سوريا وتركيا: الاقتصاد بوابة التطبيع

يبدو أن الاقتصاد سيكون وفق المؤشرات الأولية بوابة لتطبيع البلدين لعلاقاتهما الثنائية، أو لنقل القطاع الذي سوف يشهد الترجمة الفعلية الأولى لنجاح الوساطات العربية والأجنبية في فتح قنوات حوار وتواصل بين السوريين والأتراك.

  • الاقتصاد سيكون وفق المؤشرات الأولية بوابة لتطبيع العلاقات التركية السورية.
    الاقتصاد سيكون وفق المؤشرات الأولية بوابة لتطبيع العلاقات التركية السورية.

ملفان أساسيان يتصدّران أولوية استئناف دمشق وأنقرة لعلاقاتهما المقطوعة منذ العام 2012. الملف الأول ويتعلق بمكافحة الإرهاب، لكن توصيف الإرهاب والاتفاق على منظور موحّد له بين البلدين يحتاج على ما يبدو إلى مفاوضات حساسة ودقيقة، فما تعدّه دمشق إرهاباً قد لا تراه كذلك أنقرة بناء على سياستها المعتمدة منذ العام 2011 في مقاربة الأزمة السورية، والتدخّل المباشر في مجرياتها. وما تتعامل معه أنقرة كتهديد إرهابي كبير على حدودها لا تزال دمشق تأمل في حلّه ومعالجته في إطار سياسي وطني.

الملف الثاني يتمثّل في إعادة إحياء العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وهذه تحتاج أيضاً إلى مباحثات فنية وتقنية لرسم مسار جديد لهذه العلاقات. فما كان سائداً في العام 2011 لم يعد مناسباً اليوم بالنسبة لسوريا لأسباب بعضها يتعلق بالنتائج التي تمخضت عنها علاقات ما قبل الأزمة السورية، والبعض الآخر من الأسباب يتعلق بالمتغيرات التي شهدها البلدان ودول المنطقة عموماً خلال العقد الأخير.

ومع ذلك، فإنه يبدو أن الاقتصاد سيكون وفق المؤشرات الأولية بوابة لتطبيع البلدين لعلاقاتهما الثنائية، أو لنقل القطاع الذي سوف يشهد الترجمة الفعلية الأولى لنجاح الوساطات العربية والأجنبية في فتح قنوات حوار وتواصل بين السوريين والأتراك.

فمثلاً الخطوة الأخيرة المتعلقة بفتح معبر أبو الزندين بريف حلب، والفاصل بين مناطق سيطرة الدولة والمناطق المسيطر عليها من قبل المسلحين المدعومين من أنقرة، يمثّل معطى شديد الوضوح حيال المرحلة التي قطعتها المفاوضات السورية ـــــ التركية لاستئناف علاقاتهما. كذلك الأمر بالنسبة للصور الواردة من القامشلي، والمتضمّنة قيام العناصر الحكومية بإعادة تأهيل معبر نصيبين مع تركيا.

ثلاث أولويات

يمكن القول: إن هناك ثلاث أولويات أساسية تهيمن حالياً على تفكير المسؤولين الاقتصاديين في كلا البلدين. أولويات لا تفرضها فقط مصالح كل بلد في هذه المرحلة، وإنما يفرضها أيضاً واقع الجوار الجغرافي بكل معطياته ومؤشراته، إضافة إلى خريطة التجارة الشرق متوسطية وتهديدات بعض المشاريع الإقليمية والدولية لحضور البلدين على تلك الخريطة.

الأولوية الأولى تتعلق بإعادة تشغيل البلدين لبعض المعابر الحدودية البرية، وما يمكن أن يشكّله ذلك من استئناف للتبادل التجاري بين البلدين أو لتجارة الترانزيت الإقليمية. وبحسب الخطوات المشار إليها آنفاً فإنه يتوقّع أن تجد هذه الأولوية طريقها إلى حيّز الوجود سريعاً.

والمصلحة الاقتصادية للطرفين هنا تبدو كبيرة، فدمشق التي تعاني تدهوراً اقتصادياً كبيراً بفعل تركة الحرب الثقيلة والعقوبات يمكن لإعادة تشغيل بعض المعابر الحدودية مع تركيا تأمين احتياجات السوق المحلية بكلف ووقت أقل، والاستفادة من رسوم عبور الشاحنات المحمّلة بالبضائع التركية المتجهة نحو الأردن ودول الخليج أو بالعكس كمان كان سائداً قبل الحرب. 

