بين مصياف والضاحية الجنوبية: إعلامٌ عربيّ يخوض معارك العدو

تكشف الأحداث الأخيرة، عن تدشين العدو مرحلة إعلامية جديدة من هذه الحرب، الهدف الأول والأساسي منها، توليد الثقة داخل الكيان وعلى جبهة داعميه من جديد، وبثّ الرعب بشتّى الوسائل على الجانب الآخر.

  • سعارٌ إعلاميّ عربيّ يستميت أصحابه والقائمون عليه في سبيل إضعاف المقاومة.
    سعارٌ إعلاميّ عربيّ يستميت أصحابه والقائمون عليه في سبيل إضعاف المقاومة.

بينما كان الصّوت يلهث خلْف الصاروخ اليمنيّ، "فلسطين2"، محاولاً، عبثاً، اللحاق به وهو في طريقه إلى مدينة يافا الفلسطينيّة المحتلّة، وفي الوقت الذي كان الأخير "يتبخترُ" في السماء العربية هازئاً بأحدث الدفاعات الجويّة التي نصبها حلف "الناتو" وكيان الاحتلال الإسرائيليّ، وأدواتهما في المنطقة، لغرض الذود عن الكيان وحمايته وهو يرتكب مجازره بأهلنا في قطاع غزّة وعموم فلسطين، كانت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية توعز إلى أدواتها الإعلامية في المنطقة والعالم، بنشر ما يطلقون عليه "تسريبات" و"تقارير خاصّة" عن عملية أمنية وعسكرية كبيرة في منطقة مصياف السورية.

وبالفعل، تبارت بعض القنوات والمواقع العربية والأجنبية، مع صحفيين غربيين عُرفوا بعلاقتهم مع أجهزة أمن العدو، في اختلاق سيناريوهات ونتائج لتلك العملية، منسوبة دوماً إلى "مصادر إسرائيلية خاصة" لم يُسمّها أحد.

وقد كادت تلك الحملة الواسعة أنْ تُحقّق بعض النتائج المرجوّة في نظر المسؤولين الإسرائيليين، وأهمها اختراع بطولات وانتصارات ونسبها إلى "الجيش الذي لا يُقهر" (اللّهمّ إلّا في غزّة والضفّة وجنوب لبنان وسوريا وأمام اليمن وإيران وحشد العراق وعلى المعابر التي تفصله عن الشعب الأردني)، وإلى أجهزة أمنه العسكرية الخاصة، القادرة على العمل وتحقيق النتائج في كل مكان، وترويجها لدى الشارع الإسرائيليّ أوّلاً، لإعادة بعض الثقة التي تكاد تتلاشى بعد كلّ ذلك الفشل الواضح أمام المقاومة العربية والشعب الفلسطينيّ على مدى أكثر من 11 شهراً من العدوان على قطاع غزة، ثم لدى الرأي العام العربي الذي غيّرت معركة "طوفان الأقصى" المجيدة وتداعياتها، نظرة شرائح واسعة منه تجاه "قوة" الكيان وقدرته على البقاء، والقول إنّ الكيان ما يزال قويّاً وقادراً وعصيّاً على الهزيمة، ويمكنه فعل ما يشاء في أيّ وقت وفي أيّ مكان، وأن لا جدوى من إيمانكم بالمقاومة كسبيل لتحرير فلسطين والأرض العربية المحتلة، ودعمكم لها. 

لكنّ الصاروخ اليمنيّ، وهو يسقط بانسيابيّة بديعةٍ على هدفٍ في قلب يافا المحتلة، وقع على رؤوس هؤلاء جميعاً، ليعرّيهم ويُعرّي رواياتهم عن فائض القوة والقدرة ذاك. لكنْ، هل هذا يعني أنّ العدوان على "مصياف" السوريّة لم يحدث؟ بالطبع لا.

الواقعُ أنّ عدواناً كبيراً، ومختلفاً في شكله ومضمونه، قد حدث ليل الأحد / صباح الاثنين في التاسع من هذا الشهر. ومن دون الخوض في تفاصيل عسكريّة خاصّة، فقد خاضت الدفاعات الجويّة السورية معركة ضارية استمرت حتى ساعات الصباح، شاركت فيها قوات سورية موجودة على الأرض في منطقة مصياف.

