"إسرائيل" والطوفان.. وهم "النجاحات" تُبدّده فداحة الخسارات! (1/2)

في حربها على قطاع غزة، استخدمت "إسرائيل" أكثر من ثلثي "جيشها" النظامي، ونحو نصف جنود الاحتياط، إلى جانب الزجّ بكلّ فرقها النخبوية التي كانت تعمل في السابق خلف خطوط "العدو".

  • الفشل العسكري الإسرائيلي استمر طوال أشهر الحرب.
    الفشل العسكري الإسرائيلي استمر طوال أشهر الحرب.

يمكن لكتّاب التاريخ أن يكتبوا طويلاً عن معركة "طوفان الأقصى"، إذ إنّ لديهم عشرات بل مئات الشواهد والأحداث التي يمكن الخوض في تفاصيلها بشكل موسّع، ومحاولة سبر أغوارها التي استعصت حتى الآن على الكثيرين، إذ إنه من دون وجود رواية رسمية وموثّقة من مفجّري هذا الطوفان، والذين ارتحل الجزء الأكبر منهم، فيما بقيت ثلّة صغيرة تواصل طريقهم في ظروف استثنائية، بل يمكن تسميتها بالإعجازية، فإنه يكاد يكون من المستحيل معرفة الظروف التي نشأت فيها هذه العملية الإبداعية، والأسباب الحقيقية التي أدّت إلى اتخاذ مثل هذا القرار التاريخيّ.

هذا إلى جانب عدم اليقين فيما يتعلّق بالملابسات والتحرّكات التي صاحبت انطلاقتها، والتي حاولت العشرات من التحقيقات الإسرائيلية الإجابة عنها من دون جدوى، حيث تبقى الرواية الإسرائيلية محلّ شكّ كبير نظراً لمحاولتها إخفاء الكثير من أوجه القصور والفشل الذي مُني به "جيشها الحديث"، إضافة إلى ما صاحب ذلك من إخفاق عملياتي ومعلوماتي فاضح، ربما سيدفع ثمنه بعد انتهاء الحرب كلّ قادة "الجيش" الإسرائيلي، ومعهم القيادة السياسية التي تحاول إطالة أمد العدوان أملاً في تحقيق إنجاز ما تعوّض به فشلها وإخفاقها، ويجنّبها مساءلات قانونية قد تودي بمعظم مسؤوليها إلى السجن، وفي المقدّمة منهم مجرم الحرب بنيامين نتنياهو.

ونحن ندخل العام الثالث من معركة "طوفان الأقصى"، وبغضّ النظر عمّا إذا كانت التحرّكات السياسية الأخيرة ستفضي إلى وقف الحرب أم لا، فإنه يمكن لنا أن نتلمّس الكثير من الدلالات والعديد من الملاحظات، ولا سيّما ونحن نرصد ونتابع أحداثها وتفاصيلها عن قرب، إذ تبدأ من الإخفاق الهائل لأجهزة العدو الاستخبارية، وقواته العسكرية، ولا تنتهي في استمرار إخفاقه في تحقيق أهدافه التي رفعها منذ بداية عدوانه على قطاع غزة، والتي تواصَل فشله في تحقيقها طوال أربعة وعشرين شهراً متواصلة، مدعوماً بكلّ قوى الشرّ في العالم، ومستفيداً من دعم عسكري وسياسي واقتصادي وقانوني لم يتوفّر لأيّ قوة احتلال في التاريخ.

ولكن حتى نكون واقعيين، فإنه لا يمكن لنا أن ننكر حقيقة تحقيق العدو لـ "نجاحات" لافتة لم يحقّقها منذ سنوات طويلة، إذ توزّعت هذه "النجاحات" والتي كانت نتيجة ما يملكه من قدرات وإمكانيات، وما تلقّاه من دعم وخبرات، على الكثير من ساحات الإقليم، بداية من ساحة قطاع غزة والتي استطاع فيها احتلال نحو سبعين بالمئة من مساحته، إلى جانب اغتياله لعدد كبير من قادة فصائل المقاومة وكوادرها النشطة، إضافة إلى تدمير أكثر من ثمانين بالمئة من مناطق القطاع العمرانية.

