"غوش دان" وغزة ولبنان.. تدافع العجز والصمود والإسناد

تطول المناورة في مفاوضات وقف إطلاق النار وبنود الاتفاق، انعكاساً لأزمة داخلية في صنع القرار، وغياب وحدته وتآلف صنّاعه، وسعياً لتحقيق عناوين عريضة.

  • الشمال.. تدقيق الإسناد نحو واقع جديد.
    الشمال.. تدقيق الإسناد نحو واقع جديد.

منذ انطلاق الطوفان، لم تأخذ "التسوية" حيّزاً من نقاش الرأي العام العربي مثل الآن. والمقصود تسوية كبيرة تشمل لبنان، وواقعية: تكافؤ الأوزان النسبية لقوة الأطراف المنخرطة، والحضور النوعي لـ"جيش" الاحتلال، الذي بات يشرف على شرق غزة وشمالها باحتلاله هامشاً ضيقاً خارجها، مطلّاً على الهامش الشرقي والشمالي داخلها. لكن، بعد استهداف اليمن لـ"تل أبيب" بمسيّرة لم يلتقطها الرادار، وإعلان نيته "التركيز" على بنك أهداف القطاع الأوسط لفلسطين، ما يضيف وزناً استراتيجياً لصالح غزة ولوقف الحرب، تظهر أسئلة مثل: كيف تمتنع التسوية المفترضة؟ وماذا يعكس استكمال الدمار الواسع والقتل العشوائي، مقابل ما يعكسه صمود مقاومة القطاع وتطور الإسناد من لبنان؟

تقع الإجابة بين دوائر متصلة ثلاث؛ في "تل أبيب ــ يافا" حيث "هيئة حاكمة" بشرعية دستورية تتماسك تحت ضغط خطر "قومي" فعّال، ولذا تحتوي تباين الرؤى والمصالح بين الفرقاء، ولديها أسباب لتأجيل التسوية ورفضها، بسياق كامل أعادها إلى الخيار التاريخي لتلك "الدولة" منذ نشأتها: الإبادة. وفي غزة حيث يصطدم الهجوم بما يجعله عالي الكلفة من دون مقابل استراتيجي مناسب، مثل تقويض حماس أو البقاء في القطاع، وعاجزاً عن شلّ المقاومة ــ بارتكازها على الأعمق من المباني المدمّرة: العامل البشري التنظيمي والأنفاق. وفي لبنان حيث أعاد الحزب تعريف الإسناد، ليصبح للتصعيد طيف واسع بدرجات متكثّرة، صُمم ليقف عند العتبة نفسها المعلنة من قبل الطوفان: دخول الجليل حال اندلاع حرب كبيرة. 

شراسة وجودية: الإبادة وصفة وحيدة 

أظهَر إجمالي التحركات والخطاب عند "إسرائيل" استعداداً جديداً في إطار المعادلات السابقة مع المحور لتحمّل الخسائر البشرية والاقتصادية، وتجاهلاً نسبياً لمسألة أسراها. ويشير إلى ذلك نمط القصف، الذي قتل نحو خمس إجمالي عددهم، رغم مجاراة الوساطات، وبصرف النظر عن الأسباب الظاهرية المعلنة لإخفاق مشاريع حلول الملفّ. وقد وضحت الأشهر السابقة أن للإصرار على الإبادة والقتال "منطقاً" خاصاً، يتجاوز مسألة خسائر الجبهة الداخلية ويتعمّد تعظيم خسائر الفلسطينيين هدفاً مطلقاً.

أهم أسباب الإخفاق غياب إرادة القيادة السياسية و"الجيش" لوقف الحرب، في ما يبدو مناورة متطاولة يتكاملان فيها، تهدف إلى استنزاف المقاومة، وتُوازي أزمة القيادة داخل الحكومة نفسها، التي يعكس تماسكها -حتى اللحظة -، واستمرار الحرب، جملة حقائق وعوامل تنفي فاعلية ورقة الأسرى بالأساس، وتفسر اتّساع هامش حركة نتنياهو وغياب الوزن (الكافي للتعويل عليه لفرض تهدئة) لاستعادتهم، رغم تكرار التصريح بالإصرار على صفقة تبادل. وهي:

- تلقّي الكيان، لأول مرة، ضربة في الداخل تفرض خطراً وجودياً، ما يفرض أولويات استراتيجية أعلى، ليس منها ملف الأسرى، ومؤدّاها تحمل كلفة عالية وبيئة استراتيجية خطيرة، مقابل تجديد الجدارة بتوكيل منظومة الهيمنة الغربية، وبدور الرابط الحيوي العضوي العميق بينها والمنطقة.

