غزة أسطورة الزمن الحاضر لا الغابر
غزة أسطورة بالمعنى المعنوي للأمر، أسطورة لا تعود لزمن غابر، بل لزمن نعيشه ويعيشه العالم اليوم، وستبقى عبر العصور المقبلة ملحمة سطّرت للأجيال وتجربة تدرّس في المدارس العسكرية والسياسية، تكشف صلابة المقاوم الفلسطيني المؤمن بقضيته.
يخرج الغزيّ من تحت أنقاض منزله ينزف من كلّ جسده وقد ترك جزءاً من عائلته تحت الأنقاض أو خرج البعض الآخر أشلاء. يخرج محمولاً على الأكتاف أو على عربة ويهتف للمقاومة ويؤكد أنه لن يغادر مدينته.
بينما يخرج المستوطن الصهيوني من ملجئه أو من خيمته التي هجّر إليها سالماً معافى موجّهاً خطابه لقيادته أنه لن يعود إلى مستوطنته. أو يقول لهم اذهبوا أنتم واسكنوا هناك، ويقصد بهناك شمال فلسطين المحتلة ومستوطنات ما يسمّى بغلاف غزة.
فحرب الاستنزاف التي يشنّها حزب الله من جهة وفصائل المقاومة الفلسطينية من جهة أخرى خلقت حالة غير مسبوقة من المواجهة لكيان الاحتلال.
هذا الوضع جعل كل مستوطنيهم بمختلف مشاربهم العقائدية والسياسية وشتى منابتهم الجغرافية يعيشون حالة من الذهول والخوف وعدم الشعور بالاستقرار. فهم وقادتهم صدموا في السابع من أكتوبر وما تلاه بحجم التخطيط والتفكير في مواجهة لا تكسرها طائرات البنتاغون وتقنياته المتطورة. فقد قالوا وباعتراف عسكريين متقاعدين إنهم كانوا يتوقّعون "عصابة مسلحة تسليحاً بدائياً ببنادق بسيطة" فوقعوا في شرّ حساباتهم.
أمام صدمة هذا الإعداد الذي عجزوا عن تخيّله، وفي وقت انشغلوا فيه بحساباتهم الحزبية والشخصية، وقعت خسارتهم في حرب العقول ومعركة الإعداد لحرب طويلة الأمد. فمستوطنوهم استقدموا إلى فلسطين من مشارق الأرض ومغاربها تحت ضغط المغريات، وتربّوا على عنجهية مبنية على بديهية أنهم المتفوّقون والمتقدّمون فوجدوا أنفسهم فجأة أمام وضع لم يسبق لهم تخيّله. فما الذي يجبرهم على البقاء في الخيام والملاجئ؟ فهم يملكون جنسيات أصلية وبيوتاً وعائلات هناك.
إذاً مئات الآلاف منهم غادروا والآلاف تتدفّق في شوارع "تل أبيب" مطالبة بعقد صفقة تبادل وبإزاحة نتنياهو، والأخير جنّ جنونه ودفع بكل قوة جيشه كأحد أعتى جيوش العالم مدعوماً من الولايات المتحدة التي صادق كونغرسها بالأمس القريب على تمويل "دولة" الكيان بـ 3.3 مليارات دولار مكافأة له على حرب الإبادة المجنونة التي يشنّها ضدّ أهل قطاع غزة من دون أن يستثني جيلاً ولا شريحة ولا بيتاً ولا خيمة.
أرقام مذهلة لعدد الشهداء والمفقودين تحت الردم، الأشلاء والبيوت المهدّمة والمستشفيات والمدارس والمؤسسات الدولية المدمّرة تفوق التصوّر. وضع مذلّ للمجتمع الدولي والأمم المتحدة لم تعد تملك قراراتها حين يتعلق الأمر بإدانة "دولة" الكيان أو أي من حلفاء أميركا، فهي تصمت ولا تجرؤ على قول كلمة بحق الإبادة، وإن تكلّمت فإنها تطالب وتستجدي. ورغم كل ذلك فإن ماكينة الحرب المجنونة لم تحقّق شيئاً من أهدافها المعلنة، فقد وجدوا أنفسهم أمام أسطورة تقف على ساقين:
أولاً- الإعداد الرائع للمعركة من حيث التسليح المتطوّر في بقعة جغرافية محاصرة تعد من أكثر بقع العالم اكتظاظاً بالسكان.