في ساحة لبنان حدث الأمر نفسه، حيث تمكّن من توجيه ضربات مؤثّرة للمنظومات القتالية لحزب الله، إلى جانب اغتيال معظم قادة الصف الأول للحزب، وفي المقدّمة منهم أمينه العامّ سماحة السيّد حسن نصر الله رضوان الله عليه.

في سوريا أحد أهمّ ساحات محور المقاومة ساهمت "إسرائيل" كما أعلن رئيس وزرائها والعديد من قادتها في إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، وفي تمكين الجماعات التي كانت تُصنّف دولياً بأنها "إرهابية" من الوصول للحكم، وهي قاب قوسين أو أدنى من توقيع اتفاقيات "سلام" معها على غرار كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو.

بعيداً عن الأراضي الفلسطينية المحتلة شنّ الكيان الصهيوني العشرات من الهجمات الجوية ضدّ اليمن، مستهدفاً الموانئ والمطارات، وشركات الكهرباء والغاز، والعديد من المنشآت المدنية الأخرى، وتوّج ذلك باغتيال رئيس الوزراء اليمني، وعدد آخر من الوزراء والمسؤولين اليمنيين.

درّة تاج "النجاحات" الإسرائيلية كانت الهجوم المفاجئ والنوعي ضد الجمهورية الإسلامية في إيران، والتي حاولت من خلالها تتويج نجاحاتها الأخرى في الإقليم، وإغلاق ثأر قديم مع إيران المقتدرة سعت إليه منذ سنوات طوال.

في الهجمات على إيران والتي جرت بمساعدة ومشاركة أميركية مباشرة تمكنّت "إسرائيل" من اغتيال ثلّة من كبار المسؤولين الإيرانيين، بينهم قادة عسكريون رفيعو المستوى، وعلماء نوويون، وصولاً إلى محاولتها اغتيال الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، والمرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي الخامنئي. 

هذه "النجاحات" ما كان لها أن تتمّ بجهود وقدرات إسرائيلية خالصة، سواء على المستوى الاستخباري، أو العسكري، وإنما احتاجت الكثير من الدعم متعدّد المجالات من حلفائها في المنطقة والعالم، إلى جانب المشاركة الأميركية المباشرة في الهجوم على إيران، والمشاركات الأخرى من بريطانيا وألمانيا وفرنسا وغيرها في الهجوم على غزة ولبنان واليمن.  

مقابل كلّ ما سبق من "نجاحات" وإنجازات لـ "الدولة" العبرية، فقد سجّلت المواجهة التي ما زالت بعض فصولها قائمة في غزة واليمن على أقلّ تقدير، ويمكن أن تتجدّد في لبنان وإيران إخفاقات هائلة للكيان العبري، مُنيَ خلالها بانتكاسات كبيرة، ولحقت به خسائر فادحة على العديد من الصعد، تبدأ من المستوى الاستخباري، مروراً بالمستوى العسكري، ولا تنتهِ بالمستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.      

هذا الفشل سمّاه المحلّل العسكري في صحيفة "هآرتس" عاموس هرئيل بـ "الفشل العظيم".

فيما يلي سنلقي الضوء على جملة من الإخفاقات الإسرائيلية في مواجهة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وهي ساحة المواجهة الأساسية التي أطلقت شرارة التصعيد في كامل المنطقة، على أمل أن نكتب عن باقي الساحات في مقبل المواعيد بإذن الله.

في المعركة الدائرة في قطاع غزة واجهت أجهزة العدو فشلاً استخبارياً مدوّياً تحدّثت عنه كلّ وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية ،إذ بدأ هذا الفشل منذ اللحظة الأولى التي اتخذت فيها قيادة كتائب القسّام قرار الذهاب إلى هذه العملية غير المسبوقة، واستمر أثناء الاستعداد والتجهيز لتلك العملية، وهي فترة ليست بالقصيرة كما تقول الكثير من التحليلات، وصولاً إلى الفشل في الوصول إلى أماكن احتجاز الأسرى الإسرائيليين، والذين ما زالت المقاومة في غزة تحتفظ بنحو خمسين أسيراً منهم، بينهم قادة عسكريون يحملون رتباً عالية ورفيعة.

