قراءة في الانتخابات البرلمانية في سوريا
الظروف التي تمرّ بها سوريا ليست طبيعية، والتحدّيات كبيرة، لكنّ ذلك لا يمنع أن تكون انتخابات مجلس الشعب خطوة في الاتجاه الصحيح، لا طريقاً لتكريس المزيد من الانقسامات داخل المجتمع السوري.
-
الشباب في سوريا باتوا اليوم الشريحة الأقوى.
تشهد سوريا أوّل انتخابات برلمانية منذ سقوط نظام الأسد، في خطوة لاستكمال بناء مؤسسات الدولة، وصولاً إلى تحقيق "الانتقال السياسي" المنشود، أما الحديث عن "التحوّل الديمقراطي"، فهو أمر مستبعد في المرحلة الحالية.
لا يمكن الادّعاء بمثالية الخطوة ولا التقليل منها، باعتبار المؤسسة التشريعية ركيزة أساسية من ركائز بناء الدولة. مع الإشارة إلى أنّ "الصورة الذهنية" لمجلس الشعب لدى المواطن السوري كانت سلبية، ولعقود مضت، نتيجة هيمنة السلطة التنفيذية وسطوتها على المجلس، التي جعلت منه سيرة للتندّر والضحك لدى المواطن السوري.
الحديث عن الانتخابات والمشاركة الشعبية أمر غير دقيق، فالقضية محصورة ببضعة آلاف على مستوى القطر، فهي أشبه بالانتخابات الداخلية التي تجريها بعض الأحزاب لاختيار مرشحيها إلى مجلس الشعب.
الحديث عن "الانتخابات غير المباشرة" غير صحيحة من الناحية العلمية، لأنه في مثل تلك الحالات تكون الهيئات الانتخابية قد تمّ اختيارها من الشعب مباشرة، لا أن يتمّ تعيينها، وبالتالي يمكن القول "اختيار أعضاء مجلس الشعب"، بدلاً من انتخابهم.
وفقاً للإعلان الدستوري فقد أحيطت مهمة تشكيل مجلس الشعب برئيس الجمهورية، الذي يقوم بتشكيل "اللجنة العليا للانتخابات"، والتي تقوم بدورها بتشكيل الهيئات الناخبة التي تتولّى انتخاب ثلثي أعضاء المجلس، في حين يقوم رئيس الجمهورية بتعيين الثلث الثالث (70 عضواً).
حالة التعيين ليست جديدة في التاريخ السوري، فبعد قيام الحركة التصحيحية عام 1970، قام الرئيس حافظ الأسد بتعيين مجلس الشعب، بعيداً عن أية انتخابات.
نصّت التعليمات الانتخابية على استبعاد شرائح واسعة من المجتمع السوري (الجيش والشرطة وأعضاء مجلس الشعب السابقين، وكلّ من ترشّح لعضوية مجلس الشعب منذ العام 2011، والداعمين للإرهاب، وكلّ من دعم نظام الأسد ولو بكلمة، وووو.. إلخ. بمعنى أننا نتحدّث عن مجلس شعب مقبل ذي توجّه سياسي واحد، وهي معضلة حقيقية تعني استبعاد أيّ رأي معارض، خاصة وأنه تمّ حلّ الأحزاب ومنع أيّ نشاط سياسي.
كان الأولى أن يترك الأمر للقضاء ليبتّ بمن يجب حرمانه من الترشّح للانتخابات، أو تركه يترشّح ليرى نبذ المجتمع السوري له، فيما لو كان قد أجرم بحقّ أبنائه، فالناخب هو من يقرّر من هو المجرم ومن هو الوطني، وصناديق الاقتراع كانت فرصة للإدارة الجديدة لإثبات شعبيتها، فيما لو تركت الانتخابات حرّة ومفتوحة.
الرئيس ترامب على سبيل المثال، ورغم صدور عشرات التهم القضائية بحقّه، لم يستطع أحد منعه من الترشّح للانتخابات، وكانت إرادة الناخب الأميركي هي من أوصلته إلى البيت الأبيض.
عادة ما تكون برلمانات الدول ساحة للصراع ما بين السلطة والمعارضة، أما وجود مجلس من لون واحد فسيفقده بريقه ويجعل أداءه السياسي محدوداً بكلّ تأكيد.
وجود أصوات معارضة أمر يحسب للسلطة لا عليها، لكنّ ثقافتنا السياسية لا تزال غير ناضجة، وهو ما يدفعنا إلى تخوين وتكفير كلّ من يختلف معنا حتى لو بفكرة.
