غزة تحت الوصاية : من "السلام الأبدي" إلى هندسة الإلغاء

ما بين خطط الانتداب الناعمة وصفقات الإذعان العلنية، يظل صوت المقاومة الحقيقة الوحيدة القادرة على كتابة مستقبل فلسطين والمنطقة.

0:00
  • بين وصاية مفروضة وإرادة شعوب.
    بين وصاية مفروضة وإرادة شعوب.

لم تكن ليلة البيت الأبيض، التي جمعت ترامب ونتنياهو وسط أضواء الكاميرات وابتسامات التباهي، مجرد احتفالية بروتوكولية عابرة.

لقد مثّلت إعلانًا فجًّا عن صياغة جديدة لمعادلة فلسطين، خصوصًا غزة. فترامب قدّم نفسه كـ"صانع سلام تاريخي"، بينما سعى نتنياهو لتحويل دماء الأبرياء وركام الحرب إلى أوراق تفاوض. غير أن ما خفي خلف الخطاب المزيّف كان أخطر بكثير: غزة منزوعة السيادة، تحت وصاية دولية محكمة، تتحول فيها القضية الفلسطينية إلى ملف إداري تتحكم فيه العواصم الغربية ويُموَّل عربيًا. إننا أمام محاولة لإعادة تعريف "السلام" كغطاء لفرض وصاية تخدم مشروع "إسرائيل الكبرى"، بما يعنيه من إقصاء الفلسطينيين من معادلة تقرير المصير.

وصاية بديلاً عن السيادة

خطة ترامب – نتنياهو، التي سُميت "السلام الأبدي"، لم تكن سوى إعادة إنتاج لسياسات الهيمنة بوجه جديد. فبينما رفع ترامب شعارات إنقاذية، عمل نتنياهو على تكريس نتائج الحرب سياسيًا. جوهر الخطة كان واضحًا: نزع سلاح المقاومة وتدمير بنيتها العسكرية تحت إشراف قوى دولية وعربية مكلّفة بتنفيذ المهام، وإقامة مجلس وصاية دولي يدير غزة من الخارج، وتحويل المدنيين والأسرى إلى أوراق تفاوض.

باختصار: لم يكن الأمر إعلان سلام، بل إعادة صياغة للوصاية، حيث يُترك الفلسطينيون بين خيارين مُرّين: قبول ترتيبات تُسقط سيادتهم أو البقاء خارج أي عملية سياسية ذات معنى.

من الإعمار إلى الإدارة الدائمة

خطة توني بلير لم تكتفِ بتقديم حلول إغاثية لقطاعٍ مُنهك؛ بل رسمت بنية مؤسساتية متكاملة تُعرف باسم "السلطة الانتقالية الدولية".

تضم هذه البنية مجلسًا دوليًا، ورئيسًا بصلاحيات واسعة، وأمانة تنفيذية، وركائز إشراف في مجالات الإغاثة، الأمن، والاقتصاد، والقانون. وهكذا تحوّلت عملية الإعمار من مسعى إنساني إلى جهاز حكم ذي وظائف دائمة: هيئة استثمار، وآلية مالية لإدارة المنح، وقوة استقرار متعددة الجنسيات لتأمين الحدود والمعابر.

الأخطر أن الخطة غيّبت الضفة الغربية ولم تذكر الدولة الفلسطينية، وأشارت إلى أن مراكز القرار الأولية ستُستضاف في عمّان أو العريش أو القاهرة في المراحل الأولى، ما يعني إدارة القطاع عن بُعد. أما السلطة الفلسطينية فجرى اختزالها إلى ذراع خدمي يُختار قادته تحت إشراف دولي، في حين تضبط القوة متعددة الجنسيات المشهد الأمني بالتنسيق مع سلطة الاحتلال، بما يمنع أي عودة للفاعلية العسكرية المحلية.

ورغم ما تبدو عليه عبارة "حماية الملكية" من طابع إنساني، فإنها في تفاصيلها تتيح مغادرات "طوعية" مشفوعة بوعود بالعودة أو التعويض، وهو ما يفتح الباب أمام تهجير جزئي مقنّن وتحويل حق العودة إلى مجرد صفقة إدارية. أما الميزانية الضخمة المخصصة للمشروع فتؤكد أنه ليس مجرد مساعدة مرحلية، بل مشروع طويل الأمد لإعادة هندسة البنية السياسية والاجتماعية في القطاع.

هندسة جيوسياسية قديمة جديدة

حين نقرأ خطة بلير بجانب رؤية الجنرال الإسرائيلي جيورا آيلاند، يتضح الانسجام شبه التام: فصل غزة عن الضفة، وتحويل القطاع إلى كيان إداري وأمني منفصل تحكمه آليات خارجية، وفرض وصاية دولية تحت عناوين "السلام" و"الإعمار". التمويل الخليجي يتحول هنا من مبادرة حسن نية إلى رافعة استراتيجية، إذ يصبح "المال مقابل الخضوع" قاعدة تُسوّق للاستقرار الإقليمي. وبالمقابل، تُربط مشاريع الإعمار بفتح مساحات أوسع للتطبيع، فيتحول الإعمار إلى جائزة مشروطة بقبول التفكيك السياسي الفلسطيني.

