ألمانيا: حزب الخضر.. من معسكر السلام إلى محرك العسكرة والإبادة
على مر السنين، تماهت سياسة الخضر الخارجية مع سياسة المحافظين الجدد بأميركا. ودعمت مراكز أبحاث أطلسية، تضم أعضاء خضراً بارزين، تعزيز "القيم الغربية" بالتدخل العسكري إذا لزم الأمر.
-
العسكرة الألمانية الجديدة تزامنت مع تغيير جذري في الثقافة السياسية.
كيف حدث هذا التحول المذهل للخضر في ألمانيا من حزب السلام والديمقراطية والعدل الاجتماعي ومناهضة الحرب والرأسمالية إلى القوة الدافعة وراء العسكرة الألمانية وبطل سياسات خارجية يمينية جديدة تدعم الإبادة الجماعية؟!
في مقال لافت، بمجلة "نيشن" الأميركية و”لوموند دبلوماتيك" الفرنسية، طرح فابيان شيدلر، الباحث الألماني ومؤلف كتاب "نهاية الآلة العملاقة: تاريخ موجز لحضارة فاشلة"، هذا السؤال حول تحولات حزب الخضر الألماني عما كان يدعو إليه من سلام إقليمي ودولي والحد من التسلح وعدالة اجتماعية والحفاظ على نظافة البيئة من التلوث النووي والصناعي.
لم تعد ألمانيا تتسم بالاستقرار السياسي، فقد أدت الأزمة السياسية الراهنة لانتخابات مبكرة بعد أيام في 23 شباط/فبراير الجاري.
ودخل أكبر اقتصاد بأوروبا حالة ركود منذ عامين، وعانت صناعته تداعيات ارتفاع أسعار الطاقة بسبب عقوبات الاتحاد الأوروبي على روسيا.
وتخطط شركات كبرى مثل ﭬولكس ﭬاغن لتسريح عشرات آلاف الموظفين، وبلغت معدلات إفلاس الشركات ذروتها منذ أزمة 2008 المالية، ويلوح في الأفق انكماش صناعي. وفي تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، انهار الائتلاف الحاكم بين الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر والحزب الديمقراطي الحر لخلافات حول ميزانية 2025.
وكانت مدفوعات شحنات الأسلحة لآوكرانيا عاملاً رئيساً، وأثقلت تكلفة إعادة تسليح ألمانيا الضخمة كاهل المالية الحكومية. ففي 2022، تعهّد المستشار أولاف شولتز بصندوق خاص قيمته 100 مليار يورو (خلال 5 سنوات) لتعزيز القوات المسلحة.
وتحدثت أحزاب الخضر والاشتراكي الديمقراطي والاتحاد الديمقراطي المسيحي عن 300 مليار يورو أخرى، منفصلة عن ميزانية الدفاع العادية، دون اعتبار في النقاش لحقيقة أن دول الناتو تنفق بالفعل عشرة أضعاف ميزانية روسيا العسكرية.
باستثناء حزب اليسار وتحالف سارة فاغنكنيخت، تتفق الأحزاب على إعادة التسلح على نطاق غير مسبوق بتاريخ الجمهورية الفيدرالية، لكنها تختلف حول كيفية دفع ثمنه. يقترح الاتحاد الديمقراطي المسيحي وحزب البديل لأجل ألمانيا اليميني المتطرف والحزب الديمقراطي الحر تخفيضات جذرية في الإنفاق الاجتماعي.
في حين يؤيد الاشتراكي الديمقراطي والخضر زيادة الاقتراض، لكنهما لا يستبعدان تحالفاً مؤيداً للتقشف مع الاتحاد الديمقراطي المسيحي. ويخشى عالم السياسة، كريستوف بوترﭬيغ، "هجوماً مباشراً على دولة الرفاهة" بعد الانتخابات.
