عن الجيل الذي اعتقدنا أنه "طري"!
من الواضح بما لا يقبل الشك أننا في فلسطين في العقدين الأخيرين تحديداً أمام جيل من الأبناء الذين اعتقدنا بغرورنا أنهم جيل "مائع"، فإذا بهم يعيدون تربيتنا.
حين يتكدّس الأسرى فوق بعضهم البعض، وحين يصبح عدد الشهداء في العائلة أكبر من عدد من نجوا من المجازر، وحين تعدّ الضحايا بعدد المجازر لا بعدد الأشخاص، وحين تجد ثمانين في المئة من بيوت مدينة ما قد تدمّرت، وحين ترى جنون المحتلّ في هذا الزمن تفوّق على جنون النازية والفاشية في زمن الحرب العالمية، فاعلم أنّ الحديث يكون عن فلسطين عموماً وغزة خصوصاً. هنا حيث تجد مقاومة تخرج من حيث لا يدري أحد لتربك العدو ومخطّطاته وتربك داعميه وتفكّك حكومته وترفع معنويات الكلّ الفلسطيني بل كلّ الأرض العربية، واعلم أيضاً أنك في الزمن الفلسطيني الجديد الزمن الذي يربّي فيه الأبناء والبنات أمهاتهم وآباءهم.
فقد شاع على مرّ العصور والأزمان أن الآباء والأمهات هم الذين يناط لهم أمر تربية أبنائهم وبناتهم، وتشريبهم المعرفة والطباع والعادات، إما عبر الجينات أو عبر طرائق التربية التي يؤمنون بها ويمارسونها.
وربما من المنطلق ذاته اقتنع غلاة الصهاينة ومؤسسو كيانهم وحاولوا أن يقنعوا مستوطنيهم والعالم كلّه بسرديات مبنية على الأكاذيب وعلى قاعدة "الكبار يموتون والصغار ينسون". لكن وبشكل تصاعدي أصبحت الأمور تسير باتجاه أنه كلما مات جيل كبرت الأسئلة لدى الجيل الذي يليه، وكبر معه البحث الحثيث والجاد عن الأجوبة.
وليس من باب الصدفة قال المثقّف المشتبك الشهيد باسل الأعرج: وجدت أجوبتي. نعم فباسل وجد أجوبة الأسئلة التي بحث عنها عند أسلافه، وأكد هذه القناعة بمقالات ومقولات أصبح كثيرون من أبناء جيله وممن رأوا فيه نموذجاً للبطولة يحفظون مقولاته عن ظهر قلب وعلى صفحات دفاترهم وهواتفهم وجدران حاراتهم. كيف لا وهو الذي جاءهم عبر الكلمات معزّزة بالميدان والبندقية حين استشهد في اشتباك بعد فترة من الاختفاء أو التخفّي. من هذه المقولات:
"حينما أموت فتّشوا جسدي قبل أن ترفعوني على الأكتاف، فإن كانت الرّصاصات قد جاءتني من الخلف، اتركوني أرضاً واذهبوا. وإن كانت الرّصاصات قد نخرت جسمي من الأمام فارفعوني عالياً".
باسل نموذج من نماذج الزمن الفلسطيني الصحيح، هذا الزمن الذي أصبح فيه الأبناء يصحّحون أخطاء الآباء ويحاسبونهم، أو يسدّدون الديون التي عجز أو استنكف أسلافهم عن تسديدها، مؤكّدين أنهم لم ينسوا ولم يعرف النسيان طريقه نحو ذاكرتهم، بل على العكس، الزمن والتجربة وتسارع الأحداث كانت كلّها عوامل اجتمعت لتشحذ الذاكرة وتستنهض الهمم. فأصبح جيل الشباب متمرّداً ليس على الاحتلال فحسب بل على آبائهم وأمهاتهم الذين بدوافع الحب أو اليأس والشعور بالعجز يحاولون كبح جماح أبنائهم وبناتهم.
ويصل صراع الأجيال إلى مدى تنقلب فيه الأدوار بين الآباء والأمهات من جهة والأبناء والبنات من جهة أخرى. ففي حين يروي الأب أو الأم تجربته النضالية على مسمع أبنائه، والسجن والمطاردة وغير ذلك من الأمور التي أوصلته إلى حافة اليأس أو منتهى الحكمة كما يراها من منظوره، ويريد لأبنائه أن يستفيدوا من تجربته ويختصروا المعاناة ويشقّوا طريقهم إلى الحياة والمستقبل يفاجئهم الابن أو الابنة أنهم يرغبون أن يخوضوا تجربتهم ويمارسوا دورهم بطريقتهم.
نعم، تحدّوا الدعاية الصهيونية التي تقول إنهم ينسون، فلم ينسوا وتفوّقوا على سابقيهم. وكون كاتبة هذا المقال تنتمي إلى جيل الأسلاف أي جيل الآباء والأمهات بل والأجداد بالنسبة للشباب فقد عايشت تجربة وحواراً مع الابن الأسير الذي كان يطرح عليها الأسئلة الصعبة. نعم، الأبناء الشباب والمراهقون بل والأطفال منهم يطرحون أسئلة تحرج الآباء والأمهات الذين لم يجرؤوا على الإجابة عنها لأنفسهم، وإن أجابوا فبشيء من التنظير واستدعاء الماضي الذي كانوا فيه مناضلين وأبطالاً قبل أن يداهمهم أوسلو ويحبطهم.
هذا الماضي الذي استعرضوه كثيراً أمام أطفالهم، والآن كبر الأطفال وشبّوا، ربما على "دين" آبائهم لكنهم يرفضون النكوص أو التراجع. هم بذلك يدينوننا من دون أن يصرّحوا بالإدانة، نناقشهم فيما يذهبون إليه مسلّحين أنفسنا بخوف الأم أو الأب على الابن والابنة. نظرة ساخرة نحونا مغلّفة بـ "الله يعطيكم العافية"، ويطرحون السؤال القنبلة: وتفرحون حين يهاجم بطل من الأبطال هدفاً، قد يستشهد فيه أو يصاب أو يسجن، وقد يهدمون بيته، تشيدون ببطولته، أو تظنون أنه بلا أهل يخافون عليه؟
يحرجنا، ويخجلنا من أنفسنا حين يوبّخنا قائلاً: لا تفرضوا ضعفكم علينا. إذا انتهى دوركم اتركونا لدورنا. فجأة يكتشف الآباء أنهم لا يعرفون أبناءهم، فالأبناء على صواب وهم الكبار ربما على خطأ. من يربّي من؟
من الواضح بما لا يقبل الشك أننا في فلسطين في العقدين الأخيرين تحديداً أمام جيل من الأبناء الذين اعتقدنا بغرورنا أنهم جيل "مائع"، فإذا بهم يعيدون تربيتنا.
يعيدون صياغة مفاهيمنا النظرية للأشياء، يصوّبون أخطاءنا حتى لا تتكرّر. هذا الجيل يتخطّى ضعف الآباء ولا يتراجع أمام الهدف الذي وضعه مهما كلفه الثمن. نعم، أبناؤنا أعادوا تربيتنا ووضعونا أمام حقيقة كشفوا هم عنها وهي هشاشة العدو الذي أجبروا أربعة من كبار عسكريّيه وسياسيّيه على الاستقالة في ساعات معدودة.