دليلك للإجابة عن سؤال هل تُدين حماس؟
اِقرأ التاريخ جيداً؛ فنحن الآن نشاهد حلقة جديدة من حلقات التحرّر الوطني التي ستُكلّل مقاومتها يوماً ما بالبطولة وتُضرب بها الأمثال على شجاعتها وصمودها في وجه الإمبريالية.
"لمّا لم يستطع الناس أن يجعلوا من الحقّ قوة، جعلوا من القوة حقاً". باسكال.
في ظلّ استمرار العدوان الإسرائيلي الإرهابي على قطاع غزة، وممارسة الإبادة الجماعية في حقّ أهلها، وحرمانهم من الطعام والشراب. لا يزال البعض، خاصة في الإعلام الغربي، يُكرّرون سؤالاً عبثياً، لا يضرّ ولا ينفع: هل تُدين حماس؟ ما رأيك بما حدث في السابع من تشرين الأول/أكتوبر عام 2023؟
لا أعرف لماذا يُصرّون على اجتزاء القصة، وكأنّ العالم استيقظ على حادث السابع من أكتوبر، فلا يدري ما قبله ولا يعنيه ما بعده!
ولأنّ التاريخ يكتبه المنتصرون، أو الشهود، أو الناجون، أيّاً مَن كان يكتبه، فإن هناك تطورات تترى عليه، وتتابع عبر سطوره؛ فليس التاريخ بالحالة الاستاتيكية، وإنما هو ديناميكي المسار.
ولأنّ الصراعات الطبقيّة، بحسب وصف ماركس، أو التدافع، بلغة محمد عمارة، أو صدام الحضارات، وفقاً لهنتجتون، هي ما تدفع عجلة التاريخ إلى الأمام، نتيجة الالتحام الحاصل بين ذرات العالم؛ فلا بدّ أن ندع جواب الإدانة إلى التاريخ، فهو الأوْلى بالإجابة عنه، بحسب الظروف والأولويات التي يفرضها كلّ عصر.
قبل بزوغ حماس عام 1987، كان ذلك السؤال رائجاً بشكل كبير لكل ما هو على "النقيض" من سياسات دول الاستعمار.
الأفريقي "الإرهابي"
في جنوب أفريقيا، وقبل عام 1994، كان نظام الفصل العُنصري بادياً في البلاد، ينهش السكان الأصليين، فكان البيض، الأقلية، هم النخبة.
فمنذ "الاستخراب" الهولندي–بلغة عليّ شريعتي-عام 1652 إلى "الاستخراب" البريطاني 1815، كانت جنوب أفريقيا تتعرّض لكلّ صور التمييز والفصل العُنصري (الابارتهايد).
وُلد مانديلا عام 1918، وفي بداية عمله السياسي، اعتنق مبدأ "السلمية الغاندية"، حتى كان عام 1960، وفي حادثة مروّعة، فتحت السلطة النار على المُتظاهرين السود، مما أردى سبعين قتيلاً، تلك الحادثة شكّلت مُنعطفاً في حياة نيلسون مانديلا، الذي انفصل عن حزب المؤتمر الأفريقي، وبدأ يدعو للنضال المُسلح، مُتأثراً بتشي جيفارا وماوتسي تونغ، حتى أنه سافر إلى الجزائر، في 1960، ليحصل على تدريب مُكثّف على يد الفدائيين الجزائريين.
وفور عودته، شكّل مُنظمة "رمح الأمة"، وهي مُنظمة مُسلحة، تجمع بين منطق الفدائيين وحروب العصابات، لمُجابهة الاحتلال.
وبعد عدد من العمليات الانتحارية، والتفجيرات، والاغتيالات، صنّفت الولايات المُتحدة -وبريطانيا في ذيلها – تلك المُنظّمة وزعيمها "مانديلا"؛ كإرهابيّين شيوعيّين موالين للسوفيات، وحُكم على مانديلا ورفاقه بالمؤبّد، وفور خروجه من السجن عام 1988، حدث تحوّل في الإعلام الغربي، فمانديلا إرهابي الأمس، صار أسطورة ورمزاً للسلام، نتيجة الضغط الدولي والتعاطف العالمي مع بلاده، كما حصل على جائزة نوبل عام 1993!