تزامنت العسكرة الألمانية الجديدة، وكانت مستبعدة قبل بضع سنوات، مع تغيير جذري في الثقافة السياسية. فملصقات انتخابات الاشتراكي الديمقراطي، تظهر وزير الدفاع بوريس بيستوريوس (الاشتراكي الديمقراطي)، يدعو لجيش "صالح للحرب بحلول 2029"، مرتديًا معدات قتالية وسلاحًا بيده. وهو تحول مذهل لحزب أكسبت سياسته في الانفراج والتقارب مع السوفيات زعيمه ويلي برانت جائزة نوبل للسلام.
الخضر وحُمّى العسكرة
لكن لم يتغير أي حزب أكثر من حزب الخضر. تأسس عام 1980 كحزب مناهض للحرب، وأصبح مؤخراً من دعاة إعادة التسلح المتحمسين. فأنطون هوفريتر الذي شارك سنوات عديدة في رئاسة مجموعة الحزب بالبرلمان، يطالب باستمرار بـ "أسلحة وأسلحة ومزيد من الأسلحة"! وينتقد رفض الاشتراكي الديمقراطي تزويد أوكرانيا بصواريخ كروز، "توروس"، بعيدة المدى.
في انتخابات 2021 الفيدرالية، أصر الخضر على عدم توريد الأسلحة لمتحاربين منخرطين في قتال؛ وبعد عام فقط، حددت وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك (الخضر) خطاباً مزدوجاً جديداً لسياسات الخضر: "شحنات الأسلحة تساعد في إنقاذ الأرواح". ومنذئذٍ، دعا سلفها يوشكا فيشر الاتحاد الأوروبي لتطوير ترسانته النووية الخاصة، وهي فكرة يدعمها صحفيون تقدميون مفترضون مثل أولريك هيرمان من صحيفة تاز اليومية.
كما يدعم الخضر، مع شركائهم بالائتلاف وحزبي المعارضة الرئيسيين، الاتحاد الديمقراطي المسيحي وحزب البديل لألمانيا، حروب إسرائيل في الشرق الأوسط. وباعتبارها أكبر مورد للأسلحة إلى تل أبيب بعد أميركا، تحمي ألمانيا إسرائيل مالياً ودبلوماسياً. وبينما تصور الحكومة الفيدرالية نفسها مدافعاً قوياً عن القانون الدولي بأوكرانيا، تسخر منه عندما يتعلق بإسرائيل، فتساعدها على ارتكاب جرائم حرب تُصنف "إبادة جماعية". ولم تشكك بيربوك ولا وزير الاقتصاد ونائب المستشار روبرت هابيك (مرشح الخضر لمنصب المستشار) في شحنات الأسلحة أو أن تكون مشروطة بإنهاء إسرائيل هجومها على غزة.
التحول إلى ظل عسكري مميز باللون "الأخضر" يصدم ناشطين قلائل بالحزب يتذكرون بيانه التأسيسي لعام 1980: "إن السياسة الخارجية البيئية (للخضر) هي سياسة اللاعنف... اللاعنف ليس استسلاماً، بل يضمن السلام والحياة بالوسائل السياسية وليس العسكرية... إن تطوير حكم مدني قائم على قيمة السلام التوجيهية يجب أن يسير جنباً إلى جنب مع البدء فورا بحل التكتلات العسكرية، خاصة حلف الناتو وحلف وارسو". في خضم الحرب الباردة، دعا البيان لـ"تفكيك صناعة السلاح الألمانية وتحويلها للإنتاج السلمي".
كان صراع كوسوفو نقطة تحول رئيسة لحزب الخضر إلى حزب الحرب. ففي ربيع 1999، قرر تحالف الاشتراكي الديمقراطي والخضر، برئاسة غيرهارد شرودر (الاشتراكي الديمقراطي) ووزير الخارجية يوشكا فيشر (الخضر)، أن تشارك ألمانيا بقصف حلف الناتو لصربيا دون موافقة مجلس الأمن الدولي. وهو قرار ينتهك ميثاق الأمم المتحدة، واتفاقية "اثنين زائد أربعة"، ودستور ألمانيا، الذي يحظر الحروب العدوانية.
