لا يقدرون عليها.
من جانب آخر، يحاول الرئيس نبيه بري المحافظة على شعرة معاوية مع الولايات المتحدة، ويجد أنّه ليس مناسباً للبنان أن يخوض مواجهة تنطوي في رأيه على مخاطر جسيمة. في المقابل، ترسل الولايات المتحدة سفيرتها في بيروت دوروثي شيا لزيارة الرئيس عون لتطمئن: "لا عقوبات على حلفاء حزب الله"، على قاعدة: "أظهر العصا، ولكن لا تستعملها".
يظنّ البعض في الداخل اللبناني أن الولايات المتحدة على أبواب انتخابات، ويسعى ترامب إلى تحقيق بعض الإنجازات بما تبقّى له من وقت، ما يسمح للبنان بالتحلّل من بعض الالتزامات والمرور من ثغرات هذه الفرصة، فهل يستطيع لبنان إيجاد مخارج تتيح له ولسوريا عبور هذه المرحلة بأقلّ الخسائر؟
في سياق متمّم، فإن كمّية الصواريخ الدقيقة في لبنان والوجود الاستشاري الإيراني والمقاومة في سوريا يشكل هاجساً لدى العدو الإسرائيلي، وهو يسعى بجهده لإخراجها، بهدف إبعاد التهديدات التي تؤرق مصير كيان يعيش هذه الأيام كوابيس تعاظم قدرات محور المقاومة، في وقت ترى القيادة السورية والإيرانية أن تواجد قوات محور المقاومة قرب الحدود الفلسطينية هو جزء من تموضع استراتيجي لدخول فلسطين في أي حرب مقبلة.
في المحصّلة، لم تنجح العقوبات الاقتصادية الأميركية يوماً في محاصرة البلدان الممانعة للسياسات الأميركية، من كوريا الشمالية وإيران، إلى فنزويلا وسوريا، وحتى لبنان، فقد استخدم الرؤساء الأميركيون سابقاً ورقة العقوبات للفوز بدورات انتخابيّة، لكن الغضب والجوع هذه المرة ليسا في الدول الممانعة فحسب، بل في قلب الولايات المتحدة أيضاً.
هنا، وفي ظل هذه المواجهة، على شعوب منطقتنا التأكيد أنّ مصير لبنان ليس منفصلاً البتة عن مصير سوريا، كما أن المقاومة لم تكن سبباً في يوم من الأيام في تردي الأوضاع الاقتصادية، بل كان السفراء يأتون من خلف البحار محمّلين بالحجج، لدحض رواية المقاومة وإثارة الفتنة في وجهها.
وقد تكون صياغة التقارير الأميركية بحاجة دائماً إلى ملح وبهار محلي وإقليمي، فمنع الإرهاب الاقتصادي الأميركي على بلداننا يبدأ بإيقاف هدر المال العام، ومحاسبة الفاسدين، ومراكمة المقاومة في كل مستويات ومفاصل الشعوب.