- اتّساع تيار اليمين المتطرف وقوته، وقاعدته الفكرية، الذي يمثّل منذ بداية الطوفان (أي التهديد الوجودي)، عامل صلابة لا تفكيك. في مجتمع بات يتفكك نسبياً، لكن يملك مقومات مادية وأيديولوجية تتيح الاستجابة للتحديات الوجودية، مع غموض فرصة الهجرة الآمنة، ونقل كامل المعيشة وقيمة الملكيات إلى الخارج، للكثير من سكانه.

- ضعف فاعلية أهالي الأسرى واحتجاجاتهم، رغم كثرة عددهم وسوء موقف نتنياهو السياسي. وهو ما فرضه العامل الأول ويعمّقه العامل الثاني.

رغم تماسك الحكومة، وأسبابه تلك، الكافية لتحمل كلفة الحرب، يصعب على مؤسسات "الأمن القومي" وضع الأهداف والسياسات لمواجهة التهديدات. عملية باتت حرجة وتعالج وضعاً حساساً، إذ تكثر التهديدات للحيز المدني السكاني لدرجة فارقة، اجتماعياً واقتصادياً، داخل فلسطين نفسها، حيث لا مسافة بين البيئة الخارجية والداخلية لـ"الدولة". فتتجاوز فاعلية المسيرات اللبنانية والصواريخ الدقيقة "نهاريا" وعكا والشمال (المهجّر سكانه)، إلى ميناء حيفا، وقطاع "غوش دان" (الذي بات في المهداف اليمني)، المحيط الحضري الواسع لـ"تل أبيب" ورابطها الجغرافي بالقدس والضفة. وتفرز الأخيرة مقاتلين وعبوات تفجيرية كبيرة، وفاعلية تنظيمات شعبية تستهدف المستوطنات وتسعى لاختراق مدن الساحل والوسط. بينما يواجه "إيلات" جنوباً، الميناء الرئيسي الثاني، تعطّلاً شبه كامل. 

مشهد يتطلب ضمانات كثيرة، حال التسوية، ويجعل الأخيرة قبولاً بوضع منكمش وفشلاً لترميم الردع. بينما يغري نتنياهو واليمين المتطرّف هذا التماسك، واقتراب ترامب من السلطة، بدفع أميركا إلى ردع وتصفية حساب مع المحور، ما لن ينهي أزمته مع الفرقاء وحسب، بل كذلك يبرّد التناقض الداخلي لمواجهة الخطر وتحقيق الترميم. وفي الخلفية ملمح "الدولة الفاشلة": مظاهر تفكك للبُنى الاجتماعية، وضعف سيطرة السلطة على الجغرافيا، وتهجير صاحَب انخفاض الإنتاج الزراعي شمالاً، واضطراب الأمن العام وحمل عناصر اليمين المتطرف السلاح، وتضاد أجنحة النظام وكوادره، وصولاً إلى انقسام مسؤولي مؤسسات "الأمن القومي" والسلطة التنفيذية. ملمح لا يعني تفكك جهاز الدولة، لكنه ينعكس في غياب خطة واضحة لتحقيق الأهداف العامة للحرب، التي سيرد ذكرها بشأن غزة، وعدم صرف تماسك الحكومة في حلّ عملي لمجمل الموقف الجيوسياسي.

حدود السيطرة في غزة

لكل ما سبق، تطول المناورة في مفاوضات وقف إطلاق النار وبنود الاتفاق، انعكاساً لأزمة داخلية في صنع القرار، وغياب وحدته وتآلف صنّاعه، وسعياً لتحقيق عناوين عريضة: ضمان استحالة الحياة المدنية لاحقاً من دون شروط يجلبها الضغط الميداني وعلى الوسطاء، مع إشراك مصر وأطراف عربية في تشديد الرقابة على القطاع، واستنزاف مقومات تنظيمات المقاومة وذخيرتها وتماسكها. 

