الوساطة القسرية: توم برّاك وتكتيك "باتنا"
منذ تسلّم توم برّاك مهمته، تتكرر دوامة قدومه إلى لبنان لعرض ورقة، يقبل بها لبنان، فيذهب بها إلى "إسرائيل" التي ترفضها، فيقوم برّاك بلوم لبنان، وتقديم ورقة جديدة أخرى.
-
تُعد الوساطة الأميركية في الصراعات العربية-الإسرائيلية ظاهرة فريدة.
في موازاة العدوان الإسرائيلي المستمر على لبنان، تطرح على بساط البحث مبادرات عدّة، أميركية وغير أميركية، تدعو إلى التفاوض بين لبنان و"إسرائيل"، ويطلق المبعوث الأميركي توم برّاك تصريحات متتالية، منها ما هو مهين للبنانيين، ومنها ما هو تهديدي، ومنها ما ينطلق من تصوره الخاص "التحريفي" للتاريخ والجغرافيا الشرق أوسطية.
وفي هذا الإطار، يمكن تقييم الوساطة الأميركية عبر المبعوث توم برّاك بأن جزءًا منها هو امتداد للنموذج الأميركي في التعامل مع الصراع العربي- الإسرائيلي والدعم المطلق لـ"إسرائيل"، والجزء الآخر يرتبط بإدارة الرئيس دونالد ترامب ونموذجه الفريد في العلاقات الدولية.
1- الوساطة القسرية
تُعد الوساطة الأميركية في الصراعات العربية-الإسرائيلية ظاهرة فريدة تبتعد عن النموذج التقليدي للوسيط المحايد. فبدلاً من تبني دور "الوسيط النزيه"، تعتمد واشنطن على نموذج "الوساطة القسرية" (Coercive Mediation)، حيث تستغل نفوذها كقوة عظمى لتوجيه عملية التفاوض لمصلحة حليفتها "إسرائيل" ما يقوّض فعالية الوساطة ويحوّلها إلى أداة ضغط لا أداة وساطة.
في المبادئ الأساسية لعلم الوساطة والتفاوض، يشار إلى أن التفاوض المثمر يجب أن يكون "قائماً على المصالح"، أي يجب أن تكون هناك مصلحة لكل طرف، بهدف التوصل إلى اتفاق. لكن المقاربة الأميركية في لبنان غالباً ما تتبنى "المواقف الموضعية" (Positional Stances) التي تعكس الأجندة الإسرائيلية بشكل حصري.
على سبيل المثال لا الحصر، عندما يعرض المبعوث توم براك شروطاً تفاوضية تركز على "نزع سلاح المقاومة في لبنان، من دون أي التزام موازٍ بالانسحاب من النقاط المحتلة أو تطبيق اتفاق وقف الأعمال العدائية الموقّع في تشرين الثاني 2024، فإنه عملياً يتبنى موقف "إسرائيل" لا موقف الوسيط الذي تعهد بضمانة الاتفاق.
2- تكتيك "التراجع وإلقاء اللوم" (The Blame Game)
منذ تسلم توم برّاك مهمته، تتكرر دوامة قدومه إلى لبنان لعرض ورقة، يقبل بها لبنان، فيذهب بها إلى "إسرائيل" التي ترفضها، فيقوم برّاك بلوم لبنان، وتقديم ورقة جديدة أخرى فيها شروط إسرائيلية إضافية وتنازلات أكثر من لبنان.
إن قيام توم برّاك بإلقاء اللوم على الطرف اللبناني بعد الرفض الإسرائيلي يُعدّ تكتيكاً تفاوضياً قسرياً، يهدف من خلاله إلى ما يلي:
أ- تخفيف الضغط عن "إسرائيل": بتحويل الانتباه الدولي عن الرفض الإسرائيلي وإعطائها مبررات للتصعيد والعدوان المستمر على لبنان.
ب- زيادة كلفة الرفض على لبنان عبر الضغط النفسي والسياسي والحرب النفسية التي تُشن على لبنان عبر أدوات سياسية وإعلامية، لإجبار لبنان على تقديم تنازلات إضافية في الجولة القادمة. هذا السلوك يرسخ فكرة أن لبنان يُعاقَب على مرونته التفاوضية، في حين تُكافأ "إسرائيل" على تصلبها وعدوانها المستمر.
ت- يُعد توجيه التهديدات أو الإهانات من قبل الوسيط تجاه أحد الأطراف (اللبنانيين في هذه الحالة) أقصى درجات الانحراف عن مبدأ الحيادية. إن الإهانات اللفظية الموجهة إلى اللبنانيين تُعد محاولة لتقويض "المكانة التفاوضية" للطرف اللبناني، ما يزيد من الضغط النفسي والسياسي ويجبره على الاستسلام للمطالب الأميركية/الإسرائيلية.
3- استخدام مفهوم (BATNA)
يشير مفهوم "باتنا" (Best Alternative to a Negotiated Agreement) إلى أفضل نتيجة يمكن لطرف ما تحقيقها إذا فشلت عملية التفاوض في التوصل إلى اتفاق مقبول.
في نظرية التفاوض، تُعد قوة الطرف التفاوضية مُشتقة بشكل أساسي من "البديل" الذي يملكه في حال فشلت العملية التفاوضية. وهكذا، كلما كان هناك بدائل ممكنة وجيدة، يكون وضعك التفاوضي أفضل، فتضع شروطك على الطاولة، وكلما انتفت البدائل التي تخدم مصلحتك، كان موقفك ضعيفاً.
وعلى هذا الأساس، إن التهديد الأميركي/ الإسرائيلي الضمني أو الصريح بأن فشل المفاوضات مع لبنان سيؤدي إلى حرب شاملة أو تصعيد عسكري إسرائيلي كبير، يهدف إلى دفع لبنان إى القيام بتنازلات سيادية مؤلمة، بخاصة عندما يوضع أمام خيار بأن "البديل عن التفاوض أو التوصل إلى اتفاق مقبول إسرائيلياً" هو حرب مدمرة أخرى.
الهدف من هذا التكتيك هو تقليص "منطقة الاتفاق الممكن" إلى أدنى حد ممكن، لصالح الطرف الإسرائيلي. باستخدام التهديد، ترتفع كلفة "عدم الاتفاق" على لبنان بشكل كبير جداً، بينما لا تتأثر كثيراً بالنسبة إلى الولايات المتحدة و "إسرائيل".
وعندما يقوم برّاك بتحميل لبنان مسؤولية التصعيد (بسبب عدم نزع سلاح حزب الله) يحوّل BATNA لبنان من خيار سيئ (التنازلات) إلى خيار كارثي (حرب)، والهدف إجبار لبنان على التفاوض من موقع ضعف مُطلق.