أما تركيا التي وصل حجم تبادلها التجاري مع دول الخليج وفق البيانات الرسمية التركية إلى نحو 23 مليار دولار في العام 2023، ومع الأردن إلى ما يقرب من مليار دولار، فإن توقّف طريق الشحن البري المار بالأراضي السورية منذ العام 2012 سبّب زيادة في تكاليف نقل الصادرات والمستوردات التركية إلى ومن الدول المذكورة من جراء الاضطرار إلى الاعتماد على النقل الجوي المعروف بتكاليفه العالية وكمياته القليلة رغم سرعته الزمنية، أو على النقل البحري الذي قد تكون تكاليفه المالية وكمياته المنقولة مقبولة مقارنة بالنقل الجوي إلا أنه مكلف زمنياً، فالسفينة قد تحتاج إلى أسبوعين أو أكثر لتصل إلى مقصدها.

لذلك فإن إعادة تشغيل المعابر الحدودية سيفضي إلى تحقيق المكاسب الآتية للبلدين:

- استئناف التبادل التجاري بين البلدين. صحيح أن قيمة هذا التبادل ستكون حالياً لصالح الجانب التركي لأسباب عديدة، إلا أنه سيقدّم خدمة للسوق السورية عبر توفير جزء كبير من احتياجاتها بكلف أقل، وهذا من شأنه أن يسهم في خفض الأسعار إن أحسن استثمارها.

وبحسب البيانات الرسمية للتجارة الخارجية السورية فإن مستوردات سوريا من تركيا قبل سنوات الحرب وصلت إلى حجم زادت فيه على مستوردات دمشق من دول أخرى كثيرة، كالسعودية، والإمارات العربية المتحدة، ومصر، والصين، والهند وغيرها. ووفقاً لتلك البيانات، فإنّ قيمة المستوردات السورية من تركيا بلغت عام 2010 نحو 1.6 مليار دولار، في حين لم تتجاوز قيمة الصادرات السورية إلى تركيا 625 مليون دولار، والمخطط آنذاك كان وصول قيمة المبادلات التجارية بين البلدين إلى نحو 5 مليارات دولار مع نهاية العام 2011.

- تخفيض كلف التصدير والاستيراد بالنسبة لتركيا مع التوجّه تدريجياً إلى نقل جزء من الصادرات والمستوردات عبر الطريق البري المار بالأراضي السورية. وهذا الأمر لن يكتسب بداية الأمر زخماً كبيراً، وذلك بانتظار معالجة وضع المناطق التي هي خارج السيطرة وتمكّن الدولة السورية من الدخول إليها وإدارتها.

- وجود مصلحة خليجية/أردنية بفتح الطريق البري نحو تركيا لتصدير منتجاتها وسلعها والاستغناء بعض الشيء عن النقل البحري والجوي. فمثلاً صادرات دول الخليج نحو تركيا وصلت في العام 2023 إلى نحو 11.7 مليار دولار مشكّلة بذلك ما نسبته 45% تقريباً من إجمالي المبادلات بين الجانبين. 

وأهمية تخفيض كلف النقل هنا بالنسبة لجميع الأطراف تتأتى من ارتفاع معدلات التضخّم عالمياً، وهذا ما يجعل هاجس جميع الدول العمل ما أمكن على تخفيض الكلف بغية الحد من معدلات ارتفاع التضخّم في أسواقها المحلية، والأهم إيجاد طرق برية تكون مكمّلة أو حتى بديلة عن الطرق البحرية عند حدوث الأزمات.

- استفادة دمشق من إيرادات عبور الشاحنات المحمّلة بالبضائع والسلع المتجهة من تركيا إلى الأردن ودول الخليج أو بالعكس، ولا سيما في هذه المرحلة التي تعاني فيها من تراجع وارداتها من القطع الأجنبي وارتفاع نفقاتها.

الأولوية الثانية وتعدّ نتيجة طبيعية لتحقّق الأولوية الأولى. فالعمل على زيادة التبادل التجاري الثنائي يأتي في صدارة اهتمامات الدول والحكومات في تواصلها وتعاونها الاقتصادي. وهو في الحالة السورية ـــــ التركية يمثّل ضرورة لكلا البلدين. وكما جاء آنفاً فإنه من مصلحة سوريا تنويع مصادر مستورداتها ولا سيما تلك تتميّز بكلفها المنخفضة قياساً بمصادر أخرى، فضلاً عما يمثّله ذلك من فرصة لبعض الصادرات السورية لتتغلّب على الصعوبات التي تواجهها في التوجّه نحو أسواق الدول العربية. 