يشير مخطط العملية البرية إلى أسلوب تقدم بطيء، يعوّض الإخفاق السابق والضياع التخطيطي أو غموض الرؤية في العمليات البرية، مثل جنين سابقاً، بتحديد هدف أولي: الوصول إلى البحر وعزل شمال القطاع عن وسطه وجنوبه، بمحور "نتساريم" (قاطع شمال النصيرات)، والحفاظ عليه ولو بتكلفة مرتفعة. وصولاً إلى وقف الهجمات الصاروخية من الشمال، وإنهاء الوجود الفلسطيني وسيطرة المقاومة فيه إجمالاً. ثم تقسيم القطاع صورياً إلى أربع مناطق عمليات مختلفة الوتيرة (الشمال وغزة - الوسطى - خان يونس - رفح). 

كان على ذلك تحقيق جملة أهداف، أهمّها استنزاف المقاومة، رهاناً على الوقت، وجمع معلومات عن شبكة الأنفاق ومحاولة اختراقها، وتجاوز حجم ورقة الأسرى عند المقاومة في التفاوض الإقليمي، بالدفع بورقة الضغط الميداني المتواصل عليها، وعلى الديموغرافيا الفلسطينية في القطاع، بصفتها الحل الأنجع، بتكثيف الإبادة والانتهاكات العلنية للمدنيين.

رغم نجاح التوغّل متعدد المحاور في محاصرة مدينة غزة، في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي، ممهداً لعزل محافظتيّ الشمالية وغزة -وصولاً إلى البحر -بقاطع شمال النصيرات. عاد "الجيش" وانسحب من كامل قطاعيّ الشمال ومدينة غزة، مساحة سيطرة مفترَضة كبيرة، وفكّ طوقاً واسعاً أخفق في حفظه بتكلفة معقولة، وإن بقي محتلاً القاطع، الواقع تحت قصف متواتر من المقاومة حتى الآن، ثم توغّل لاحقاً في خان يونس ورفح من الشرق. لكن جلبت السيطرة على الأرض في هذه الساحات نتائج تجعل المهمة أصعب، وتجعل الوقت عاملاً معاكساً.

- ارتباط التقدم إلى غرب محور صلاح الدين (خط المحور الرأسي لمنتصف القطاع) بتصاعد الخسائر، والتعرّض لاستهداف مستمر بمضادات الدروع، وعمليات نوعية تسبب خسائر بشرية ومادية تجعل التوغل مكلفاً. أي محدودية هامش الحركة "الآمن" وبقاء معضلة الأمكنة الملغّمة والقنص.

- صعوبة في الاحتفاظ بتحشدات ونقاط تجميع قوات، بسبب الاستهداف بمضادات الدروع والصواريخ الخفيفة والقنص، وانخفاض فاعلية التدريع لكثافة استخدام المضادات والاستخدام النوعي للعبوات. والناتج أن السيطرة الآمنة مقبولة التكلفة مستحيلة وبلا أفق واقعي للبقاء.

- تعقّد ملفيّ الأنفاق واسترجاع بعض الأسرى، وفشل أغلب الخروقات الميدانية بقوات خاصة للمناطق المدنية، وبالتالي لا ضربات أو أهداف وازنة، ولا معلومات كفيلة بتقويض الأنفاق أو تحرير عدد أسرى معتبر.

هنا، تنقلب عقيدة "الاستنزاف" على "الجيش"، مع ارتباط ارتفاع الكلفة البشرية، وآلاف الإصابات، بارتدادات اجتماعية تقوّض البيئة الاستراتيجية أكثر، رغم التماسك السياسي سابق الذكر. وبقدر ما حقق تقدمه البطيء شمال القطاع تحديداً "حضوراً"، بالتقدم التدريجي والتطويق ــ المنهج الأنسب في حرب المدن غير النظامية، لا مؤشرات على تعرّض حماس لاستنزاف أو شلل، بل العكس صحيح. إذ ترتكز نقطة قوة التنظيم وتجذّره شعبياً وقرابياً.

الشمال.. تدقيق الإسناد نحو واقع جديد

في الأشهر الماضية، أعاد حزب الله تقسيم أوراقه العسكرية على مراحل متوالية، بتدريج جديد بطيء يناسب منطق معركة غزة البرية بالذات وإيقاعها، ويفارق المقاربة الأساسية (الأقدم) لوحدة الساحات، التي بدت لسنوات سيناريو اقتحام برّي مفاجئ للجليل، يصاحبه إغراق بالصواريخ يعطل الإمكانات الحيوية لـ"الجيش والدولة"، بمشاركة عدة جبهات وبسرعة وتوازٍ يكفلان قلب المعادلة بالكامل، وتشكيل واقع جديد ثم تطويره إلى الأبعد.

