"الصينوفوبيا" في إستراتيجية الأمن القومي الأميركية
تعد الصين وفق الإستراتيجية الأميركية المنافس الوحيد على المستوى الدولي الذي ينوي إعادة تشكيل ورسم النظام الدولي كلياً.
في 12 تشرين الأول/أكتوبر 2022، أصدرت إدارة الرئيس بايدن "إستراتيجية الأمن القومي الأميركي" بعد مرور أكثر من عام ونصف عام على صدور الدليل الموقت للتوجهات الإستراتيجية الرئيسة لإدارته في آذار/مارس 2021، وبعد مرور نحو نصف مدته الرئاسية التي تنتهي في أواخر عام 2024. هذه الإستراتجية التي ترسم "رؤية لعالم حر ومنفتح وآمن ومزدهر"، مع خطة شاملة لتحقيق هذه الرؤية، بحسب بيان أصدرته وزارة الخارجية الأميركية في اليوم نفسه. حيث يقول بيان الخارجية، "ليست هذه رؤيتنا فحسب، بل رؤية نتشاطرها مع عدد من البلدان الأخرى التي تسعى للعيش في عالم يحترم المبادئ الأساسية لتقرير المصير وسلامة الأراضي والاستقلال السياسي، عالم تكون الدول فيه حرة في تحديد خيارات سياستها الخارجية، عالم يتيح حرية تدفق المعلومات ويحترم حقوق الإنسان العالمية، ويعمل الاقتصاد العالمي فيه على أساس تكافؤ الفرص، ويوفر الفرص للجميع".
ما الذي تضمنته الإستراتيجية؟
أولاً: العقد الحاسم أو العقد الخطر
استحوذت الصين على حيز كبير من الإستراتيجية، التي جاءت في 48 صفحة، والتي تعد إدارة بايدن بأنها إستراتيجية الردع المتكامل لمواجهة صراعات القوى الكبرى، حيث يظهر فيها بوضوح سعي واشنطن لإرساء الأسس الإيديولوجية في الصراع مع الصين التي تمثّل التهديد الأكبر لعمليات التحوّل الديمقراطي وفقاً للإستراتيجية، وباعتبارها تسعي لتشكيل النظام الدولي بصورة تخدم مصالحها، وبالتالي لا بد للولايات المتحدة من الاستفادة من العقد الحاسم وفق توصيف الإستراتيجية أو العقد الخطر وفق توصيف ريتشارد هاس لتعزيز مصالحها الحيوية العالمية، وتمكينها من التفوق على منافسيها الجيوسياسيين الذين تتصدّرهم بكين، والتصدي للتحديات المشتركة، ووضع العالم بثبات في طريق يسير نحو غد أكثر إشراقاً وتفاؤلاً.
ثانياً: احتواء الصين
تعد الصين وفق الإستراتيجية المنافس الوحيد على المستوى الدولي الذي ينوي إعادة تشكيل ورسم النظام الدولي كلياً، فبكين تمتلك القدرات والإمكانيات الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية التي تتيح لها القيام بذلك، فضلاً عن طموحاتها في المناطق ذات النفوذ التقليدية للولايات المتحدة، وتحديداً في المحيطين الهندي والهادىء حيث يدور السباق حول العالم لكتابة قواعد الطريق، وتشكيل العلاقات التي تحكم الشؤون العالمية، في وقت تصر فيه واشنطن على أن العالم بجهاته الأربع مناطق نفوذ لها، وبالتالي وفق الإستراتيجية الأميركية وتصوراتها لا يحق للصين تأمين جوارها باعتباره مجالاً حيوياً، وهذا يدل على حجم المخاوف والهواجس الأميركية من بكين وقدراتها لكونها التهديد المتنامي المتربص بالهيمنة الأميركية على النظام الدولي.
واستغرقت الإستراتيجية في تعداد أدوات الصين لتصبح القوة المهيمنة على النظام الدولي، ويأتي في مقدّمها التقدم التكنولوجي الذي تستخدمه بكين لترويج نفسها وقيمها ولفرض نموذجها، الذي يتلازم وتصاعد نفوذها السياسي والدبلوماسي على المؤسسات الدولية وفق توصيف الإستراتيجية، التي أسهبت أيضاً في الحديث عن استغلال الصين للانفتاح الاقتصادي العالمي من خلال ثنائية تقوم على: أولاً: زيادة الاعتماد الدولي عليها، وثانياً: تقليل اعتمادها على العالم عبر توظيف أساليب القهر الاقتصادي، فضلاً عن توظيفها لقدرات وإمكانيات هائلة في تطوير قواتها العسكرية بغية سيطرتها على منطقتي الهندي والهادئ على نحو يهدد مصالح ونفوذ الولايات المتحدة وحلفائها في منطقة سيحدد موقعها شكل التنافس العالمي فترة طويلة في المستقبل.
وحددت الإستراتيجية 3 جوانب لاحتواء الصين تتمثّل فيما يأتي:
الاستثمار في أسس القوة الوطنية: التنافسية، الابتكار، المرونة والديمقراطية.
المواءمة مع شبكة الحلفاء والشركاء، والعمل المشترك لتحقيق الهدف المشترك.
التنافس بمسؤولية مع الصين في المجالات التكنولوجية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والاستخبارية والحوكمة العالمية.