الإعلان الدستوري قلّص من صلاحيات مجلس الشعب، فلم يعد من حقّه استجواب الحكومة أو الوزراء، أو حجب الثقة عنهم، وكلّ ما يتمتّع به هو "الاستماع إلى الوزراء"، وهي عبارة لا معنى لها من الناحية العملية.
لماذا الآن؟
انتقادات كثيرة وجّهت لإعلان الانتخابات في هذا الوقت، خاصة وأنّ البلاد تشهد أوضاعاً أمنية غير مستقرة، وأكثر المنتقدين ربطوا ذلك بحاجة الحكومة السورية إلى غطاء سياسي يشكّله مجلس الشعب لتمرير الاتفاقيات الدولية، والموافقة على اتفاق السلام مع "إسرائيل" فيما لو حدث.
وجهة نظري أنّ الحديث عن معاهدة للسلام مع "إسرائيل" أمر مستبعد في المدى المنظور، فحتى لو كانت الحكومة السورية تسعى للسلام فإنّ "إسرائيل" تبدو وكأنها غير معنية به، كما أنّ مطالبها وشروطها لا تستطيع أية حكومة الموافقة عليها وتنفيذها.
لو أخذنا السؤال بطريقة معاكسة، بمعنى ماذا لو أعلنت الحكومة السورية تأجيل انتخابات مجلس الشعب في المرحلة الحالية، هل كانت ستنجو من اتهامها بالتهميش والرغبة في الاستفراد في السلطة!
أما الحديث عن احتكار رئيس الجمهورية لصلاحية تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب وتشكيل اللجنة المعنية باختيار اللجان الناخبة، فمن وجهة نظري ربما كان الأفضل تحمّل رئيس الجمهورية لكامل المسؤولية بتعيين كامل أعضاء مجلس الشعب، مع تقليص مدة المجلس التي حدّدها الإعلان الدستوري بثلاثين شهراً قابلة للتمديد، فهذه المدة طويلة نسبياً، خاصة وأنّ الدور الرئيسي للمجلس سيكون صياغة دستور جديد للبلاد.
الحديث عن احتضان دولي ودعم عربي للحكومة السورية يجب ألّا يوقعنا في الخطأ، فالتوجّه الدولي واضح بتطبيق القرار 2254، والذي يعني المزيد من المشاركة السياسية لمكوّنات الشعب السوري كافة، وبالتالي لا يمكن أن يستمر هذا الوضع لسنوات.
الدعم العربي لسوريا بات أمراً مقلقاً أيضاً، لدرجة أنّ من يتابع بعض القنوات العربية المهتمة بالشأن السوري يرى حجم الدعم وتبنّي موقف الحكومة السورية، في حين أنّ الإخبارية السورية على سبيل المثال ترينا الرأي الآخر وتشير إلى بعض الأخطاء والهفوات، وهي حالة صحيحة من وجهة نظري. وهو ما يجعلنا نتوجّس من موقف بعض القنوات العربية، التي تجعلنا نتوهّم بما ليس فينا.
الدور المتوقّع لمجلس الشعب المقبل؟
عادة ما يكون لمجلس الشعب دوران أساسيان؛ دور تشريعي ودور تمثيلي، وهو ما يتطلّب وجود تكنوقراط داخل المجلس، وهو أمر مستبعد، خاصة وأنه تمّ استبعاد كلّ من تبوّأ هذا المنصب سابقاً.
كانت الحكومات السورية المتعاقبة هي من تتولّى مهمة التشريع، ليقتصر دور المجلس على المصادقة على تلك التشريعات، وأعتقد أنّ حالة هذا المجلس لن تشذّ عن تلك القاعدة.
من حسن حظ المجلس أنّ المواطن السوري لا ينتظر منه الكثير، خاصة وأنه اعتاد على غياب الدور والفاعليّة للمجالس السابقة، وكلّ ما يمكن توقّعه هو التوصّل إلى كتابة نظام داخلي جديد للمجلس خلال مدة أقصاها شهر (وفقاً للإعلان الدستوري)، وصياغة دستور جديد للبلاد يحظى بموافقة ودعم مكوّنات الشعب السوري كافة.
السعي لتأدية دور حقيقي وفعّال في تكريس المصالحات الوطنية أمر هام، ويمكن للمجلس العمل عليه بعيداً عن خطوات السلطة، وبما يخدم توجّهاتها في المحصّلة.