وذلك بعد أنْ عمد العدو إلى إطلاق صواريخ وسرب من الطائرات المسيّرة، من فوق البحر، بهدف إشغال الدفاعات الجوية السورية، والتغطية على عملية تسلّل حاول العدو البلوغ من خلالها إلى موقع قرب بلدة مصياف والقيام بعمليات تفجير وقتل وسرقة واختطاف. والواقع أيضاً، أنّ القوة الصهيونية الخاصة التي حاولت الوصول إلى المكان المقصود، وهو موقع عسكريّ سوريّ بامتياز، تعرّض للاعتداءات لعدة مرات خلال السنوات السابقة، ولا وجود لأي عناصر إيرانية فيه أو حوله على الإطلاق، قد خاضت معركة مع أهل مصياف، العُزّل تماماً، قبل أي أحد آخر، ومارست هواية الصهاينة الأزلية في قتل المدنيين وتدمير ممتلكاتهم. أمّا عسكريّاً، فقد تلقّت القوة المعادية مقاومة ضارية وكبيرة أدّت إلى تحقيق خسائر فادحة ومؤكّدة بين صفوفها، سوف تتكشّف تفاصيلها في القادم من الأيام، ما أدى إلى فشل العملية تماماً.

لم يستطع مجرم الحرب، نتنياهو، أو أيّ من قادة أجهزته الأمنية، أنْ يخرج بمؤتمر صحفيّ، أو حتى بتصريح واضح، ليحتفل بـ "انتصار" في مصياف، وقد كانوا في أمسّ الحاجة إلى هذا الأمر، وما كانوا ليُغفلوه لو حقّقوا أيّ نتائج جيدة.

فأوعزوا إلى أدواتهم الإعلامية في المنطقة والعالم، باختراع هذا "النصر"، ففتحت بعض القنوات العربية (أو الناطقة بالعربية) الهواء على مصراعيه، لـ" محلّلين وخبراء" يعرفون كل شيء (ومن خلال المتابعة، تكتشف أنّ معظمهم لا يعرف في أيّ شطرٍ من سوريا تقع مصياف) وبدأ الحديث عن "اختطاف خبراء إيرانيين" و"الحصول على وثائق هامة".

وتوالى النقل والاقتباس عن صحفيين غربيين "على اطّلاعٍ خاص وكبير" (وبعد البحث في خلفيّة هؤلاء، تجد أنّهم معروفون بعلاقاتهم مع أجهزة أمن الكيان وخدمتهم لأجنداتها) وتكرار السرديات ذاتها، وهي في المُجمَل أمور بعيدة عن الحقيقة تماماً، بل لا أساس لها في الواقع، وكل ما يمكن لمجرميّ الحرب الإسرائيليين وأدواتهم، أنْ يتباهوا به، هو التسبّب باستشهاد 9 مدنيّين عُزّل في مصياف، سوف يُضافون، وثأرهم، إلى قافلة الشهداء الطويلة "على طريق القدس".

لكنهم لا بُدّ سيتذكّرون دائماً، أنّ هذه العملية كلّفتهم عدداً من الضباط والجنود الذين قُتلوا على أيدي ضباط وجنود الحامية العسكرية السورية في مصياف، والذين بدأت أجهزة الأمن الصهيونية باختراع مصائر أخرى لهم، منها الحديث عن تحطّم طائرة عسكرية في رفح (في اليوم الثاني للعدوان على مصياف) ومقتل عدد من الضباط (أحدهم برتبة لواء) والجنود الذين كانوا على متنها، ولدى البحث قليلاً، تجد أنّ لا حوادث عسكرية جويّة حصلت في رفح خلال ذلك اليوم. 

بعد أيّام على عدوان مصياف، وعلى الصاروخ اليمنيّ الذي وضع الأمور في نصابها الكارثيّ بالنسبة إلى العدو، حدثت جريمة "البيجر" في لبنان.

وقبل أنْ يصل ضحايا العدوان إلى المستشفيات، فتحت القنوات الإعلامية ذاتها الهواء لكل من يريد "الاحتفال" بهذا "النصر"، ولكل من يتمتع بقدرات استثنائية على الكذب والتضليل واختلاق الروايات عن "اختراقات" وعن "مئات القتلى وآلاف الجرحى" كلّهم من بين أفراد وكوادر المقاومة حصراً، في الوقت الذي كان المواطنون اللبنانيون يتناقلون في ما بينهم من خلال وسائل التواصل، مشاهد تُظهر عشرات الأطفال والنساء والرجال (على اختلاف أعمارهم) المصابين. 