لكن فرض السابع من أكتوبر مثل هذا الواقع، وواجه الحزب، من دون تنسيق مسبق، تحدياً نوعياً دقيقاً يسائل دوره وفاعليته وخطابه، في توقيت كان نقيض الجاهزية "لبنانياً": شغور رئاسي عملي وخلاف على المنصب، وتباعد مع التيار الحر، الحليف المسيحي الأكبر، وأزمة هيكلية للاقتصاد والحكم لا تحلّها حزم المساعدات المالية والتوافقات السياسية الداخلية المحدودة.

جاء التصعيد التدريجي شديد البطء حلاً منطقياً يكافئ طول زمن المعركة، الذي لم يكن قابلاً للتنبؤ بالكامل مبكراً، وحقق الآتي:

- إخلاء بعمق ٥ كيلومترات داخل الأرض نفسها، بتداعيات ذلك الاقتصادية والاجتماعية، خاصة في مجال الزراعة، وإرجاء العودة إلى بعد فصل الصيف. الآن، يعد هذا القطاع المنطقة العازلة، التي يسعى الكيان - تاريخياً - لإقامتها مع دول الطوق. 

- خسائر عسكرية ثقيلة ومدنية محدودة، جعلت تجدد القتال شمالاً بعد توقفه في غزة يعني حرباً كاملة، لأنه لن يعني سوى كثافة نارية مطلقة، أي أثر تدميري أشمل، يقضم كامل الشمال ويصاحبه اقتحام بري، ومن ثم يحرر أرضاً داخل فلسطين التاريخية لأول مرة.

- كشف كامل قواعد قطاعيّ الشمال والجولان وأدوارها ونظامها العملياتي، ومواقع ارتكازات المراقبة والاستطلاع، وتنفيذ تدريب ميداني على أرض أي معركة محتملة.

- إقامة توازن للردع، يجعل أي "حرب" قادمة قراراً بالغ الصعوبة، يفتح حد ذاته الباب لأزمة سياسية ودستورية بين الفرقاء، مثل القائمة بالفعل وأكبر، أو مع "الجيش".

تصعب قراءة العلاقة بين إسناد غزة وتحقيق هذه الأهداف دون المستوى الاستراتيجي، أي الأبعد من إجبار "الجيش" على وقف عملياته في غزة فوراً. ومن دون احتساب عاملين جوهريين في الخلفية: تعهد الحزب بعدم السماح بسقوط المقاومة في غزة، وانتفاء المقاربة الأقدم لوحدة الساحات، بانطلاق هجوم السابع بحد ذاته. من هنا، وضعت المقاربة الجديدة تقويض البيئة الاستراتيجية لـ"إسرائيل"، لا الهجوم الخاطف، هدفاً عاماً، تحققه الآثار المباشرة وغير المباشرة للعمليات في الشمال والجولان. ويشمل تهديد ميناء حيفا، ومواقع الطاقة وخزانات الأمونيا في الساحل الفلسطيني، والقاعدة الاستخبارية بريطانية المنشأ في قبرص، ويتكامل والموقف جنوباً، حيث الأثر اليمني وإصرار مقاومة غزة على استمرار قصف الغلاف والخطوط الخلفية للهجوم. 

المحصلة دائرة استهداف أوسع وأقوى أثراً من إخلاء مستوطنات الشمال وملف النازحين، وانخفاض الإنتاج الزراعي بنسبة معتبرة، والأثر المرتبط بفشل "الدولة". وأفق كان مرتقباً بالفعل منذ شرح الأمين العام للحزب على الخريطة، في مقابلة مصورة سابقة، أن لـ"دولة" الاحتلال خاصرة رخوة تتركّز فيها أغلب مقومات الحياة والحكم، في شريط ضيق على الساحل، محدود المساحة نحو الوسط والضفة، يسهل إغراقه بالصواريخ ــ منها الدقيقة.

ومع انسحاب بايدن، الذي يعني -من زاوية -اقتراب ترامب من المنصب، يبدو تقويض البيئة الاستراتيجية هذا مزدوج الأثر على الأجندة الأميركية، إذ يثبّت عند المستوى العسكري ردعاً حقيقياً من لبنان، بمشاركة إيرانية وإقليمية، ويورِث إدارة ترامب وضعاً يصعب "تحريكه" بحرب محدودة، أو ضربة جراحية كبيرة، وغير قابل للمغامرة التي قد تُبنى على عنوان مثل تبريد شرق أوروبا، وحسم ملف "أمن إسرائيل".