نبذ الخطاب الطائفي والمصطلحات الفضفاضة أمر غاية في الأهمية، وقد غابت عن البرنامج الانتخابي لغالبية المرشحين، لذا يجب أن يكون من أولى مهام المجلس استصدار التشريع المناسب لذلك.
محاربة الفساد والحد منه أمر مستبعد خاصة وأنّ المجلس لا يتمتّع بصلاحيات رقابية، وكلّ ما يمكن فعله هو الإشارة إلى مواضع الخلل، وبسقوف معيّنة، وبالتالي الحدّ من الفساد في مستوياته الصغيرة والمتوسطة فقط.
التحدّيات المقبلة...
غالبية المرشّحين لمجلس الشعب هم ممن يحملون جنسية أخرى غير الجنسية السورية، وكان رئيس اللجنة العليا للانتخابات قد صرّح بأنه ستتمّ دعوة الناجحين في الانتخابات إلى التخلّي عن جنسيتهم الثانية، وهو ما عاد ونفاه مؤخراً الناطق الإعلامي للجنة.
هذا الأمر له محاذيره فكيف يتمّ منح الحصانة لشخص يحمل جنسية دولة أخرى، وهل سيقبل هؤلاء أصلاً التخلّي عن تلك الجنسية فيما لو طلبت منهم الحكومة ذلك.
لا يمكن الحديث عن برامج انتخابية في ظلّ غياب الأحزاب، وعدم وجود دور للمواطن السوري في انتخاب ممثّليه إلى مجلس الشعب، وكلّ ما نراه ليس سوى شعارات يتعثّر تنفيذ الكثير منها حتى على الحكومة، لا على عضو في مجلس الشعب.
وجود مرشّح يهودي لانتخابات مجلس الشعب للمرة الأولى منذ عقود في سوريا أمر جيد، طالما أنه يرى أنه سوري أولاً، ويؤمن بوحدة سوريا ويسعى للحفاظ على مصالحها.
عدم إجراء الانتخابات في بعض المحافظات السورية أمر يمكن تداركه عبر تعيين ممثّلين عن تلك المحافظات ضمن الثلث الذي سيتولّى رئيس الجمهورية مهمة تعيينه.
دعم المرأة والأقلّيات أمر يتوجّب لحظه وتدارك الخلل فيه، عبر التركيز على تلك الشرائح لتكون ضمن حصة رئيس الجمهورية، والتي سيكون لها دور كبير في معالجة الاختلالات الناتجة عن غياب الوعي الانتخابي لدى العديد من السوريين.
الشباب في سوريا باتوا اليوم الشريحة الأقوى، وهو أمر طبيعي وصحيح، ولم تعد هناك حاجة لدعمهم على غرار ما كان يحدث في عهد النظام البائد الذي أقصى الشباب، وأطال في الحديث عن أهميتهم.
الظروف التي تمرّ بها سوريا ليست طبيعية، والتحدّيات كبيرة، لكنّ ذلك لا يمنع أن تكون انتخابات مجلس الشعب خطوة في الاتجاه الصحيح، لا طريقاً لتكريس المزيد من الانقسامات داخل المجتمع السوري.
السوريون معنيون جميعاً بدعم أية خطوة في طريق بناء الدولة، مع تأكيد حقّهم في معارضة السلطة، مع التشديد دوماً على ضرورة التمييز بين الدولة والسلطة.
وفي المقابل، الحكومة معنية بضرورة الاستماع إلى مطالب الشعب السوري، وإبعاد من يدور في فلكها من مطبّلين، والذين كثيراً ما أدوّا دوراً في تضليل صانع القرار على مرّ العصور.
شهور قليلة وستجد الحكومة نفسها أمام مراجعة دقيقة يجريها الشعب السوري، بمناسبة مرور عام على استلامها السلطة، لما تمّ تحقيقه من الوعود التي قطعتها الحكومة على نفسها منذ وصولها إلى السلطة.
عندها سنكون أمام نهاية "شهر العسل"، بين الحكومة والشعب، ونهاية سياسة "صفر مشاكل" التي سعت الحكومة السورية إلى تكريسها نهجاً في سياستها الخارجية، وهي السياسة الأقرب إلى الرومانسية منها إلى الواقعية، بالنظر إلى أهمية سوريا، وطبيعة منطقة الشرق الأوسط والصراع الدولي عليها.