حياة رغم الألم: حين تنبت الزهور من رماد الحرب
لاحظ محمود الحناوي ظاهرة غريبة لكنها تحمل أبعاداً عميقة: الأفراح لم تتوقف حتى في خضّم الحرب. فقد وثّقت المحاكم الشرعية في غزة قرابة 4000 معاملة زواج خلالها. كان هذا مشهداً غريباً في واقعٍ صعب، لكن بالنسبة له، كانت هذه إشارات إلى أن الحياة لم تنتهِ!
في شمال قطاع غزة، وتحديداً في مخيم جباليا، حيث تختلط رائحة الورود المحترقة بآثار الدمار والخراب، تسكن قصة الشاب محمود الحناوي، الرجل الذي جعل من الزهور رمزاً لمقاومة التحديات. بين الحرب والحصار، وبين الحياة والموت، تقف حياته نموذجاً لأجل الحياة بكل تفاصيلها، وإعادة بناء الفرحة.
محمود الحناوي، رجل وهبَ نفسه منذ سنوات للعيش مع الزهور الجميلة وتنسيقها في محله الصغير "الوردة الحمراء"، لكنه لم يكن يعلم أنَّ هذه الزهور ستصبح شاهداً على قصة صموده.
كان محل الورود مكانه المحبب، مساحته التي ينسج فيها أحلامه ويزرع فيها أفراح الآخرين. غير أن هذا المكان لم يسلم من آلة الحرب المدمرة. في العدوان الأخير على شمال غزة، اجتاحت همجية قوات الاحتلال المكان، تاركةً خلفها بقايا ذكريات وركاماً، وحرمت محمود من ملاذه الأخير.
كانت هذه الحادثة خسارة فادحة للشاب الغزاوي، لم تفقده فقط مصدر رزقه، بل ضيّعت عليه أشياء كثيرة كان يعدّها لهدفٍ أكبر. فقد كانت "شقة العمر"، شقته التي كان يجتهد لبنائها وتجهيزها طوال 34 عاماً، ضمن أحلامه العالقة. كانت تلك الشقة رمزاً لحياته ومستقبله، لكنها اختفت بين الأنقاض في لحظة لم يجد فيها حتى الوقت للوداع!
الألم الذي ولّد عزيمة الصمود
لم يكن محمود وحيداً في معاناته، فقد العديد من الأحبة والأصدقاء، واعتاد رؤية مشاهد الخراب والموت تملأ الأفق. فالعدوان الأخير على غزة لم يبقِ شيئاً على حاله، حتى أصبحت الحياة اليومية معركة من أجل البقاء.
ويواصل الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على قطاع غزة، مستكملاً حرب الإبادة الجماعية، ومخططه لتهجير السكان وتدمير كلّ مقومات الحياة، وخلال الساعات الماضية نسف "جيش" الاحتلال عدداً من المباني السكنية في مخيم جباليا شمال القطاع.
" 5 شهداء ومصابون في غارة إسرائيلية على منزل في بلدة بيت لاهيا شمال القطاع".
— قناة الميادين (@AlMayadeenNews) November 3, 2024
مراسل الميادين محمود العوضية.#فلسطين #غزة pic.twitter.com/NcwbJrW5GI
لكن، وسط هذا الخراب، كان هناك شيء أعمق يتحرك بداخله، وكأنَّ تلك النيران أشعلت إرادة صلبة لمواجهة الموت بالحياة. فقد قرر محمود أن يستمر، وأن يصنع حياةً جديدة من ركام قديم.
إرادة الحياة في ابتكار الأمل
رغم انقطاع مصدر رزقه الرئيسي، لم يقبل محمود بأن يستسلم للواقع المفروض عليه. فبدلاً من البقاء مكتوف الأيدي، قرر أن يبدأ من جديد. أنشأ كشكاً صغيرأ مع صديقه لبيع القهوة رغم تكاليفها العالية بسبب الحصار، وبدأ أيضاً في صنع الإكسسوارات البسيطة وأوراق المحارم، في محاولة مفعمة بالأمل لكسب قوت يومه.