أنفاق فيتنام
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، سعى الزعيم الشيوعي الفيتنامي "هو تشي منه" فور عودته من روسيا إلى إنشاء دولة شيوعية في فيتنام الشمالية، لأنّ فيتنام الجنوبية كانت تحت سيطرة الإمبراطور "باو داي" الموالي للاستعمار الفرنسي ودول الغرب، وفي خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كانت الحرب الباردة على أشدّها بين الكتلة الشرقية الشيوعية بقيادة السوفيات، والكتلة الغربية الرأسمالية بقيادة أميركا، فلما اندلعت الحرب الأهلية بين شمال فيتنام الشيوعي وجنوبها الملكي، ناصر السوفيات الشمال، وتدخّلت أميركا لنصرة الجنوب عسكرياً وإعلامياً.
فمنذ عام 1955 إلى عام 1973، كانت رحى الحرب الدائرة بين المقاومة الفيتنامية والأميركيين، أشبه ما تكون اليوم بما يحدث في غزة؛ قصف، أنفاق، حروب عصابات. ولأنّ أميركا تُجيد دور الضحية عبر تاريخها، وصفت المقاومة الفيتنامية بالإرهابيين الشيوعيين "المُلحدين" الذين يريدون تغيير إرادة الرب!
وللمفارقة أن من ضمن القوات الأميركية التي غزت فيتنام، العديد من الجنود الإسرائيليين، ومنهم الجنرال موشيه ديان. ففي مقال نشرته صحيفة هآرتس الإسرائيلية بتاريخ 14 شباط/فبراير2017، تحدّثت عن أسباب التحاق موشيه ديان بالجيش الأميركي في جنوب فيتنام لمقاتلة الشيوعيين، كما ذكر في مذكراته عن فيتنام سنة 1966، وكيف كانت تلك الفرصة في صالحه ليكون رئيس أركان "الجيش" الإسرائيلي إبان حرب 73: "كان ديان في حاجة ماسة إلى تجربة جديدة تساعده على تحقيق ذروة طموحاته. وبعد مرور عام، تلقّى عرضاً لا يمكنه رفضه: دعوة من صحيفة معاريف للسفر إلى فيتنام الجنوبية ليكون مراسلاً للقوات الأميركية في الميدان".
ولعل تلك الرحلة التي شارك فيها ديان أضافت إليه الكثير في سجله المُلطّخ بالدماء.
وفي عام 1973، أعلن الجيش الأميركي فشله في حربه مع فيتنام، وخرج رئيس الولايات المُتحدة الأميركية نيكسون في خطابه الشهير الذي قال فيه: "وإن عرف هذا الجيل الحرب، سيعرف الجيل القادم السلام".
فبعد أن استخدمت أميركا السلاح النووي في فيتنام وقتلت آلاف الأبرياء، استسلمت عارضةً السلام على المقاومة الفيتنامية الشمالية، والتي بدورها أخذت تلابيب الحكم مُعلنة جمهورية فيتنام الشيوعية، في الشمال والجنوب.
سفّاحو كوبا
بعد سنوات الكفاح المُسلّح وحروب العصابات التي خاضها كاسترو وجيفارا ورفاقهما، استولى الثوّار على مقاليد الحكم في 1959، وفي 1960، حضرت مجموعة من المُفكّرين والفلاسفة احتفالاً كبيراً بمناسبة تحرّر كوبا، وعلى رأسهم سارتر، الذي قال عن جيفارا بُعيد اغتياله: "لم يكن جيفارا مفكّراً فحسب، بل هو الإنسان الأكثر كمالاً في وقتنا المعاصر كلّه". لفترة طويلة ظلت كوبا وثوّارها، محض تهكّم من قِبل الإعلام الأميركي، الذي نظر إليهم على أنهم "موالون للسوفيات.. ملحدون". فتلك البروباغندا كانت السلاح الأقوى في يد الأميركيين.
في مقال منشور في الصحيفة اليسارية "تريكونتنتنال – tricontinental" بتاريخ 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 تحت عنوان (من غزة وكوبا، يسألون: هل أنتم بشر مثلنا)، يقول الكاتب:
"كان محمود درويش يسأل الإسرائيليين – في شعره – عن الإنسانية، عمّا إذا كانوا قادرين على رؤية الفلسطينيين كبشر مثلهم. ينبغي لنا – نحن الكوبيين – أن نوجّه السؤال نفسه إلى المسؤولين الأميركيين: هل تعتبرون الكوبيّين بشراً؟".
