أن تحقق إنجازاتك برفقة إله الأشياء الصغيرة
فلنتخفف من همّ الإنجازات الكبيرة التي نثقل أنفسنا في إحصائها نهاية كل عام، وما استطعنا إتمامه منها وما لم نستطع لأسباب كثيرة. فلنحدد أهدافنا بطريقة معقولة ونسعى إليها بجدّ، ونعيش تفاصيل أيامنا كلها على أنها نِعمٌ في طريق الأهداف.
ليست الإنجازات وحدها ما يُحسب للشخص ليقول إنه أمضى عاماً زاخراً ويخرج منه منتشياً. وأعرف الآن أنه أول ما سيأتي إلى ذهنك حين تُسأل عن العام الذي شارف على الانتهاء، تلك الأحلام الكبيرة التي تكون قد حققت غالبيتها أو بعضاً منها أو لم تحقق منها شيئاً. الأحلام التي نعرفها جميعاً: عمل ودراسة وزواج وسفر وغيرها. لكن سأخبرك سرّاً، هذه الأحلام ليست كافية. وأعرف أنه على أهميتها، لم تحقق لك سعادة ممتدة على الـ365 يوماً الذين مضوا. بصباحاتها وعشيّاتها، بنجاحاتها وتعثراتها، وبكل تفصيل صغير فيها.
وددت في هذا المقال أن نتحدث عن الأشياء الصغيرة، التي قد لا تُسمّى إنجازات، لكنها غيّرت في لحظات انكساراتنا ونشوة أفراحنا الكثير. سأبدأ من قصّة صغيرة حدثت معي في الأشهر الماضية. كانت صبيحة أحد أيّام الصّيف الحارّ، وردني اتصال من صديقة قالت لي إنها خرجت إلى الشارع لتمشي. ليس في الأمر عجبٌ، أليس كذلك؟ لكن جملتها هذه تركتني أبكي طويلاً، صديقتي لم ترَ ضوء الشمس لعامين كاملين. هي مصابة بداء الرّهاب الاجتماعي. لم يكن يعرف كنهه أحد. عانت طويلاً وأصابتها نوبات بكاء هستيرية على امتداد العامين، لسبب أن بيئتها أنّبتها كثيراً لمكوثها في البيت طوال الوقت من دون أن تفعل أي شيء لحياتها. لم يكن إعراضها عن الخروج قراراً بل عجزاً. لكنّي لم أتركها يوماً، قرأت كثيراً عن المرض وكيفية التعامل مع المصاب به، وأن جمل التحفيز العادية ليست مجدية بتاتاً بل هناك طرق أكثر عمقاً للتأثير. حين أخبرتني أنها في لحظة واحدة خرجت من المنزل والتقت بشمس النهار بين الناس، شعرت وكأنّي نلت جائزة نيابة عن الحياة.
قصص كثيرة كهذه نمرّ بها يومياً، لكننا لا نلتفت إليها، لأننا مأخوذون بمسمّيات الإنجازات الكبيرة، التي هي أصلاً تحتاج منّا صبراً ووقتاً لتختمر وتكون نتائجها مرضية. لكننا لا نرحم أنفسنا، بل متروكون لعجلة الحياة الخارجية التي لم نضع قوانينها نحن، بل تحكمت بنا حتى استحوذت علينا، وحمّلت الكثير منّا أعباء تفوق طاقاتهم، وبعد ذلك جاء من يقيّمنا، ومن يفشل وسط هذه الجلبة يكون سقوطه هدّاماً.
يمكننا فهم أثر الأفعال التي نقوم بها لأنفسنا ولغيرنا من خلال شيء أساسي: أن إله الكون هو نفسه إله الأشياء الصغيرة، التي يوليها اهتماماً وينظر وينصت إليها، فيضاعف على إثرها الخير انطلاقاً من الآية الكريمة: "فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ". تصادفنا الكثير من المواقف التي لا نسجلها لأنفسنا على أنها خطوات نحو الهدف. ولا نعير اهتماماً لسلامنا الروحي وطمأنينتنا وبنيتنا الإنسانيّة، وأن نكون متعافين من القلق والخوف وأن نساعد غيرنا على ذلك، بل لا نفعل سوى تجاوز ذلك كله من أجل "الأحلام الكبيرة"، التي سنصل إليها حتماً، لكن السؤال هو: كيف سنكون حين نصل؟ هل سنكون راضين عن أنفسنا؟ هل سنكون جاهزين لخطوات ما بعد تحقيق الحلم؟
لنتذكر المواقف اليوميّة التي نصنع لحظاتها المغمورة بالفرح والرضا أو نساعد غيرنا على ذلك. حين ينهك التعب أمهاتنا آخر النهار لكنّهن لا يتوانين عن تقديم العالم إلينا ليكون متاحاً بين أيدينا حتى لا ينقصنا شيء. فنأتي إليهنّ بحنان ونشكرهنّ على وجودهنّ "الخيالي" في حياتنا، نقبّل أيديهنّ لتتسرّب من القبلات حرارة دافئة إلى أرواحنا. وحين نخرج باكراً إلى العمل متعبين ونصادف أطفالاً يشتغلون ويبيعون بعض الحاجيات على الطريق، فيُقدّم لك صبيّاً صغيراً وردة بلا مقابل، قائلاً: "ابتسم!". وحين نزور بيوت الأجداد فنجثو على ركبتينا أمام الجدّين اللذين يكتنز وجههما الطمأنينة، سائلين أن يرفعا أيديهما إلى السماء ليدعوا لنا. أو حين يُكلّفك مسؤولك في العمل بمهام سريعة فتنجزها بحرفيّة وفي الوقت المحدّد. وحين تقع على كتاب جميل يضيف إليك أفكاراً جديدة، أو لقاء صباحي يأخذك حديثه الممتع إلى استكشاف مواهبك في الإقناع. أو حين يكون صديقك غارقاً في اكتئابه الذي يحول أحياناً دون ذهابه إلى جامعته، فلا تفعل شيئاً سوى أن تسمعه وتبقى بجانبه صامتاً، لأنه لن يتقبل الكلام في مثل هذه اللحظات الصعبة، فيرسل إليك بعد وقت قصير إنه في طريقه إلى الجامعة، فتغمرك نشوة فرح يركن فيها رضاك الجميل عن طاقة الحياة. وحين يفاجئك أقاربك باحتفال صغير لعيد ميلادك قبل موعده وبالهدايا التي تشبهك. وشيء إضافي وليس أخير لكثرة التفاصيل التي لا تُعدّ، حين تمرّ بك ظروف قاسية تُهمل معها نفسك وتجهل قيمتها وجمالياتها، فتأتيك رسالة من صديقة لتخبرك بأنك استثنائي جداً، وأن الحياة لم تكن بهذه الدهشة لولا وجودك، وأنك جميل لدرجة أنك تستحقّ أن تُكافئ بحبّ كبير.
فلنتخفف من همّ الإنجازات الكبيرة التي نثقل أنفسنا في إحصائها نهاية كل عام، وما استطعنا إتمامه منها وما لم نستطع لأسباب كثيرة. فلنحدد أهدافنا بطريقة معقولة ونسعى إليها بجدّ، ونعيش تفاصيل أيامنا كلها على أنها نِعمٌ في طريق الأهداف، تُدفئ أرواحنا وتساعدها على صقلها وتعزز قدراتنا على تحقيق النجاحات في أي مجال أردناه. ولا بأس ألا يسمع الكون كله بإنجازاتنا، فيكفي أن كل شخص معروف في عالمه الضيّق الذي يحتوي على أناس يحبونه ويقدّرون خطواته.