من دير ياسين إلى المطبخ العالمي
كعادتها تمتطي الصهيونية الغربية منها والشرقية صهوة الإعلام لتمرير أكاذيبها وتضليل الشعوب مجدداً بادعاء الطهارة أمام موت عمال المطبخ العالمي الذين يحملون جوازات سفر هذه الدول.
فجأة ـــــ ونحن على مسافة أيام من مجزرة دير ياسين ـــــ ارتعشت بعض الضمائر في "العالم المتحضّر" وارتفع منسوب الحساسية لديها، وكأنّ قصف مركبة "المطبخ العالمي" في غزة واستشهاد وإصابة البعض من زرق العيون هو الخطأ الوحيد الذي ارتكبته قوات الاحتلال منذ النكبة.
وها هي النكبة ستكمل عامها السادس والسبعين بعد أيام معدودة. وكأنّ ستة وسبعين عاماً أكملتها مذبحة دير ياسين على يد الهاغاناة في التاسع من نيسان/أبريل عام 1948 لم تكن محسوبة من التاريخ البشري.
نعم، ستة وسبعون عاماً مضرّجة بدماء مئات الآلاف من الشعب الفلسطيني و"مرصّعة" بخيام اللاجئين ممن سلبت بيوتهم أو هدمت على مرأى ومسمع، بل وبتخطيط ومشاركة ومباركة الدول ذاتها.
الآن بايدن وبّخ نتنياهو، واستفاقت إنسانية أستراليا الغارقة في سباتها فطلبت تفسيراً، ونهضت أخلاق بريطانيا العظمى من قبرها لتعلن عن وجودها، فجأة خطر لها أن تستدعي السفير الصهيوني، وفجأة بولندا تطالب الكيان بالاعتذار، وأميركا تريد مراجعة، سبحان مغيّر "الأخلاق". ليس هذا فحسب، بل الإمارات ثارت حميّتها فعلّقت علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان. مرة أخرى سبحان الله. وعليه قد أقرّت المنظمة الأممية بالأغلبية الساحقة قراراً بمنع تصدير السلاح للكيان.
مئات آلاف الشهداء والجرحى والأسرى والمشرّدين والجياع لم تهزّ الضمائر المرتاحة، ولم تستدع الأخلاق النائمة في "ناموسية" الزمن. الآن فقط طلع النهار على الدول الشقراء! فركت عينيها، واتضح لها "الخيط الأبيض من الخيط الأسود". أحست أن حبيبتها "إسرائيل" طعنتها في الظهر؟ الآن اكتشفت أنه "هان عليها الود".
هذا التاريخ الأسود الطويل علّمنا ألّا نصدّق ما نسمع. طيلة قرن ونصف القرن والغرب وتوابعه يكذبون علينا بلا أدنى إحساس بالخجل، ويكذبون على شعوبهم.
أكاذيبهم أصبحت مكشوفة في عقر عواصمهم، والجماهير تهتف ضدهم. انكشفت حقيقتهم، لن تقنعنا فقاعاتهم الإعلامية التي يحاولون من خلالها أن يغطوا وجههم الحقيقي، فبسبب هذا الوجه تمادى الكيان في الولوغ في الدم العربي والإسلامي من دون رادع، وشكّلوا له شبكة أمان ووعداً بالدعم المتواصل والحماية مقابل ما يقدّمه لهم من خدمات على دمنا، وظل طيلة هذه العقود فوق القانون وفوق المساءلة بدعمهم اللامحدود عسكرياً ومالياً وسياسياً عمر طيلة هذه السنوات، فالكيان يحمي مصالحهم في المنطقة ويحارب بالنيابة عنهم مضافاً إلى ذلك حجم التواطؤ العربي الذي تقدّمه دول التطبيع والأنظمة التابعة.
عوداً إلى الإمارات وما أعلنته من تعليق للـ "وصل" الدبلوماسي مع الكيان، فلم يأتِ هذا القرار من قناعة ولا من باب مراجعة الحسابات، ولا من باب حقن الدم الفلسطيني، لكن وقد أعلن الكيان إغلاقه لـ 28 سفارة وقنصلية خوفاً من الرد الإيراني على جريمة الاحتلال الأخيرة بحق القنصلية الإيرانية في دمشق، فقد حاولت الإمارات أن تدّعي أنها هي التي بادرت بذلك؟
كيف لا وهي التي اختارت أن تقف إلى جانب هذا الكيان اللقيط عسكرياً وسياسياً ومالياً ودبلوماسياً؟ وقد تحذو حذوها بعض الدول المطبّعة الأخرى في محاولة منها لذرّ الرماد في العيون، لغسل بعض عارها أمام جماهيرها المحتجة من ناحية، ومن ناحية أخرى هي تعلم ومولاتها تعلم أن هذا ليس إلا قراراً إعلامياً تكتيكياً متفقاً عليه.