فالعلاقة بين كوبا و"إسرائيل" مرّت بالكثير من مراحل التذبذب، فقد أيّدت كوبا النضال الفلسطيني، ودعمت الجيش المصري إبان حرب 73.
وبدورها صوّتت "إسرائيل" وأميركا على قرار الحصار الاقتصادي الضارب على كوبا، والذي لا يزال يُلوَّح به إلى اليوم بين الفينة والأُخرى.
فلما فشلت أميركا – كعادتها – في إجهاض الثورة الكوبية، ودعمها للمرتزقة في معركة خليج الخنازير 1961، لجأت إلى دعاياتها الإمبريالية ضد ثوّار كوبا، والتي استمرت حتى مطلع القرن الحالي.
نشرت وزارة العدل الأميركية في عام 1988م تقريراً جاء فيه:
"من علامات مسيرة فيدل كاسترو المهنية منذ عام 1959 أنه ينظر إلى دعم الإرهاب باعتباره حرب عصابات بطولية. قامت كوبا بتطوير عدد من الأجهزة السرية التي تقوم بتدريب ودعم الإرهابيين والعصابات في العديد من البلدان. هناك شعور بأن أنشطة كاسترو الإرهابية قد خدمت بشكل متزايد أغراض الاتحاد السوفياتي. يتمّ فحص عقيدة حرب العصابات التي طوّرها كاسترو وتشي جيفارا، وتتمّ مراجعة التطورات التاريخية في استخدام نظام كاسترو للإرهاب. وتتمّ مناقشة الأدوات والأساليب التي تستخدمها الحكومة الكوبية لدعم الإرهاب في الخارج، كما تتمّ مراجعة الإرهاب الذي ترعاه كوبا في منطقة البحر الكاريبي والشرق الأوسط وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى والولايات المتحدة".
وإلى الآن، حتى وبعد زيارة أوباما لكوبا عام 2016، لا يزال الإعلام الغربي، يُقدّم كوبا بآبائها المؤسسين؛ ككاسترو وجيفارا، على كونهم مرتزقة إرهابيين، برغم أن نضال جيفارا ورفاقه المُسلّح صار أسطورة ملهمة للعديد من الشعوب الجاثمة تحت حافر الاحتلال.
ختاماً
من اللافت، أن جميع حركات التحرّر الوطني، التي ذكرناها ولم نذكرها، كان دوماً العدو الرئيس لها؛ أميركا، التي سخّرت كلّ سُبلها الدعائية لإدانة حركات المقاومة المُختلفة، سواء أكانت يمينية أو يسارية، وفور انجلاء الاحتلال، تتبدّل الأوضاع، ويُصبح الإرهابي بين ليلة وضحاها بطلاً مقاوماً في الإعلام الغربي، فنحن في عصر التلفيق الإعلامي، الذي تُمارسه دول الغرب بأريحية، من دون مُراعاة لحقوق الشعوب الأخرى، ففي ظلّ انتشار "مُعاداة الفلسطينية – Anti-Palestinianism"، لا يزال بصيص النصر يلوح آخر النفق.
"إسرائيل" هُزمت إعلامياً، كما بدأت تتلاشى عُقدة الذنب عند الغرب، وأخذت دعاوى الحقّ المزعوم لدى الصهاينة في التهاوي، ذلك الحقّ المؤسَس على عدد من الأساطير، كضحايا الهولكوست، ومعاداة السامية، ذلك الحقّ الذي أعطى لـ "إسرائيل" "الاستثنائية" في كل ما تفعله، من إبادة واحتلال وقصف المدنيين بأحدث الأسلحة.
فإذا سألك أحدهم: هل تُدين حماس؟
قُل له: اِقرأ التاريخ جيداً؛ فنحن الآن نشاهد حلقة جديدة من حلقات التحرّر الوطني التي ستُكلّل مقاومتها يوماً ما بالبطولة وتُضرب بها الأمثال على شجاعتها وصمودها في وجه الإمبريالية.