أوروبا ومآلات إرثها الإمبريالي والأطلسي والنيوليبرالي

في ضوء إفلاس أخلاقي وعدمية، يصعب على الغرب أن يستوعب أنه لم يعد وحده في العالم، وعليه أن يفكر جيداً في ما يمكن أن يقدم للبشرية راهنًا، بعدما انحسرت قيمه المرجعية، ولم يعد نظامه الاجتماعي السياسي فاعلاً.

0:00
  • النيوليبرالية وإنكار الواقع.
    النيوليبرالية وإنكار الواقع.

في سياق سيرورة أوروبا نحو العدمية، نجد انتصاراً بائساً للثقافة والهوية العنصرية ضد الحضارة والقيم الليبرالية، وإقصاء وانحيازاً إلى الجماعة القبلية ضد قيم المواطنة والتكامل، وتفضيلاً لقيم الحرب ضد السلام، ولكل ذلك تداعياته على مستقبل الغرب والنظام الدولي الجديد وتحولات النفوذ وموازين القوى، وخصوصاً في ضوء حرب أوكرانيا الممتدة منذ 24 شباط 2022.

يعاني النظام الغربي من عدمية لا تعبر عن نفسها سياسياً فقط، بل واقتصادياً أيضاً، كما هي حال أوروبا في تبنيها عقوبات اقتصادية واسعة النطاق ضد روسيا تتضمن عواقب وخيمة على الاقتصادات الأوروبية نفسها، كاقتصاد ألمانيا تحديداً.

لاحظ المفكر الفرنسي إيمانويل تود أن النيوليبرالية أرادت تأسيس رأسمالية تتحرر "روحها" من الالتزام الاجتماعي والأخلاق البروتستانتية التي أسهمت في النهوض التعليمي والاقتصادي، ومهدت لظهور الدولة القومية. 

النيوليبرالية وإنكار الواقع

وبعيداً عن تسطيحها الفكري، تكشف النيوليبرالية عن نقص أخلاقي واضح... لقد أصمّوا آذاننا بمقولة المؤرخ والاقتصادي النمساوي جوزيف شومبيتر (1883-1950) حول "التدمير الخلاق" تبريراً لتداعيات النيوليبرالية، لكن ما يُلاحظ حقاً، في الاقتصاد والاجتماع، هو التدمير نفســه: لتعود كلمة "العدمية" تطارد الحاضر والمستقبل الأوروبي.

كانت العبارة الأكثر شهرة لرئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت تاتشر ذات التوجه النيوليبرالي، والتي يُستشهد بها كثيراً كعنصر مركزي للغاية في النيوليبرالية: "لا يوجد شيء اسمه مجتمع"! ومع ذلك، فهذه الجملة، غير العادية في تطرفها وجحودها وسفاهتها تكشــف الحقيقة الخفية للنيوليبرالية وإنكارها المحــض والبســيط للواقع، حتى دون أن تعرب صراحة عن رغبتها فــي تدمير مجتمع تنكر وجوده.

وتظــل بريطانيــا، وخصوصاً بعد البريكست، خير تعبير عــن العدمية التي تضرب المشــروع الغربي المرتبطة بالمشــروع النيوليبرالي المســؤول عن التفكك الاقتصادي.

إحدى أزمات الرأسمالية النيوليبرالية الراهنة والمعولمة أنها بعكس رأسمالية البروتستانتية المبكرة لا تقوم على انضباط استهلاكي، بل على تعظيم الاستهلاك والإفراط في الاقتراض للأفراد والشركات والحكومات، فأصبح الاستهلاك يفوق المداخيل، وبات المستهلك يقترض لينفق ما لم يكسبه بعد، ما قلّص المدخرات، وأغرق الجميع في ديون تجاوزت الناتج المحلي الإجمالي، وتراجع التراحم في المجتمع لمصلحة التعاقد.

المشروع الإمبريالي

تعود جذور العدمية وأزمات الغرب إلى المشروع الإمبريالي: مركز التجربة الغربية منذ قرون، فالإمبريالية ليست مجرد إحدى تجليات أو تمظهرات أيديولوجيا الغرب ومشروعه الأساسي فحسب، بل هي جوهر الرؤية المعرفية الغربية الحديثة، وأكثرها تجسيداً لعلمانيته الشاملة ومقولاته الأساسية بشأن العالم، فقد سعى من خلال الإمبريالية إلى علاقة غير متكافئة مع بقية العالم، لأجل تحويله إلى مادة استعمالية توظف لمصلحته باعتباره "الأقوى". وبذلك، يتحول العالم لمجرد أسواق لسلع الغرب ومصدر للمواد الخام والعمالة الرخيصة.

حقق ذلك للغرب تراكماً مادياً وثروات هائلة وفائض قيمة نتجت منه ثورة صناعية ورأسمالية بمنظوماتها وأزماتها المزمنة، وقامت منظومات سياسية وتشريعية ودستورية لاستدامة المشروع الإمبريالي الرأسمالي، وبعضها لا يبتعد كثيراً عن الفاشية، ومن ثم تحضر الإمبريالية دائماً لدى دراسة الظاهرة الغربية الحديثة، فهي ليست مجرد ظاهرة سياسية، بل هي نموذج تفسيري للتجربة الغربية ماضياً وحاضراً.