ثانياً- الإعداد الجيّد للنفوس حتى غدت تقوى على ضعفها وموتها وخسائرها لتعلن تمسّكها بأرضها ورفضها التهجير لا برضاها ولا بالحديد والنار.
هذا ليس تنميطاً لأحد ولا "أسطرة" لغزة، ولا أكاذيب يمارسها إعلام موجّه ولا دعاة تحريض. لكنه الواقع من أوجد هذا النمط فأهل غزة لم "يؤسطرهم" مفكّرون ولا فلاسفة أو شعراء على غرار هوميروس. بل هم الغزيّون أنفسهم من أثبتوا أنهم أسطورة ومثار دهشة للعالم أجمع.
فالأساطير القديمة بنيت لتوصل رسائل حول أمور تحدث عبر نسج حكايات ـــــ عن ماضٍ ـــــ لم تحدث، أما غزة فقد صنعت بما يحدث فيها ومن صمود أهلها ما جعلها تتفوّق على الأساطير في القدرة على التحمّل والمواجهة، من شبانها وشيبها حتى الأجنّة في أرحام أمهاتهم.
منذ ما يقارب عقدين من الزمن هم جزء محاصر ـــــ الحصار الأشد ـــــ من وطن محاصر، تتشكّل حصاراته وتتغيّر منذ أكثر من ثلاثة أرباع القرن من الاستعمار الصهيوني المتواصل. وهذا بحد ذاته ما جعل رحى الحرب بين طرفين نقيضين لا يتساويان في أيّ شيء، طرف يعتبر نفسه "دولة" عميقة متقدّمة رغم إدراكه استحالة تجذّر هذه "الدولة" المصطنعة في الأرض، وهذه حقيقة أدركها علماؤهم وقادتهم وباحثوهم ومؤرخوهم، ولم يكن شلومو ساند المؤرخ والبروفيسور في جامعة "تل أبيب" أولهم ولن يكون آخرهم، ولن تكون كتبه الثلاثة المكذِّب الوحيد للميثولوجيا اليهودية عن الحق التاريخي والوعد الإلهي والتوراتي لليهود في فلسطين.
ناهيكم عن مؤرّخين وباحثين لا يعدون ولا يحصون من غير اليهود من آمنوا بذلك. لذا فإن "شعب" هذه الدولة يستشعر الهزيمة ويعلنها ويعيشها، ويكفر بقادته ويحاول الهرب منها وسيفعل إن آجلاً أو عاجلاً.
أما الطرف الآخر (الفلسطيني) فهو طرف متجذّر عبر القرون في أرض لا دولة فيها ولا مغريات، لا رغد عيش ولا حقّ في الحياة، بل احتلال مجرم شرس وعالم منافق يدّعي الإنسانية والديمقراطية على الشاشات، وعلى الأرض يمارس القتل والتجويع والسحق والاغتصاب وهدم البيوت على رؤوس ساكنيها.
فغزة أسطورة بالمعنى المعنوي للأمر، أسطورة لا تعود لزمن غابر، بل لزمن نعيشه ويعيشه العالم اليوم، وستبقى عبر العصور المقبلة ملحمة سطّرت للأجيال وتجربة تدرّس في المدارس العسكرية والسياسية، تكشف صلابة المقاوم الفلسطيني المؤمن بقضيته إيماناً يفوق الوصف، والمستعدّ للتضحية بكلّ غال ونفيس من أجل قضيته ووطنه، وتبقى الحرب الصهيونية على غزة عنواناً كبيراً في تاريخ الإبادات الجماعية والنازية المعاصرة وصمة عار وخزي في جبين المنفصمين والمتآمرين في كلّ العالم عرباً وغربيّين، مسلمين ومسيحيين، وكشفت أكثر من أي وقت مضى الأكاذيب الصهيونية والأميركية، فمن قام على كذب لا يمكن أن يكون صادقاً حتى مع أقرب الناس إليه، ومن كان لصاً لا يمكن أن يؤتمن جانبه.
فـإنّ "دولة" الكيان التي قامت على جماجم الفلسطينيين، والدولة الأميركية التي قامت على جماجم الهنود الحمر والزنوج، والممالك العربية والإسلامية التي قامت على نهب خيرات بلادها وتجويع شعوبها وقمعهم، والدول الغربية التي تغذت على الاستعمار في آسيا وأفريقيا وأوروبا ونهب خيرات الشعوب وتقسيم البلاد، لا ولن تستطيع أن تقف موقفاً غير الذي تمليه عليها مصالحها اللصوصية.