اختراق أميركي
في مؤتمر الحزب عام 1999، برر فيشر هذا القرار بالكلمات التالية: "لن يتكرر أوشفيتز أبداً، ولن تتكرر الإبادة الجماعية أبداً". وقد أثارت مقارنته بين الحرب الأهلية في كوسوفو وأوشفيتز احتجاجات حاشدة لناجين من الهولوكوست، الذين وصفوا ذلك بأنه "مخز"، لكنه ساعد بتأمين موافقة الخضر على مشاركة ألمانيا في حملة الناتو. وباتت مقارنة خصوم الغرب بهتلر وإبادته لليهود لإضفاء الشرعية على التدخلات العسكرية جزءاً من ذخيرة الخضر.
في نيسان/أبريل 2022، عقد وزير البيئة السابق يورغن تريتين مقارنة بين مذبحة القوات الروسية للمدنيين الأوكرانيين في بوتشا (200 ضحية وفقًا للأمم المتحدة) وبين فظائع ارتكبتها فرق موت نازية متنقلة تتبع قوات أمن خاصة، أعدمت مئات آلاف اليهود بأوروبا الشرقية.
على مر السنين، تماهت سياسة الخضر الخارجية مع سياسة المحافظين الجدد بأميركا. ودعمت مراكز أبحاث أطلسية، تضم أعضاء خضراً بارزين، تعزيز "القيم الغربية" بالتدخل العسكري إذا لزم الأمر.
كانت بيربوك، التي تقول إنها تستلهم وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت، عضواً بصندوق مارشال الألماني بأميركا، في حين كان أغلب زعماء الحزب في الأعوام العشرين الماضية، مثل كلوديا روث، كاترين غورينغ-إيكارت، سيم أوزدمير، راينهارد بوتيكوفر، أوميد نوريبور، أعضاء بـ"جسر الأطلسي"، وهي شبكة مصرفيين، واستراتيجيين عسكريين، وصحافيين، وسياسيين تهدف إلى تعميق العلاقات الألمانية الأميركية.
وفي عام 2004، وقّعت أوزدمير، وزيرة الزراعة حالياً، على رسالة مفتوحة من مؤسسة الفكر المحافظ الأميركي "مشروع القرن الأميركي الجديد" تدعو لاتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه روسيا. وهذا بعد عام واحد فقط من قيام أعضاء بارزين بهذه المنظمة، بمن فيهم دونالد رامسفيلد، وديك تشيني، وبول وولفويتز، وروبرت كاغان، بالتحضير لشن حرب العراق.
أميركياً، كان استقطاب زعماء الخضر نجاحاً كبيراً: فالحزب الذي دعا ذات يوم لحل حلف الناتو يناضل الآن لتوسيعه وعسكرة السياسة الخارجية الألمانية. وبمواجهة الصين، تحالف الخضر مع صقور أميركا أيضاً. هذا التحول أحدث شرخاً عميقاً بين ناشطين بيئيين، قريبين من الخضر، وحركة السلام، وكانت علاقاتهم الوثيقة ذات يوم مصدر قوة الحركة.
من الشخصيات المتحولة الرئيسة، رالف فوكس، الماوي السابق، الذي أصبح فيما بعد مديراً مشاركاً لمدة عقدين لمؤسسة هاينريش بول (التابعة للخضر). وهو حالياً مدير مركز الحداثة الليبرالية، مركز أبحاث في برلين يزعم الدفاع عن "الديمقراطيات الليبرالية" ضد "الأنظمة الاستبدادية" عبر إعادة التسلح والتحالف الأطلسي. وتموّل الدولة الألمانية هذه المنظمة غير الحكومية بشكل كبير.
لا نزعة سلمية ولا مناهضة للرأسمالية
في أواخر الثمانينيات، كان كل من فوكس والناشط السياسي دانييل كوهن بنديت عضوين في فصيل سعى لتحويل الخضر عن معاداة الرأسمالية والنزعة السلمية. لكن في عام 1998، دعا البيان الانتخابي الفيدرالي للخضر إلى "نظام أوروبي للسلام والأمن" من شأنه أن "يحل محل حلف الناتو ويوفر الظروف اللازمة لنزع السلاح بالكامل". واختفت هذه الوعود الانتخابية إلى الأبد بعد انضمام الخضر إلى الحكومة الفيدرالية وتصويتهم لصالح حرب كوسوفو.
