الاحتراق في الشمال لكن "الإصابة في الروح"
دخل المجتمع الشمالي في فخ "صناعة الخيبة"، لكن المقاومة أعادت توطنين هذه السياسة في جغرافيا وعي المجتمع الشمالي، بضربات موضعية تطفئ شعور النشوة لديه كلما ارتفعت.
أن يتموضع المجتمع الشمالي في خانة "الأمر الواقع" ليس لفعل الإخلاء نفسه، بل لإخراطه مرغماً في حرب الإيلام المفروضة، تمظهرت معالمه بشكل واضح في أوامر المقاومة بإخلاء 25 مستوطنة تمتدّ إلى عمق 20 كلم عن الحدود، بنقل "المعركة ضد الجمهور" إلى أرض العدو، وما يعنيه ذلك من الاحتكاك المباشر مع الجبهة الداخلية، أي ورقة الضغط الدقيقة في حساسيتها لجهة التأثير على عملية صنع القرار خلال الحروب، وقد تكون حركة "الأمهات الأربع" شاهداً تاريخياً على مشهد الخروج من حرب لبنان الأولى.
لا تدور مثل هذه المعارك ضمن حدّ جعرافي بل داخل ذهنية المجتمع الشمالي هنا تحديداً، وبما أنّ تأثير إعلان الإخلاء أتى باكراً ـــــ بالاستناد إلى واقع سعى الإعلام العبري جاهداً لإخفائه ـــــ بزرت نتوءات لفجوات عميقة في حصانة هذا المجتمع البنيوية؛ لم تكن معلومة حتى للمستوطنين أنفسهم.
لعلّ توقيت إعلان قيادة الجبهة الداخلية أي قبل نحو ساعة من إخطار المقاومة بأوامر الإخلاء، راكم عملية اختراق "مثلّث: الشعب ـــــ ممثّلي المستوطنات ـــــ قيادة الجبهة الداخلية"، الذي ثتبُتَ دوناً عن غيره أمام اهتزازت ثقة الجمهور "بالدولة ومؤسستها" لأكثر من 11 شهراً؛ فكيف للجبهة الداخلية الآن أن تصدر تعليماتها بخفض القيود من مستوى "النشاط المنخفض" إلى "النشاط الجزئي" واسئناف التعليم؟ هذا و"الاعتراضات لا تزال فوق روؤسنا" بحسب قول رفائيل موشيه مخاطباً رئيس بلدية نهاريا، "هذا الرجل يعتقد أننا جنوده، العمدة الذي يجري تقييماً للوضع يخلق حالة من عدم اليقين في واقع أدنى من عدم اليقين".
قبل هذا عرّف رؤساء المجالس والبلديات أنفسهم، كخط دفاع أول عن "حقوق مواطنيهم" بالحماية والأمان، لم يغادروا مستوطناتهم من شتولا إلى كرمئيل، رغم عدم امتثال هؤلاء الآن لتعليمات الجبهة الداخلية كافة، إلا أنهم جسّدوا الامتداد الفعلي لموقف قيادة الجبهة الداخلية، فخسروا كما خسر قبلهم المستوى السياسي وحتى العسكري الثقة والتمثيل الشعبي، فكان الاستنساخ لردّة الفعل ذاتها: "أنتم تقولون لنا إن الصواريخ ستصبح أمراً واقعاً تعايشوا معها! حتى لو كنا نحن الثمن! تقول هيلا باروخ بيطون، ثم ذهب آخرون إلى ما هو أخطر بسحب الثقة كلياً من رئيس بلدية نهاريا نفسه: "أيها العمدة لن أختارك مرة أخرى هذا أمر مؤكّد، وهناك الآلاف مثلي!! تلعبون لعبة الروليت الروسية على حساب أطفالنا"، يضمّ رونين ماريلي صوته إلى الكثيرين من سكان نهاريا أي المدنية صاحبة الضربة الافتتاحية في إنذارات الإخلاء.
ثم قبل هذا أيضاً، اتخذ المستوطنون من عقيدة التفوّق العسكري حصناً نفسياً للتعامل مع أيّ مخاطر، حتى فُتحت ثغرة بالجدار، وخرج المعترف منهم؛ ليس بقدرة "عدوه" على كسب انتصار تكتكي مارق، بل بقوة تطلق نيرانها من على الهضبة ذاتها، تماماً إلى المسافة التي وصلت إليها إيلين بنان للاعتراف: "نحن الضعفاء".
