الدم الفلسطيني كعقد اجتماعي: "إسرائيل" توحّدها الإبادة وتُسقطها الأخلاق
في لحظات الحرب، تسقط الخلافات بين اليمين و"اليسار"، وتُمحى الحدود بين "الجيش والشعب"، ويعلو صوت الإجماع القومي على نفي الآخر الفلسطيني، لا كشريك أو خصم، بل ككائن يجب حذفه من المكان والتاريخ.
-
الكيان الإسرائيلي وسياسة الفتك الجماعي بالمدنيين في غزة (أرشيف)
بينما تمعن آلة الحرب الإسرائيلية في قصف قطاع غزة المحاصر، وتواصل سياسة الفتك الجماعي بالسكان المدنيين تحت غطاء من الصمت الدولي، كانت "الجبهة الداخلية" في إسرائيل تبدو متماسكة ومطمئنة، كما لو أن كل شيء يسير على ما يرام، إلى أن دوّى تصريح "صادم" أطلقه يائير غولان، رئيس حزب "الديمقراطيين" (تحالف بين حزبي العمل وميرتس) ونائب رئيس أركان الجيش سابقاً، محدثاً ارتجاجاً في المشهد السياسي أشبه بـ "قنبلة" أخلاقية وسط ساحة تطبّع القتل وتُجَمِّل الإبادة.
"دولة عاقلة لا تقتل الأطفال كهواية". قال غولان في عبارة تجاوزت كونها نقداً عابراً، لتتحول إلى صفعة مباشرة لضمير مجتمع يقدّس جيشه بلا شروط، حتى عندما يغرق في أبشع فصول التوحش.
ورغم أن غولان سارع إلى توضيح أن انتقاده ليس موجّهاً إلى الجيش، كيف لا وهو "البقرة المقدسة"! بل إلى "الحكومة الفاسدة"، فإن تصريحاته فتحت النار عليه من كل جانب. الرجل الذي شغل مناصب رفيعة في المؤسسة الأمنية والعسكرية، لم يُوفَّر من تهمة الخيانة ومعاداة السامية، وتعرض لحملة تحريض وصلت حد الدعوات العلنية من سياسيين لإعدامه، والتهديد بتصفيته جسدياً، فيما بادر وزير الأمن الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، إلى فصله من الخدمة العسكرية الاحتياطية، عقاباً له على "كسر الإجماع" و"تعكير صفو الاسرائيليين".
اللافت أن ردّ الفعل الغاضب لم يقتصر على السياسيين أو الإعلام، بل وجد صدى أوسع لدى الرأي العام الإسرائيلي، إذ أظهرت استطلاعات نشرتها صحيفة معاريف (23 أيار/مايو 2025) تراجعاً كبيراً في شعبية حزب "الديمقراطيين" مباشرة بعد تصريح غولان، ما يعكس رفضاً مجتمعياً واسعاً لأي نغمة نشاز تنتقد "أخلاقيات الجيش" في ساحة الحرب.
هذا التفاعل يطرح أسئلة جوهرية حول طبيعة العلاقة بين الجيش والمجتمع الإسرائيليين، ومدى تعمّق التماهي الشعبي مع سياسة الفتك الجماعي، حتى إن طالت أطفالاً ورضّعاً؛ فحين يُكافأ من يُبرر القتل، ويُعاقب من يطرح مجرد سؤال أخلاقي حوله، فإن الإشكال لا يعود في مقاربات فردية، بل في بنية ثقافية وسياسية كاملة باتت ترى في القتل، لا ضرورة عسكرية فحسب، بل مكوّناً من مكونات الهوية القومية أيضاً.
