حوادث العبّارات في مصر.. كيف ابتلع النيل آلاف الكادحين؟

ما يقارب 9 آلاف و500 مركب ومعدّية بطول مجرى نهر النيل يعد وسيلة النقل الرئيسية للمصريين الذين يعيشون على ضفاف النهر، لكن تعد بعض وسائل النقل هذه محطات أخيرة لركابها بسبب الحوادث المستمرة أو تهالك بنيتها.

0:00
  • حوادث العبّارات في مصر.. كيف ابتلع النيل آلاف الكادحين؟
    حوادث العبّارات في مصر.. كيف ابتلع النيل آلاف الكادحين؟

في صباح باكر ملبّد بالغيوم خُنقت فيه الشمس قليلاً، تهيّأت الطفلة ابتهال السيد عمر للخروج إلى العمل في إحدى مزارع الفاكهة، رفقة صديقات الطفولة والحقل من بنات قريتها، لكنها لم تدرك أن وداعها لأسرتها سيكون الأخير في سبيل لقمة العيش والكدح بعد وفاتها غرقاً في نهر النيل. 

عكَسَ الحادث الأخير لـ"معدّية (عبّارة) أبو غالب" في منشأة القناطر في الجيزة، الملاصقة للقاهرة، والتي كانت تنقل 26 فتاة يعملن في إحدى شركات تصدير الفاكهة، أعمارهن تتراوح بين 17 و20 عاماً، حجم الإهمال والكارثة، عندما تسبّب سائق بسقوط حافلة أجرة في المياه، ما أسفر عن مصرع 17 فتاة وإنقاذ 9 آخرين. 

أشهر الحوادث

ابتهال، ذات الـ14 ربيعاً، التي تعمل منذ سنوات حُرمت خلالها من عيش مرحلة الطفولة، كانت تستقل وسيلة النقل تلك لسنوات للوصول إلى عملها في المزرعة، غير أن هذا اليوم المشؤوم كتب فصل النهاية في حياتها، بعد غرقها رفقة 17 من زميلاتها الفقيرات.

ويقول شقيقها أحمد السيد في حديث إلى الميادين نت: "لقد حُرمت من طفولتها في سبيل العمل. سائق بلا ضمير ترك مكابح السيارة، فسقطت في النيل بالفتيات "الغلابة" من أعلى المعديّة، لقد تركوا أحلامهنّ خلفهنّ من أجل لقمة العيش".

هذه الحادثة أعادت إلى الأذهان نحو 10 حوادث متشابهة وقعت منذ عام 2014، أبرزها "عبّارة نكلا" في شباط/فبراير الماضي، إذ غرقت في النيل، وراح ضحيتها 10 عمال، وعبّارة "قرية الحيبة"، التي تسببت بموت 5 مصريين من أسرة واحدة غرقاً، وغرق نحو 12 مصرياً من معدية جزيرة الوراق بالجيزة عام 2015. وعام 2014، كانت "معدية سمالوط" في المنيا، صعيد مصر، حيث غرق 30 مصرياً عقب سقوط حافلة من أعلى المعديّة أثناء تحركها.

ووفق تقديرات مركز الدراسات الاقتصادية المصري، فإن ما يقارب 9 آلاف و500 مركب ومعدّية بطول مجرى نهر النيل تعد وسيلة النقل الرئيسية للمصريين الذين يعيشون على ضفاف النهر، مؤكداً أكثر من 95% منها تعمل دون تراخيص، فيما يعمل 70% من سائقيها من دون رخصة قيادة.

ضحايا لقمة العيش

الحزن الذي لا يزال يفطر قلب الطفلة جنات أحمد لطفي (13 عاماً)، التي كسرت زجاج الحافلة وخرجت إلى الشاطئ عقب إنقاذها، يخيّم كذلك على باقي أفراد أسرتها، بعدما رأت شقيقتها زينب تغرق أمامها، وشعرت بالعجز حيال إنقاذها.

 تقول جنات للـميادين نت: "سقطت زينب داخل الحافلة مع باقي الفتيات.. لم تستطع الخروج، لأن اندفاع السيارة كان قوياً، وغمرتها المياه على الفور، لكنني استطعت تكسير زجاج الشباك والخروج إلى السطح، حتى قدّم لي أحد سائقي المراكب عوامة إنقاذ جذبتني إلى الشاطئ، لكن زينب كانت من ضحايا لقمة العيش".

يختلط في حديث شقيقة زينب الخوف والتلعثم من شدة الحزن والندم، وتقول بالعامية المصرية: "ظللت أصرخ للناس أختي هناك، حد يجيبها وبعدين اختفت عن عيني، فسقطتُ مغمياً عليّ، أنا أعيش كابوساً لأنني لم أستطع إنقاذها".

الطفلة الناجية من الموت أيضاً، حبيبة دياب، تعيش الكابوس نفسه لغرق صديقتها روان التي رافقتها سنوات العمل والطريق منذ عملهما معاً في تغليف فاكهة العنب في شركة تصدير، تحكي للـميادين نت وهي تغالب دموعها التي تنهمر على وجنتيها تفاصيل الواقعة التي "بدأت بمحاولة شاب نزع الحجاب عن روان والتحرش بها، فنهره سائق الحافلة الذي يقلنا، فحدث اشتباك بينهما، فاستعان المعتدي بـ4 آخرين كانوا على متن المعديّة. ومع رسوها واهتزازها، دفعوا الحافلة فانزلقت إلى المياه".