في الحقيقة، دخل المجتمع الشمالي في فخ "صناعة الخيبة"، تلك الصنيعة الإسرائيلية نفسها، لكن المقاومة أعادت توطنين هذه السياسة في جغرافيا وعي المجتمع الشمالي، بضربات موضعية تطفئ شعور النشوة لديه كلما ارتفعت، أولها بتعمّد إظهار بينيّ لصورة اقتدار وسيطرة المقاومة، وصناعة خيبة مضادة لنظرية إضعاف حزب الله مثلاً بعد استشهاد الأمين العام، ليس من موقع ثبات المقاومة بل من موقع المنفّذ والمبادر. خيبة أتت بعد انتظار هذا المجتمع 11 شهراً للحظة التي أعلن فيها نتنياهو أن عودة المستوطنين باتت أولوية قومية، بالتالي وقع الجمهور في فجوة التوقّعات مرة أخرى، وتقهقرت النشوة إلى مربّع الخيبة الأول، فحسب شاكيد شاورن: "حسناً إما أننا مخدّرون أو أنهم عباقرة، ومن يظن أنه من الممكن نقل حزب الله إلى ما وراء الليطاني، والقضاء نهائياً على القرى والإرهابيين على الحدود، فطوبى للمؤمن بقرار 1701".
في مستوى أعلى جرَّت مشاهد خارطة المستوطنات التي وقّع أمر الإخلاء عليها، إلى أبعد من كونه إيلاماً مباشراً، إلى ما هو أقرب إلى العقاب بالأدوات نفسها لكن بطبيعة الحال باختلاف التأثير بين جمهور المقاومة ومجتمع الشمال، حتى أنّ ردّة الفعل على عدم تضمين "حيفا" في أوامر الإخلاء، عدّها المستوطنون استنساخاً لسياسة "قصف المناطق التي لم ننذر (أي الجيش الإسرائيلي) بإخلائها"، وكذلك بالنسبة لحضور التشكيك شخصياً وبشكل غير مسبوق إلى محضر خطابات المستوطنين، والحديث علناً عن وجود عملاء مزروعين داخلهم وإلا أنى لحزب الله "أن يصل إلى منزل ببيبي؟ ثم أليس بمقدوره أن يصل إلى منازلنا أيضاً"، تسأل نتالي آساف.
بكلّ الأحوال، على الرغم من أنّ وجه قيادة الجبهة الداخلية ظهر جزئياً في وجوه رؤساء البلديات والمجالس، لكنّ التعتيم الإعلامي والتجاهل الرسمي كان صارماً، مع ذلك تفلّت تصريح لرئيس المجلس الإقليمي "ميتا آشر" ورئيس منتدى خط الصراع، موشيه دافيدوفيتش على إذاعة الشمال قال فيه: "لقد قمنا بالأخذ بالاعتبار ما حدث هنا بالأمس (رفض المستوطنين اتباع تعليمات تخفيف قيود الجبهة الداخلية)، والحقيقة أن حزب الله صدق وأطلق في الساعة الثامنة صباحاً مسيّراته إلينا".
تلتقي هذه الحقيقة مع حقيقة أكبر بنجاح المقاومة في تثبيت عنصر المصداقية من خلال تنفيذ الاستهدافات للمستوطنات المذكورة، كبيان واضح لا لبس فيه أمام المجتمع الشمالي، ومجدداً انجرّ المستوطنون إلى مربّع أخطر: نقل مرجعية الخبر الصادق من الحكومة التي تتضارب تصريحاتها مع ما يعيشونه إلى جهة المقاومة، حيث لم يبقَ اعتراف المستوطنين ضمنياً بل انتقل إلى اعتراف علني بمصداقية التحذيرات و"بدلاً من انتظار الرهائن، بتنا ننتظر الصواريخ".
كان لاستبدال فكرة واجتياح فكرة أخرى أثر في انخفاض شهية المجتمع الشمالي لصور الدمار والدم في لبنان كما كان الأمر في بداية الحرب الشاملة على لبنان، بما أن الحبل قد وصل إلى رقابهم، فظهرت التشوّهات في البُنيَة الجينية لهذه المجتمع، يكاد يتضح المشهد في وصف ميراف بن موها التموضع الحالي لـ"ساكني الشمال": "أنا أم لـ3 أطفال صغار، لمدة سنة، أنا لا أخرج من المنزل، أنا لا أنام في الليل، إن الإصابة ليست بفعل الشظايا، بل في الروح، ويبدو أننا جميعاً قد أصبنا".