كيف أُفشلت إستراتيجية "الإلهاء الإعلامي" على الجبهة الجنوبية؟
أسهمت شرائط المقاومة الفلسطينية البطولية في غزة ضد الاحتلال الإسرائيلي بتوحيد الجبهات، وبالتالي تحطيم ما كان يعمل عليه في عملية الإلهاء وكيّ الوعي.
بعد يوم واحد من انطلاق عملية "طوفان الأقصى"، أي في الثامن من شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، انخرطت المقاومة في الجبهة الجنوبية دعماً لغزة ونصرة لأهلها.
عُمل مذ ذاك اليوم إعلامياً، وحتى في العالم الافتراضي، على التقليل من شأن هذه الجبهة والتبخيس من عمليات المقاومة على طول الشريط الحدودي مع فلسطين المحتلة. يُضاف إلى ذلك جهد واضح في إعادة تكريس فكرة أن جنوب لبنان جزء منفصل عن باقي الأراضي اللبنانية، وأن ما يحصل هناك لا علاقة له بباقي اللبنانيين، كما تكرر سابقاً في حرب تموز 2006، عندما فُصلت بيروت عن الضاحية، والجنوب عن باقي الوطن.
هكذا صعد خطاب صدئ استسلامي يدعو هؤلاء إلى فصل ما يحصل في غزة من عدوان إسرائيلي عن لبنان، وتحييد الأخير عن هذه الصراعات. استكمل هذا المسار المقصود لحرف الأنظار عن غزة ولتكريس ما يمكن تسميته بسياسة الإلهاء عبر إغراق المتابع اللبناني ببحر من المضامين المنفصلة عن العدوان الإسرائيلي؛ مرة عبر استكمال بث الحفلات الغنائية من العاصمة السعودية، والتي شارك فيها مغنيون/ات لبنانيون/ات، ومرة أخرى عبر تخصيص الإعلام المحلي مساحات وافرة للتنجيم والتنبّؤ بما قد يحصل في الساحتين اللبنانية والفلسطينية في سبيل قطف لحظة القلق والترقب التي يشعر بها الجمهور اللبناني، إلى جانب عرض الأبراج وحظوظها. كل هذه العملية كانت متعمّدة من قبل بعض الإعلام اللبناني وفي منصات التواصل الاجتماعي لسلخ المتابع عما يجري من مجازر وأهوال في غزة.
إستراتيجية الإلهاء استُكملت في منصات التواصل الاجتماعي التي كان لها الثقل الأساس في التركيز على استدراج جمهور المقاومة -الذي انقاد بجزء لا بأس به إلى هذه الأفخاخ- عبر الردود على منشورات قد تعدّ استفزازية وتصوّب على المقاومة، في سبيل حرف أنظاره عن التغريد لغزّة ونصرة أطفالها.
لعبت ماكينة إعلامية افتراضية قادتها شخصيات تحظى بعدد كبير من المتابعين بالانغماس في هذه اللعبة، وبلغت ذروتها قبيل أيام من ظهور الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، الذي انتظره العالم بعد صمت دام أكثر من 3 أسابيع في الثالث من الشهر الجاري؛ فبينما كان جمهور المقاومة يظهر حماسته على هذه المنصات عبر ترقب هذا الخطاب ونشر مقاطع دعائية له تحمل تأثيرات بصرية وسمعية، كان الخصوم ينتظرونه أيضاً ويتنبّؤون بما سيدلي به، وسط سؤال طرح باطراد: "هل تعلن الحرب الشاملة؟".
أطلقت تزامناً عريضة إلكترونية من الوجوه المعادية نفسها للمقاومة تدعو فيها إلى عدم جرّ لبنان إلى الحرب. ألحقت فيما بعد بوضع لافتات وجداريات ضخمة (مكلفة مادياً) في مناطق محددة في العاصمة اللبنانية، تحمل وسمَ: "لا_للحرب_في_لبنان".
وبعد انتهاء الخطاب الذي أعلن فيه السيد نصر الله مساندة جبهة الجنوب لغزة، وجاهزية المقاومة لأي عدوان إسرائيلي محتمل، انبرت هذه الماكينة من جديد لتقلل من شأن هذا الخطاب ومن شأن أمين عام حزب الله، عبر بث أجواء من الإحباط والتشكيك في قدرة المقاومة بالدخول في هذه المعركة، في تعمد لقراءة الخطاب بشكل سطحي.
أجواء أخذت مجدها في هذه المنصات، وفي الشاشات المحلية والعربية أيضاً، ولا سيما تلك المطبّعة، التي حاولت من جديد توهين القدرات العسكرية لحزب الله، وتصويره بأنه "يخذل" غزة، وتنزع عنه عقيدته القتالية: "القضية الفلسطينية".
لذا، لم يكن مستغرباً ما أدلى به السيد نصر الله في خطابه الثاني في ذكرى "يوم الشهيد" في 11 من الشهر الجاري، وتوجه به إلى من يتابعه بأن ينظر حصراً إلى الميدان العسكري، مع كشفه سلاحاً جديداً يستخدم للمرة الأولى على الجبهة الجنوبية: صاروخ بركان.
ومع تصاعد عمليات المقاومة في الجنوب اللبناني على طول الحدود ودكّها المواقع العسكرية وتحقيقها إصابات مباشرة في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي، وتوثيقها هذه العمليات عبر كاميرا الإعلام الحربي، إلّا أن هذه الماكينة الإعلامية المعادية لم تهدأ، وراحت تسخر من هذه العمليات البطولية وتختصر ما يحصل على الحدود الجنوبية بـ"معركة العواميد"، في محاولة لتبخيس إضافي للعمل المقاوم (على أهمية أعمدة التجسس التي عطلتها المقاومة). ولم توفر السخرية طلب السيد نصر الله من المشاهدين بالدعاء لغزة ولمجاهديها.
ويضاف إلى حفلات السخرية، ما قدمه الإعلام المتلفز من مصطلحات، لعل أبرزها تسمية أُطلقت على ما يحدث على الجبهة الجنوبية: "المناوشات" التي تحمل بدورها دلالات لإنقاص قيمة هذه الجبهة.
باختصار، الحرب الدائرة في غزة وعلى الجبهة الجنوبية، ومن ورائها حرب إعلامية وافتراضية، وضعت ثقلها في هذه المعركة لحرف الأنظار عن هذه الجبهات.
ماكينة انتشرت كالأخطبوط على الشاشات والإذاعات، وفي منصات التواصل الاجتماعي، محاولةً إحباط جمهور المقاومة وإيهامه بضعفها، وعملت بالتوازي على أخذ الجمهور الآخر الذي يمكن وصفه بالرمادي، والذي يقف في منتصف الطريق، إلى حيّز آخر؛ إلى مساحة تدعوه فيها إلى تحييد لبنان عن قضية فلسطين، وإلهائه بحفلات غنائية من هنا، وبضروب من التنجيم من هناك.
ومع كل هذه الإستراتيجية المعادية، استطاعت المقاومة في ميادينها توجيه ضربات قاسية إلى الاحتلال على الجبهة الجنوبية، وتوجيه الأنظار حصراً إلى الميدان.
كذلك أسهمت شرائط المقاومة الفلسطينية البطولية في غزة ضد الاحتلال الإسرائيلي بتوحيد الجبهات، وبالتالي تحطيم ما كان يعمل عليه في عملية الإلهاء وكيّ الوعي.