معديات الموت

مشهد كارثي تعيشه بالفعل وتراه بعينك حين تطأ قدماك أحد المراكب النيلية أو كما يصفها الأهالي "العبّارة" و"المعديّة"، إذ تشاهد مقاعد حديدية ضيقة لا تتسع إلا لجلوس عدد محدود من الركاب، وفي المنتصف حجرة ضيّقة تضم المحرك الخاص بالمركب، تهبط إليها من سلالم معدنية، فيما يقف أحد العاملين لتنظيم دخول السيارات بجميع أنواعها، فيما توجد غرفة قيادة على أطراف المركب، تضم عدداً محدوداً من سترات النجاة.

من "معدّية القناطر" إلى أخرى في مدينة الصف، إحدى مناطق الجيزة، تعيش لحظات من الرعب داخل "معدّيات الموت"، مثلما يصفها مصطفى كمال، الموظف الحكومي، لكنه يستدرك أن "حياة الملايين ممن يعيشون على ضفتي نهر النيل ترتبط بالمعديات النهرية كوسيلة نقل رخيصة وسريعة برغم مخاطرها وافتقارها إلى وسائل الأمان والسلامة، لعدم وجود كوبري أو جسر لعبور ضفتي نهر النيل".

ويشرح كمال طريقة عمل تلك المركبات النيلية، قائلاً في حديث إلى الـميادين نت، إنها تتطلب قيام 3 أشخاص بدفعها إلى مياه النهر، في حين يسحب أحدهم السلاسل الحديدية المثبّتة في الطمي حتى تتحرك، فيعمل المحرك ويدفعها بالمياه، لافتاً إلى أن "رخص ثمن تذكرتها (3 جنيهات للفرد) جعلها الوسيلة المناسبة. لذا، يوجد إقبال كبير عليها من جانب الأهالي".

ووفق أرقام نشرتها وزارة النقل المصرية، وقعت 15 حادثة معدّية خلال 15 عاماً، بمعدل حادثة سنوياً، أدت إلى وفاة 180 شخصاً، آخرها في آب/أغسطس 2020، بسبب عدم مراعاة عوامل الأمان والسلامة.

في المقابل، تنفذ الدولة المصرية عدداً من مشروعات المحاور والجسور على النيل لتقليل استخدام المعديّات، فتم تنفيذ 38 جسراً قبل 2014، وبدأ التخطيط لإنشاء 29 محوراً جديداً على النيل حتى 2024. ووفقاً لهذه الخطة، تم الانتهاء من تنفيذ 13 محوراً، ويجري تنفيذ 16 محوراً آخر، ليصل الإجمالي إلى 67 محـوراً، منها 31 في صعيد مصر و36 فى منطقة الدلتا شمالي القاهرة.

رقابة حكومية لشروط السلامة

مع طلوع كل فجر، يستيقظ أهالي قرى مدينة الصف، في الجانب الشرقي للنيل، للذهاب إلى أعمالهم ومدارسهم عبر تلك المعديّات. يقول محمود علي، طالب في كلية الهندسة، إن آلاف الطلاب يعبرون النيل يومياً إلى مدارسهم، فضلاً عن الموظفين وأصحاب الأعمال والناس العادية، ويخشون الاستيقاظ يوماً ما على حادثة جديدة، خصوصاً مع كثرة استخدام تلك العبّارات على طول مجرى النيل.

ويضيف علي للـميادين نت: "الأزمة تتفاقم في ظل غياب الرقابة الحكومية وتهالك المعديات النيلية وعدم مطابقتها لمواصفات السلامة والأمان ومخالفة شروط الترخيص"، مشدداً على ضرورة توفير إجراءات السلامة وحملات التفتيش الدورية وتشييد الجسور لربط شرق النيل بغربه.

ووفق اللواء حامد العقيلي، المدير السابق للإدارة العامة لشرطة البيئة والمسطحات المائية في القاهرة، فإن هناك حملات دورية من شرطة المسطحات المائية على مدار 24 ساعة، لافتاً إلى أن المعديّات لها شروط أمان وسلامة ومواصفات فنية تحددها كل محافظة.

تفرق المسؤولية في دولاب الحكومة

وتعد أكبر أزمة تواجه النقل النهري، وخصوصاً ملف المعديّات، هي تبعيتها بين المحافظات ووزارات الري والزراعة، إضافة إلى السياحة والنقل والداخلية، وهو ما يجعل فرض سيطرة ورقابة مشددة من جهة واحدة أمراً في غاية الصعوبة، وفق حديث مصدر في وزارة النقل المصرية، مشدداً على ضرورة توحيد جهة الإشراف على النقل النهري لتحديد المسؤولية.

المصدر أكد للــميادين نت، مفضلاً عدم كشف هويته، ضرورة توسيع صلاحيات قطاع النقل النهري، لتشمل إيقاف تشغيل المعديات المتهالكة وإصدار وثيقة تأمين على أرواح الركاب بما يضمن سلامة التشغيل.