تكشف الأحداث الأخيرة تلك، عن تدشين العدو مرحلة جديدة من هذه الحرب، الهدف الأول والأساسي منها، توليد الثقة داخل الكيان وعلى جبهة داعميه من جديد، وبثّ الرعب بشتّى الوسائل على الجانب الآخر، بهدف الإحباط وضرب مستوى الثقة بالمقاومة وقواها وجدواها. 

لكنّ بعضّ التريّث والتأمّل في الأمر، يكشف ما هو أبعد من ذلك وأكثر عمقاً بكثير، وهو أنّ "جيش" الاحتلال وقواه العسكرية التقليدية التي لطالما كانت عنوان الثقة والبقاء والوجود بالنسبة إلى المستوطنين، ما عادت قادرة على تحقيق أي إنجاز استراتيجي أو مستدام، ليس في غزّة والداخل الفلسطيني المحتل فحسب، بل على كل الجبهات، وأنّ هذا "الجيش" لم يعد يجرؤ على التقدّم خطوة باتّجاه لبنان أو سوريا مثلاً، لكنه قادر، حتى الآن، على القتل من بعيد، ما دامت الذخيرة تصله من الولايات المتحدة والغرب.

ولذلك، كان لا بد من تكثيف "العمليات الأمنية القذرة" التي اشتُهر بها الكيان دوماً، وارتكاب ما أمكن من الجرائم بحقّ المدنيين داخل دول محور المقاومة، ثمّ إخراج تلك العمليات (التي لو قامت بمثلها أي قوة أخرى في العالم، لانقلب الكوكب رأساً على عقب من شدّة الغضب والتباكي على القوانين الدولية وحقوق الشعوب والأمم، بل لصدرت قرارات أممية تحت الفصل السابع) إعلاميّاً، باعتبارها انتصارات تأتي من خلفية "الدفاع عن النفس"، وهو ما يقوم به بعض الإعلام العربي والعالمي تماماً، هذه الأيام.

في سوريا، وتحديداً في الأشهر والسنوات الأولى من "عشرية النار"، اضطلع بعض الإعلام العربي، بطريقة غير مسبوقة في التاريخ الحديث، بجرائم التحريض على سوريا الدولة والشعب، وتكفّل بفبركة مواد ومشاهد و"جرائم" وشهادات لا تُحصى، كلّها صبّت في هدف تدمير الدولة السورية وتشريد شعبها، وقد تكلّف أصحاب هذا الإعلام مئات الملايين من الدولارات في سبيل ذلك. 

وما نشاهده اليوم، بعد أكثر من 11 شهراً على بدء معركة "طوفان الأقصى"، وبعد كل جريمة بشعة يرتكبها هذا العدو، هو سعارٌ إعلاميّ عربيّ يستميت أصحابه والقائمون عليه، في سبيل إضعاف المقاومة وتوهين عزائم أهلها وإراداتهم، والتبرير لجرائم العدو التي يندى لها جبين الإنسانية، لكنّ الأبعد والأعمق من هذا بدوره، هو اختلاف الزمن الذي كان فيه العدو يهرب، عمليّاً ومعنويّاً، بجرائمه التي تُحقّق له السطوة وامتلاك ناصية الرعب، بسهولةٍ كبيرة، فالصاروخ اليمنيّ ما عاد استثناءً أو مصادفة تحدث كل أعوام، بل بات خلف كل جريمة يرتكبها العدو، قصاصاً أشدّ رعباً على العدو ومستوطنيه و"إعلامه وإعلامييه"، وأقوى أثراً بكثير من أنْ يدع الخوف أو الإحباط يتسللان إلى نفوس أهل المقاومة في المنطقة. وعليه، نتأهّب جميعاً لنشهد خلال الساعات أو الأيام القليلة القادمة، ما ستوفّره لنا صواريخ المقاومة من "حفلات بكاءٍ ويأسٍ" على الهواء مباشرةً، وبالدموع العربيّة غير الفصيحة.