في هذا الجانب تحديداً، والذي تدّعي فيه "إسرائيل" تفوّقها على معظم دول المنطقة والعالم، وامتلاكها لأجهزة وإمكانيات وقدرات قلّ نظيرها، واجهت أجهزة استخباراتها الرئيسية الثلاثة إخفاقات هائلة وصفها الكثير من الخبراء والمختصّين بالفضيحة، إذ إنّ الفشل الذي مُنيت به وما زالت قد شكّل سقوطاً مدوّياً لصورتها الأسطورية، والتي كانت جزءاً أساسياً من صورة "إسرائيل الكبرى" والقوية والمقتدرة، والتي اعتمدت على هذه الأجهزة في تفكيك قدرات خصومها، وتوجيه ضربات استباقية لهم.

بحسب الكثير من التحقيقات فإنّ أحد أبرز أوجه القصور في العمل الاستخباري الإسرائيلي سواء قبل أو أثناء الحرب هو ضعف "الاستخبارات البشرية" لدى أجهزة العدو، وعلى وجه التحديد جهاز الأمن العامّ "الشاباك"، والذي يتولّى مهمة تجنيد ومتابعة العملاء داخل قطاع غزة، حيث واجه عمل هذا الجهاز مشكلات عديدة خلال السنوات الماضية في قطاع غزة، كان على رأسها الفشل في تجنيد أعداد كبيرة من العملاء والجواسيس، إلى جانب صعوبات جمّة في التواصل مع المجموعات التي كانت قائمة بالفعل، والتي وجّهت لها أجهزة أمن المقاومة ضربات نوعية وحاسمة حدّت من تحرّكاتها، وقلّصت كثيراً من نجاعتها.

إلى جانب ضعف "الاستخبارات البشرية" فقد عانت أجهزة أمن العدو من فشل في تحليل المعلومات الواردة من قطاع غزة، وهذا كان سبباً رئيسياً في عدم إدراك تلك الأجهزة حقيقة ما كان يجري في القطاع من مناورات عسكرية تحت بصر وسمع طائرات الاستطلاع الصهيونية، والتي كانت تنقل كلّ صغيرة وكبيرة مما يجري في القطاع، إلّا أنّ الاعتقاد الذي ساد محلّلي أجهزة استخبارات العدو هو أنها مناورات روتينية، تهدف لرفع الجاهزية القتالية للمقاتلين ليس أكثر، ولا تُعتبر مقدّمة لهجوم نوعي وكبير مثل الذي جرى صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.

وجه آخر من أوجه القصور الاستخباري كان الاعتماد شبه الكامل على التكنولوجيا على حساب العامل البشري، وهو ما أدّى إلى جمود في التفكير، ونقص في التحليل، وهذا الأمر كان نِتاج الاعتماد على استراتيجية "جدعون" التي وضعها رئيس الأركان السابق "غادي إيزنكوت" في عام 2015، والتي تمّ تعزيزها باستراتيجية أخرى في العام 2020 عبر رئيس أركان آخر هو "أفيف كوخافي"، حيث زاد من نسبة الاعتماد على التكنولوجيا مقابل تقليص دور العنصر البشري.

عسكرياً بدا الإخفاق الإسرائيلي أكثر وضوحاً ولا سيّما في ظلّ الفشل المتواصل في تحقيق "أهداف" الحرب، والتي استخدمت فيها "الدولة" العبرية كلّ ما بين يديها من إمكانيات هائلة، إلى جانب ما تلقّته من دعم عسكري مفتوح من حليفتها الأولى الولايات المتحدة الأميركية، ومن دول أخرى في المنطقة والعالم.