كانت هذه الخطوات أشبه بمحاولة لإعادة بناء روتينه اليومي المفقود، ورغم بساطة الأعمال التي لجأ إليها، إلا أنها تحمل بداخلها صموداً قوياً في مواجهة واقعٍ لا يرحم. لقد أدرك محمود أن الحياة لا تنتظر أحداً، وأن المرء عليه أن يصنع لحظات الفرح بنفسه حتى في قلب الظلام.
إحياء أجواء الأفراح وسط الخراب!
وسط هذه الحياة المليئة بالألم، لاحظ محمود ظاهرة غريبة لكنها تحمل أبعاداً عميقة: الزواج والأفراح لم تتوقف حتى في خضم الحرب. فقد وثّقت المحاكم الشرعية في غزة قرابة 4000 معاملة زواج خلال الحرب. كان هذا مشهداً غريباً في واقعٍ صعب، لكن بالنسبة لمحمود، كانت هذه إشارات إلى أن الحياة لم تنتهِ، وأن الإنسان، حتى في أحلك الظروف، يبحث عن الحب والفرح.
وبعد ملاحظته هذا الإقبال على الأفراح رغم الحرب، قرر محمود أن يعيد صناعة الفرحة بطريقته. بدأ العمل على تجهيز مستلزمات الأفراح، مثل علب المهور ومسكات العرائس، مستعيناً بأصدقاء لديهم محلات تبيع هذه الأصناف. ورغم الصعوبات التي واجهته بعد تدمير محله، إلا أنه لم يتراجع. كان يرى في هذه الأعمال المتواضعة تحديًا للعتمة، وكأنه يصرّ على أن الحياة لن تنطفئ في قلبه مهما ضاقت السبل.
صناعة الفرحة: وسيلة لمقاومة الألم
بابتسامة يملؤها الحزن والأمل، يتحدث محمود عن عمله الجديد بتجهيز الأفراح قائلاً: "نحن نصنع الفرح بأيدينا في وقت يملؤه الخراب." لقد كان يسعى ليس فقط لإحياء مظاهر الفرح، بل أيضًا لإحياء نفسه في هذا الواقع الصعب. كان يعيد ترتيب ورود حياته رغم القسوة، كأنَّ لكل زهرةٍ معناها الخاص، وكل ترتيبٍ جديد يحاكي قصةً أخرى عن الصمود".
يجد محمود في صناعة الفرحة فرصةً لإبراز قوة الإنسان الفلسطيني، ليثبت أن الشعب في غزة لا ينكسر بسهولة. فقد كانت تجهيزاته لعلب المهر وزينة الأعراس بمثابة صوتٍ يقاوم الصمت المفروض، وحياةً ترفض الموت البطيء. إنها حياةٌ تُصرّ على البقاء مهما كثُر الدمار حولها.
والجدير بالذكر، أن مزارعي غزة كانوا يصدرون نحو 60 مليون زهرة سنوياً إلى أوروبا، غير أنهم صدروا 5 ملايين زهرة فقط لآخر مرة عام 2012.
تجربة محمود تروي الكثير عن قلوب لا تزال تنبض بالحياة في أماكن تبدو منسية على خريطة العالم، لكنها تحتضن أرواحاً متمسكة بكل ذرّة من الحياة. إن قصته تترك أثراً لا يمحى في كل من يسمعها، وتبثّ الأمل في نفوس أولئك الذين يعتقدون أن الأمل قد تلاشى، لتؤكد أن الحياة، حتى في غزة، ستظل تفتح نوافذها من بين الركام.
اقرأ أيضاً:"فايننشال تايمز": حصار "إسرائيل" لشمالي غزّة يفرض أحلك لحظات الحرب
يأتي ذلك فيما تواصل قوات الاحتلال عدوانها على قطاع غزة لليوم الـ394، براً وبحراً وجواً، منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ما أسفر عن ارتقاء 43314 شهيداً، وإصابة 102019 آخرين، أغلبيتهم من الأطفال والنساء، في حصيلة غير نهائية، إذ لا يزال آلاف المفقودين تحت الأنقاض.