هذا التناغم بين "جيش" قاتل ومجتمع مسوّغ لممارسات جيشه، مهما كان طابعها، يُذيب الحدود الفاصلة بين النزعة الإبادية تجاه الفلسطينيين، بوصفهم "عماليق"[1] هذا العصر، وممارسة هذا الفعل الإبادي على أرض الواقع، على أن الدلالة تكمن في أن الجيش الإسرائيلي بوصفه "جيش الشعب" تلقف الرسالة المجتمعية، وترجمها بعد أيام قليلة: تسعة أطفال من عائلة النجار قُتلوا دفعة واحدة في غارة إسرائيلية يوم الجمعة 23 أيار/مايو، في مشهد يعيد ترسيم حدود الوحشية ويفضح هشاشة الادعاءات الأخلاقية للمنظومة العسكرية الإسرائيلية.
في المقابل، لم تُثِر دعوات وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، التي دعا فيها صراحة إلى إبادة سكان رفح ودير البلح والنصيرات، أي استنكار داخلي يُذكر؛ ففي 29 نيسان/أبريل 2024 قال بوضوح: "يجب محو ذكر العماليق من تحت السماء. لا يوجد مكان لهم تحت الشمس". سموتريتش لم يُفصل، لم يُهاجم، بل بقي في موقعه السياسي محاطاً بالتأييد، وهو ليس وحيداً في هذا الميدان السياسي الذي يحلف بأدبيات ومفردات تجاوزت حد الجنون الأخلاقي في الدعوة إلى استغلال "اللحظة التاريخية" للانتقام من "عماليق العصر" ومحوهم من الوجود.
هذه المفارقة ليست استثناءً، بل تعبّر عن منطق سائد، إذ يبدو أن "الدم الفلسطيني" تحوّل إلى مادة لاصقة توحّد كل تمزقات السياسة الداخلية في "إسرائيل". في لحظات الحرب، تسقط الخلافات بين اليمين و"اليسار"، وتُمحى الحدود بين "الجيش والشعب"، ويعلو صوت الإجماع القومي على نفي الآخر الفلسطيني، لا كشريك أو خصم، بل ككائن يجب حذفه من المكان والتاريخ.
وربما تكشف الأرقام الموقف الشعبي بوضوح: وفق استطلاع نشرته صحيفة هآرتس (22 أيار/مايو 2025)، أيد 47% من الإسرائيليين "نموذج أريحا" (التاريخي)، أي قتل جميع سكان مدينة معادية حين يسيطر عليها الجيش، فيما دعم 82% التهجير القسري لسكان قطاع غزة.
هذه النسب لا تعكس تأييداً لسياسات الحكومة فحسب، بل تؤكد أيضاً تحوّل العنف إلى قاعدة في الوعي الجمعي الإسرائيلي، وتحويل أي اعتراض عليه – ولو جاء من جنرال قضى حياته في ممارسة العنف ضد "الأغيار" – إلى تهديد يستوجب الإقصاء؛ فإسرائيل، كما تكشف حادثة غولان، لا ترفض النقد فحسب، بل تُجرّمه أيضاً، وتضع أصحابه في موقع العدو.
في النهاية، لم تكن "عاصفة غولان" مجرد حادثة، بل لحظة كاشفة؛ ففي حربٍ يُقتل فيها الأطفال بالجملة، وتُمحى عائلات بأكملها بضغطة زر، لا يُناقَش القتل، بل يُحتفى به. وأن يُفصل جنرال سابق من "الجيش" لأنه تجرأ فقط على القول إن قتل الأطفال ليس بطولة، هو شهادة دامغة على انهيار أخلاقي شامل، ليس في الحكومة وحدها، بل في مجتمع بأسره بات يرى في أجساد الأطفال رمادًا مشروعًا لصياغة وحدة قومية مهددة. إن المشكلة لا تكمن في تصريح غولان، بل في دولة لا تضطرب حين يُباد تسعة أطفال من عائلة واحدة، بل تنتفض فقط إذا وُصف القتل بما هو: جريمة.
[1] العماليق هم شعب ذُكر في التراث اليهودي، ويُقصَد بهم البدو الرحّل في شبه جزيرة سيناء وجنوبي أرض كنعان/فلسطين.