العامل الرئيس الآخر وراء هذا التحول هو "التغيير الديمغرافي" بين ناخبي الحزب. فقد تحول المنشقون المعارضون في السبعينيات إلى الطبقات الثرية الحضرية المتعلمة في التسعينيات، حيث يجد الحزب الآن مؤيديه. يؤيد 78% من ناخبي الخضر استمرار تسليم الأسلحة إلى أوكرانيا، أكثر من أي حزب آخر، لكن 9% فقط منهم على استعداد لحمل السلاح دفاعاً عن بلادهم. إن التصدي لروسيا حتى آخر أوكراني هو ردهم على مشروع الالتزام العسكري باسم "القيم الغربية".
منذ شباط/فبراير 2022، كانت مواقف الخضر في السياسة الخارجية بين الأكثر تشدداً في ألمانيا. فبعد غزو أوكرانيا مباشرة، قالت بيربوك، مثل ساسة غربيين كثر، إنه ينبغي اتخاذ خطوات "لتدمير روسيا". وفي 6 نيسان/أبريل 2022، قال يورغن تريتين في البوندستاغ: "نحن نعيد روسيا فلاديمير الرهيب إلى الستينيات"، واقترح أن تستمر العقوبات حتى بعد انتهاء الحرب. لذلك، عارض الخضر الجهود الرامية لحل دبلوماسي، حتى بعد اعتراف رؤساء الأركان الأميركيين والأوكرانيين بأنهم يواجهون مأزقاً عسكرياً.
ومع ذلك، فإن استراتيجية إضعاف موسكو وفصل الاتحاد الأوروبي الدائم عن روسيا تأتي بثمن باهظ لألمانيا: خطر الانحدار الصناعي. وأي تعريفات جمركية تفرضها إدارة ترامب ستفاقم الوضع، كما الحال مع ابتعاد ألمانيا المتزايد عن الصين. وتجد برلين نفسها معزولة باطراد بين الكتل الكبرى. لكن هذا لا يقلق قيادة الخضر، فمعظم ناخبيهم يعملون بقطاع الخدمات.
ورغم تضاعف عضوية الحزب بين 2017 و2024، فإن حصة الخضر من أصوات انتخابات البرلمان الأوروبي في حزيران/يونيو 2024 انخفضت إلى 11.6%، مقارنة بـ20.5% عام 2019. وكانت خسائرهم الأكبر بين الناخبين الشباب. وفي أيلول/سبتمبر، عانى الحزب نكسات إضافية في انتخابات برلمانية بالولايات الشرقية: تورينغيا وبراندنبورغ وساكسونيا، حيث خسر جميع مقاعده بحكومات الولايات. وفي تورينغيا وبراندنبورغ، لم تبلغ حصة الخضر من الأصوات 5% اللازمة لدخول البرلمانات.
وأعلن زعيما الحزب، أوميد نوريبور وريكاردا لانغ، أنهما سيتنحّيان بمؤتمر الحزب في تشرين الثاني/نوفمبر. كما استقال القادة واللجنة التنفيذية بأكملها بمنظمة شباب الحزب، بل وتركوا الحزب لاتخاذه اتجاهاً يناقض مُثُلَهم. لكن قيادة الحزب لا تظهر أي علامة لتغيير المسار. فقد دعا روبرت هابيك ألمانيا لإنفاق 3.5% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، أي تخصيص ثلث الميزانية الفيدرالية لأكثر قطاع اقتصادي إضراراً بالبيئة. ولم يتم التطرق لفكرة وضع ألمانيا والاتحاد الأوروبي كقوة لأجل السلام بين الكتل المتنافسة في الواقع الجيوسياسي الجديد!