في حربها على قطاع غزة الصغير والمُحاصر منذ أكثر من ثمانية عشر عاماً، استخدمت "إسرائيل" أكثر من ثلثي "جيشها" النظامي، ونحو نصف جنود الاحتياط، إلى جانب الزجّ بكلّ فرقها النخبوية التي كانت تعمل في السابق خلف خطوط "العدو" فقط، وصولاً إلى الاستعانة بفرق شرطية مثل "اليمّام"، والتي كان يقتصر عملها على ساحة الضفة الغربية المحتلة.

إلى جانب كلّ هذه الأعداد الكبيرة من المقاتلين والجنود دفع "جيش" الاحتلال بكامل ترسانته من ألوية المدرّعات والمدفعية، كان من ضمنها دبابات الميركافا بنسختيها الرابعة والخامسة، وناقلات الجند الحديثة والمتطوّرة، وبطاريات المدفعية الثابتة والمتحرّكة، والتي يبلغ مدى بعضها أكثر من ستين كيلومتراً.

جواً لجأ "الجيش" الصهيوني إلى استخدام معظم أسرابه الجوية الحديثة، سواء المقاتلة مثل F-35، وF-16 وغيرهما، أو الطائرات المسيّرة بأنواعها المختلفة والتي يهتمّ جزء منها بجمع المعلومات، فيما يقوم جزء آخر بعمليات قصف وتنفيذ اغتيالات، إلى جانب الطائرات المروحية الهجومية، وطائرات الكواد كابتر الصغيرة ذات المهام المتعدّدة والتي من بينها مهام انتحارية.

على الرغم من كلّ هذه الإمكانيات الكبيرة فشل "جيش" الاحتلال بعد كلّ هذا الوقت الطويل في تحقيق معظم الأهداف التي وضعتها قيادته السياسية، وتكبّد خسائر فادحة وغير مسبوقة في الأرواح والمعدّات، سواء عند بداية هجوم "الطوفان"، أو فيما تلا ذلك من عمليات.

بحسب معظم التحقيقات الإسرائيلية فقد بدأ الفشل العسكري منذ اللحظة الأولى لهجوم المقاومة على مستوطنات الغلاف والمواقع العسكرية المجاورة لها، إذ فشلت الوحدات المنتشرة في تلك المواقع بقيادة "فرقة غزة" في صدّ الهجوم المفاجئ والصاعق، كما أخفقت إجراءاتها الأمنية مثل الجدار العازل والمجسّات والكاميرات الحديثة ومنظومات إطلاق النار الآلية في منع تدفّق المقاتلين. 

هذا إلى جانب فشل القوات المساندة والتي جاءت من مناطق أبعد في السيطرة على الأوضاع الميدانية طوال الساعات الأولى من الهجوم، وفي بعض المناطق مثل سديروت وأوريم استمرّ هذا الفشل لعدّة أيام متتالية، بقيت فيها مجموعات من المقاتلين الفلسطينيين تقاتل وتوقع المزيد من الخسائر في صفوف تلك القوات التي افتقدت للكفاءة والتنسيق بحسب بعض التحقيقات.

الفشل العسكري الإسرائيلي استمر طوال أشهر الحرب الأربعة والعشرين التي تلت الهجوم، فهو وإن كان قد حقّق بعض "النجاحات"، معتمداً على ما بين يديه من إمكانيات وقدرات، إلا أنه أُصيب بكثير من الخيبات والإخفاقات، وتعرّض لانتكاسات أدّت إلى سقوط المئات من جنوده وضبّاطه قتلى وجرحى، وإلى تدمير وإعطاب أكثر من نصف آلياته المصفّحة والمدرّعة، ما دفعه للاستعانة بآليات قديمة كانت قد خرجت من الخدمة منذ عدّة سنوات مثل دبابات الميركافا 3، ومدرّعات البوما والشيزاريت وM113.

في الجزء المقبل بمشيئة الله سنشير إلى الإخفاق الصهيوني على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والذي ترك آثاراً مدمّرة سواء على صورة ومكانة "إسرائيل" الدولية، أو فيما يخصّ قوّتها الاقتصادية التي وضعتها في مصاف الدول الغنية والمتطوّرة والحديثة.