في كتابه "هزيمة الغرب" (2024)، يحلل تود منهجياً، وبالتسلسل، أوضاع روسيا وأوكرانيا وأوروبا الشرقية وألمانيا وبريطانيا والدول الاسكندنافية، ويركز على أسباب اضمحلال الغرب، ويرصد وضع الاتحاد الأوروبي القلق وتراجع دوره دولياً، مع تراجع دور المحور الفرنسي-الألماني داخل الاتحاد. يُذَكِّر تود بأنّ أوروبا كانت في البداية زوجين: فرنسا وألمانيا، ثم بعد أزمة 2008 المالية العالمية، تحولت العلاقة إلى "زواج بطريركي أبوي"، إذ لم يعد الزوج المسيطر (ألمانيا) يستمع إلى رفيقته (فرنسا).

لقد تخلى الاتحاد الأوروبي عن أي ادعاء بالدفاع عن مصالح أوروبا، وقطع نفسه عن الطاقة والتجارة مع شريكته روسيا، وفرض عقوبات اقتصادية فادحة على نفسه، وتورط في الاعتماد على مشتريات الطاقة الأميركية بأثمان باهظة تتجاوز كثيراً أسعار الطاقة الروسية، والنتيجة خفض العجز التجاري الأميركي، وزيادة العجز التجاري الأوروبي، وزيادة أرباح شركات الطاقة الأميركية والضرائب الواردة للخزانة الأميركية!

أوروبا في براثن الاحتلال الأميركي

لقد دأب المسؤولون الأميركيون طويلاً، وبشكل مباشر وفج، على شرح أهداف حلف معاهدة شمال الأطلسي (الناتو) وأسباب وجود قوات الاحتلال العسكري الأميركي منذ 1945 في ألمانيا بقولهم إن الهدف هو "إبعاد الروس، وإبقاء الأميركيين، وإخضاع الألمان"، وهذا ما يجعل ألمانيا (وكذلك اليابان) مجرد محمية أميركية، لكن الولايات المتحدة نفسها التي كانت ربما ذات يوم حامية أصبحت الآن مفترسة!

يرى تود أنّ حلف الناتو يغوص في "اللاوعي" الأوروبي، إذ إن "آلياته العسكرية والأيديولوجية والنفسية ليست موجودة لحماية أوروبا الغربية، بل للسيطرة عليها"، ويعتقد أن روسيا في طور الانتصار على الحلف الذي دخل طوراً جديداً في أوروبا يتمحور حول مثلث "لندن-وارسو-كييف"، ولا يمكن للناتو كسب هذه الحرب لأسباب موضوعية جوهرية.

شاركت أوروبا بوعي وفعاليّة في إنتاج جميع الظروف المواتية لاندلاع النزاع في أوكرانيا بدعم التيارات القومية المتطرّفة هناك وإيصالها إلى السلطة، وضخّت في هذا النزاع أسلحة وعتاداً عسكرياً متطوّراً وسيولة مالية بالمليارات، وأرسلت مستشارين عسكريين لتدريب قوات أوكرانيا، لتغدو عملياً، وليس رسمياً، عضواً في حلف الناتو.

وتلازم مع الاستخفاف الغربي بروسيا تناسٍ خطير استراتيجيًا لانحسار القاعدة الصناعية العسكرية في معظم دول الغرب، وهذا يُترجم اليوم فراغاً في مخازن السلاح الأوروبية وعجزاً عن تلبية احتياجات جيش أوكرانيا من أسلحة وذخائر "غبية" و"ذكية".

لقد طال كثيراً احتلال أميركا لألمانيا وسيطرتها على أوروبا والقرار الأوروبي، ولم يعد مبرراً استمرارهما، وخصوصاً بعد تعافي ألمانيا مبكراً من هزيمتها النكراء في الحرب العالمية الثانية، وتسنمها قيادة أوروبا بشراكة مع فرنسا (يتم إهدارها حالياً!)، وتحقيق الوحدة الألمانية، واكتمال بناء الاتحاد الأوروبي كهياكل ومؤسسات وعضوية!

لكن ألمانيا تفتقد بشدة نخبة سياسية ذات كفاءة ورؤية متجاوزة وقادة مقتدرين، أمثال ويلي برانت وهلموت شميت وهلموت كول؛ المستشار الذي أعاد توحيد ألمانيا رغم معارضة وعرقلة بريطانية صريحة (مارغريت تاتشر) وأميركية ضمنية، وهو إنجاز يقلل وطأة استمرار الاحتلال الأميركي ونشر عشرات آلاف الجنود الأميركيين على أرض ألمانيا.

حلف روسي ألماني!

وقد شرع هؤلاء القادة، سواء كانوا من الحزب الاشتراكي الديمقراطي أو الحزب الديمقراطي المسيحي، خلال الحرب الباردة في سياسة الانفتاح على الشرق (السوفيات)، واستيراد الغاز الطبيعي السوفياتي عبر أول خط أنابيب في بداية الثمانينيات، رغم معارضة أميركية قوية متواصلة. وكانت أنجيلا ميركل آخر القادة الأقوياء الذين انفتحت سياساتهم على روسيا واستيراد الغاز الروسي (الرخيص) لتحقيق أعلى رفاهية وتنافسية لاقتصاد ألمانيا.

في قراءته لتوازنات النظام الدولي المستقبلية، يرى تود حتمية قيام حلف روسي ألماني له جذوره العميقة جيوسياسياً وأنثروبولوجياً، مع انكفاء الغرب البروتستانتي المتمحور حول أميركا على نفسه، وبروز الجنوب العالمي كقوة صاعدة مستقلة عن الغرب!

وفي ضوء إفلاس أخلاقي وعدمية، يصعب على الغرب أن يستوعب أنه لم يعد وحده في العالم، وعليه أن يفكر جيداً في ما يمكن أن يقدم للبشرية راهنًا، بعدما انحسرت قيمه المرجعية، ولم يعد نظامه الاجتماعي السياسي فاعلاً ولا ناجعاً في سياقه الأصلي.