ويذكر موشيه ديان في أحد كتبه، وكذلك غولدا مائير في مذكّراتها، أنها قبيل حرب 1948 كانت تلتقي مع الملك عبد الله الأول لتقنعه بعدم مشاركة الجيش الأردني في الحرب، وافق على ذلك بتحفّظ، خوفاً من أن يتهمه العرب بالخيانة، لكنها وموشيه ديان أقنعاه بأنهم (أي الصهاينة) سيقومون بتبييض صفحته عبر الإعلام، وبدأت صحيفة " جروسلم بوست تنفيذاً لهذا المخطط تنشر على صفحاتها الأولى تقارير و"مانشيتات" تهاجم الملك عبد الله وتتهمه بالعداء للسامية وبرغبته في القضاء على اليهود.
لست هنا بصدد تصديق أو تكذيب هذه الواقعة، لكن الصهاينة وقبل اغتصاب فلسطين كانوا يخططون لاستخدام الإعلام للتضليل، وهذا ليس سراً، بل أكدوه في البروتوكول الثاني عشر من بروتوكولات حكماء صهيون قبل أكثر من مئة وعشرين سنة. والآن وكعادتها تمتطي الصهيونية الغربية منها والشرقية صهوة الإعلام لتمرير أكاذيبها وتضليل الشعوب مجدداً بادعاء الطهارة أمام موت عمال المطبخ العالمي الذين يحملون جوازات سفر هذه الدول.
يؤلمنا كثيراً ذبح عمال المطبخ العالمي كما يؤلمنا ذبح أهلنا وبني جلدتنا. فكلّهم ضحايا على مذبح الحرية والإنسانية، ذبحوا باليد ذاتها وبالسلاح نفسه، وبسبب سياسات بلادهم، بلادهم التي كانت ومنذ زمن طويل تدّعي أنها تعلّم شعوبنا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة والطفل والأخلاق والسلام، منذ عقود والبعض يصدّقها، منذ عقود وبعض الباحثين والمرتزقين من أدعياء الثقافة والإنسانية يشكّكون في خطابنا "الدموي" أو لغتنا "الخشبية" كما يحلو للبعض أن يسمّيها، ويريدون أن نغيّر هذه اللغة إلى لغة يفهمها الغرب، لغة أكثر لطفاً وخطاب لا "يقطر دماً"، ويكيلون النقد تلو النقد لرسائل الاستشهاديين ووصاياهم التي يرون أنها أساءت للقضية لأنّ لغتهم تجاوزت "نبل الغرب وأخلاقياته" وبالتالي لن يفهمها.
أستذكر في هذا المقام أنه قبل أكثر من عقد من الزمان التقيت صدفة في بهو أحد فنادق رام الله بسيدة عرفت أنها لبنانية من لهجتها، ظننت للوهلة الأولى أنها لبنانية متزوجة من فلسطيني أو فلسطينية مولودة في لبنان، وحين تعرّفنا أخبرتني أنها "أميركية لبنانية" قادمة من الولايات المتحدة وتعمل في منظمة أميركية هي يو أس أيد، ضمن مشروع تنفّذه وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، يهدف لتربية الأطفال على اللاعنف. لم تقلها مباشرة، لكنها بمواربة ولف ودوران أوصلت الفكرة مختتمة حديثها بسؤالها لي عن رأيي كأكاديمية وإعلامية.
شعرت بأن المشروع بحد ذاته مستفزّاً، فقلت لها: لا ألومك ولا ألوم الـ "يو أس أيد"، فهذا دوركم في المسرحية، لكني ألوم وزارة التربية. لم يعجبها رأيي طبعاً. قالت: وضّحي.
قلت: إن الولايات المتحدة بقادتها وشعبها بمن فيهم الأطفال أحوج من أطفال فلسطين لتربية كهذه، فالشعب ينتخب قادته وقادته يدعمون الاحتلال والاحتلال يمارس العنف، والفلسطيني ضحية العنف، وأنتم تريدون تربية الضحية لا الجاني. أما الأطفال الأميركيون فهم أنفسهم نتاج هذه السياسة، وبالتالي يتربون على العنف. وسألتها: هل سمعت أن طالباً جامعياً أو تلميذاً بمدرسة في فلسطين أطلق النار على زملائه في المدرسة أو الجامعة؟ لم يحصل مطلقاً، لكن في الولايات المتحدة يحصل كثيراً. لم يطل حديثنا، انصرفت إلى عملها وانصرفت إلى عملي.
أما بعد، فإن ما أخشاه الآن أنه وبعد ما أظهره هذا الغرب من دموية وانكشاف لوجهه الحقيقي حتى أمام ناخبيه ووسائل إعلامه، أن يعود ببضعة آلاف دولار أو يورو ليمارس "تعليم" السلام وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل وإعادة تربيته على" اللاعنف" وأن يمرّ الأمر على السذّج والمنتفعين.