وعددت الإستراتيجة السياسات الأميركية لمجابهة الصين والرد عليها، من خلال استغلال قضايا صينية داخلية، وهي على النحو التالي:
1 ـــ توظيف ورقة حقوق الإنسان: تشير الإستراتيجية إلى أهمية فضح الأساليب غير الإنسانية التي تتبعها بكين في قضية الإيغور، وحقوق الإنسان في التيبت.
2 ـــ دعم الديمقراطية في هونغ كونغ: شددت الإستراتيجية على التصدي لمحاولة بكين إضعاف الاستقلالية والديمقراطية التي تتمتع بها هونغ كونغ.
3 ـــ منع الصين من ضم تايوان: تؤكد الإستراتيجية استمرار الولايات المتحدة في اعترافها بسياسة الصين الواحدة، إلا أنه في الوقت عينه ترفض واشنطن أي محاولة أحادية من طرف الصين لتغيير الوضع القائم بالقوة، على الرغم من النفي الأميركي المتكرر لدعم استقلال تايوان، إلا أنها في المقابل لا تتوانى عن الإعلان في مناسبات عديدة دعمها الأخيرة عسكرياً، بل وذهابها إلى الحديث مراراً أنها سوف تتدخل للدفاع عن تايون عسكرياً، وعليه يظهر أن واشنطن تعمل بكل قوة لمنع توحّد الصين وتايوان، لأن ذلك سيوفر لبكين وزناً اقتصادياً وجيوسياسياً هائلاً، نظراً إلى الحجم الاقتصادي الكبير الذي تتمتع به تايوان إذ يبلغ ناتجها المحلي لعام 2022 نحو 850 مليار دولار.
ثالثاً: تحديات أميركية ملحة
ثمة تحديات كبيرة تعترض سياسة الولايات المتحدة الصينية تحدّثت عنها الإستراتيجية وتتمثّل في وجود تباين في وجهات نظر حلفاء واشنطن فيما يتعلق بالتعامل مع الصين، لذا يظهر أن جهود واشنطن لن تكون يسيرة، خصوصاً إذ ما علمنا أن عدداً من حلفاء واشنطن قد انضم إلى عدد من المؤسسات التي أسستها واشنطن كالبنك الآسيوي للتنمية والاستثمار، على الرغم من الضغوط التي مارستها واشنطن على هذه الدول لدفعها إلى وقف التعامل مع الصين.
وما يقلق واشنطن أكثر هو غياب الموقف الأوروبي الموحد، إذ يرحب حلفاؤها في أوروبا الشرقية تحديداً، وهي الدول التي تعرف بالدول الأطلسانية داخل الاتحاد الأوروبي بالاستثمارات الصينية، إضافة إلى الصعوبات الكبيرة التي تواجهها واشنطن في تأليف تحالف أشباه الموصلات أو ما يعرف بــ شيب 4، الذي يهدف إلى الحد من قدرة الصين وإضعافها في الحصول على الرقائق الإلكترونية، فضلاً عن كل ذلك تنظر واشنطن بعين القلق إلى عدم اصطفاف حلفائها في تحالف كواد على قلب رجل واحد، إذ تبرز إلى الواجهة مشاركة الهند في المناورات العسكرية إلى جانب الصين وروسيا بعدما باتت الهند جزءاً مهماً من المشهد الدولي.
من ناحية ثانية يظهر لواشنطن أن الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادىء، الذي أطلقته إدارة بايدن ويضم إلى جانبها 15 دولة لا يوازي في أهميته اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية التي تتصدرها الصين، لتمتعها بجاذبية أكبر لدى جميع الدول من الإطار الاقتصادي في منطقة تعدها الولايات المتحدة مهمة في خريطة العالم الجديد، خصوصاً بعد انحسار هيمنتها على العالم.
في المقابل مبادرة إعادة بناء العالم على نحو أفضل التي أطلقتها الولايات المتحدة الأميركية بالشراكة مع مجموعة السبع لمواجهة مبادرة الحزام والطريق الصينية التي ستنفق فيها بكين تريليون دولار في مقابل 600 مليار دولار ستجمعها واشنطن في السنوات الخمس المقبلة، تبرز فيها عوائق كبيرة أمام طموح واشنطن، أبرزها اعتمادها على القطاع الخاص في جمعها، ما يضعها في دائرة التهديد حيال جديتها وقدرتها على احتواء النفوذ الصيني.
إن إستراتيجية الأمن القومي الأميركي تُختصر بسعي واشنطن لتعميم حال هستيرية من العداء للصين أسمّيها الصينوفوبيا، لإلهاء بكين عن تمدّدها في منطقة نفوذها الحيوي، إذ استطاعت الصين تحقيق نجاح كبير يسجّل لها في تنافسها الإستراتيجي مع الولايات المتحدة، لإدراكها أن الاستثنائية الأميركية التي تحكّمت طويلاً بالنظام العالمي في حقبة ما بعد نهاية الحرب الباردة قد انتهت باعتراف وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينيكن، وأن المنافسة قائمة لتحديد نظام عالمي جديد، المؤكّد فيه انتهاء عصر الهيمنة الأميركية، ومعه تلك الإمبراطورية التي اعتقدت نخبتها الحاكمة، ومعها رهط كبير من مفكريها أن لا ند لها ولا مزاحم، قبل أن يستيقظ كل هؤلاء على حقيقة بات مؤكدة ومفادها أن أفولها كقوة متحكمة بمصير الكوكب باتت جزءاً من تاريخ سيروي في الكتب، عناوينها المشتركة: هنا كانت الولايات المتحدة ورحلت.