كما أن ذلك يمكن أن يسهم في الحد من تدفّق السلع التركية بشكل غير شرعي إلى الداخل السوري. وهذا أمر جرى تناوله وشرحه مراراً بناء على البيانات الصادرة عن جهاز الإحصاء التركي، والتي تقول بوجود كميات كبيرة من الصادرات التركية إلى سوريا أو بالأحرى إلى المناطق التي توجد فيها فصائل مسلحة مدعومة من قبل أنقرة، وغالباً هذه الكميات تفيض عن حاجة تلك المناطق، وتالياً فإن غايتها الرئيسية تبقى النفاذ تهريباً إلى مناطق سيطرة الحكومة.

أما تركيا فإن مصلحتها المباشرة تكمن في استثمار حاجة السوق السورية إلى السلع بعد خروج آلاف المنشآت والأراضي الزراعية عن الإنتاج بسبب الحرب. وهو موقف مشابه لذاك الذي وجدت سوريا نفسها فيه أواخر التسعينيات عندما قررت استئناف علاقاتها الاقتصادية مع عراق صدام حسين، الذي كان يرزح تحت حصار اقتصادي دولي خانق جعل البلاد في حاجة إلى العديد من السلع والمواد الغذائية وغير الغذائية.

وإلى جانب المعابر البرية بين البلدين، فإن قرب المرافئ السورية والتركية من بعضها البعض يعزّز من فرص التبادل والتعاون التجاري، ويوحّد جهودها في تأكيد وجودها المؤثّر على خريطة التجارة الشرق متوسطية، خاصة وأن تداعيات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أكدت استحالة استقرار الاقتصاد الإقليمي في عموم المنطقة اعتماداً على المشاريع الإقليمية والدولية القائمة على المشاركة الصهيونية فيها.

لكن..!

الأولوية الثالثة، والتي قد تكون حالياً مؤجّلة بسبب العقوبات الغربية وتأخّر التوافق الإقليمي والدولي على حل الأزمة، إلا أنها تبقى في صدارة حسابات الحكومة التركية تحضيراً لمرحلة تصبح فيها هذه الأولوية متاحة. فالعمل على ضمان حصة من "كعكة" إعادة الإعمار في سوريا هو مثار حديث اقتصادي تركي منذ سنوات، وذلك بالاستناد إلى مؤشرين: الوضع الاقتصادي التركي الذي تعرّض لصدمة خلال السنوات الأخيرة جعلت الحكومة تفكّر في تنويع أنشطته الداخلية والخارجية وإجراء المزيد من الإصلاحات، والمؤشر الثاني هو احتواء سوريا على فرص استثمارية كبيرة في مرحلة إعادة الإعمار لا يحبّذ الأتراك تركها لدول أخرى، وهم الأولى بها "كجيران".

لكن كلّ ذلك وغيره من الأولويات وفرص التعاون الاقتصادي بين البلدين، سيبقى رهناً بالتطورات الآتية:

- طبيعة وماهية الموقف الأميركي من التقارب السياسي والاقتصادي المتسارع بين دمشق وأنقرة، وما قد ينجم عنه من قرارات وإجراءات في سياق الرد الأميركي.

- ما سيؤول إليه الوضع في المناطق التي هي خارج سيطرة الحكومة السورية، وتحديداً المناطق التي تحتلّها القوات التركية.. هل ستسلّم مباشرة للحكومة السورية؟ أم ستكون هناك خطة تدريجية؟

- نتيجة المفاوضات والمباحثات التي سوف يجريها المسؤولون الاقتصاديون في كلا البلدين بغية تعديل الاتفاقيات الاقتصادية السابقة والتي لم تعد تصبّ في مصلحة سوريا في ضوء ما تعرّضت له قاعدتها الإنتاجية من دمار وخراب، تراجع إيراداتها من القطع الأجنبي، ومشروع ترشيد المستوردات الذي تسير عليه لضبط سعر الصرف.

- موقف "الإدارة الذاتية" الكردية من مسألة فتح المعابر الحدودية بين سوريا وتركيا، والسماح للشاحنات التركية بالعبور ضمن المناطق التي تسيطر عليها باتجاه مناطق سيطرة الحكومة.