النتيجة المتوقعة لا تقف عند غزة وحدها، بل تُعيد رسم الخريطة الفلسطينية والإقليمية: فصل الضفة عن غزة، وتفكيك المضمون السياسي للقضية، وتحويل القرار الفلسطيني من إرادة وطنية إلى ترتيبات يقرّرها الآخرون.

 الضمانات لا تحمي

ليس ما يُطرح اليوم جديدًا. التاريخ العربي والفلسطيني مليء بتجارب "الضمانات الدولية" التي انتهت بنكبات. ففي 1982 خرجت المقاومة الفلسطينية من بيروت بناءً على اتفاق رعته قوى دولية، تعهدت بحماية المدنيين.

لكن انسحاب هذه القوى بعد أسابيع أفسح المجال لمجزرة صبرا وشاتيلا. الدرس صارخ: أي خطة تنزع السلاح وتترك الأمن بأيدي قوى دولية قابلة للانسحاب ليست إصلاحًا بل هي تمهيد لكارثة جديدة.

إرادة الشعوب تتجاوز الوصاية

اليوم تُعاد صياغة المشهد بأسماء جديدة: ترامب، بلير، آيلاند. لكن ما يغيب عن هذه المخططات أن الشعوب لا تُدار بالوصاية، وأن المقاومة ليست بندقية للإيجار بل هي عهدٌ متجذّر في الذاكرة الجمعية لكل بيت فلسطيني وعربي.

تحويل غزة إلى محمية دولية، وإقصاء الفلسطينيين عن تقرير مصيرهم، لن ينتج سلامًا بل أزمة أعمق. إن الدماء التي سالت في غزة والضفة ولبنان تقول بوضوح: لا سلام يُبنى على الإذعان، ولا مستقبل يُرسم بوصاية أجنبية.

المخاطر والسيناريوهات المستقبلية

رغم أن هذه الخطط تبدو في ظاهرها إنسانية أو إنقاذية، إلا أن تداعياتها تحمل أخطارًا بعيدة المدى. فهي أولًا تفكك البنية السياسية الفلسطينية، وتحوّل القيادة إلى جهاز إداري منزوع القرار.

وثانيًا، تفتح الباب لتدويل دائم للملف بحيث يُدار من عواصم بعيدة، ما يعقّد أي مسار تفاوضي قائم على الحقوق. أما أمنيًا، فإن إحلال قوة متعددة الجنسيات محل المنظومات المحلية يخلق فراغًا قابلًا للانفجار عند أول انسحاب أو تبدّل في الإرادة الدولية. يُضاف إلى ذلك خطورة تسييل حق العودة وتحويله إلى تعويضات ومغادرات توصف بأنها "طوعية"، بما يشرعن تهجيرًا مقنّنًا.

إقليميًا، يطال الخطر مصر عبر ضغوط متزايدة على سيناء ومعابرها، والأردن عبر اهتزاز معادلة الوصاية على المقدسات وطرح صيغ كونفيدرالية منزوعة السيادة، ولبنان عبر تثبيت استنزاف طويل الأمد في الجنوب، وسوريا عبر تعميق فصل الجنوب عن عمقه الوطني وتوسيع عمق أمني للكيان الصهيوني. أما الخليج، فيُختزل دوره إلى مموّل يربط المال بالتطبيع ويحوّل أمن الطاقة إلى ورقة مشروطة سياسيًا.

اقتصاديًا، يُعاد تشكيل غزة على أسس تبعية: معابر ومشاريع بإدارة دولية، وخصخصة مقنّعة، واستبعاد لرأس المال الوطني، ما يحوّل الإعمار إلى أداة نفوذ طويلة الأمد. وعلى مستوى السردية، يجري تبييض مشروع الوصاية بخطاب "السلام والإغاثة" وتشويه المقاومة بوصفها معطّلة للاستقرار.

أمام هذه المخاطر، تراوح السيناريوهات بين تمرير تدريجي يرسّخ الوصاية، أو فشل مبكر يقود إلى فوضى اقتصادية وأمنية، أو مقاومة سياسية تفرض مسارًا بديلًا يعيد ربط غزة بالضفة، وصولًا إلى احتمال توسع الصراع إقليميًا إذا فُرضت الترتيبات قسرًا.

وتفادي الكارثة يستدعي بديلًا عربيًا - فلسطينيًا يربط الإعمار بالسيادة لا بالتفكيك، ويؤكد وحدة المسار والرقعة، ويضع الأمن في يد منظومة محلية بضمانات زمنية محدودة، ويعزز مسار القانون الدولي لكبح محاولات تحويل الحقوق إلى صفقات.

بين وصاية مفروضة وإرادة شعوب

ما بين خطط الانتداب الناعمة وصفقات الإذعان العلنية، يظل صوت المقاومة الحقيقة الوحيدة القادرة على كتابة مستقبل فلسطين والمنطقة. ويبقى السؤال: هل تستوعب العواصم العربية أن ما يُفرض على غزة قد يكون نموذجًا يُعاد إنتاجه لاحقًا في ساحات عربية أخرى؟ هذا الوعي وحده كفيل بتحويل التحذير إلى وقاية، وتثبيت أن لا وصاية ولا تطبيع يمكن أن يُلغِيا إرادة الشعوب.