علاقة الصين بمخطط ترامب لتهجير سكان قطاع غزة
اعتبارات كثيرة تقف وراء سعي الرئيس ترامب إلى السيطرة على قطاع غزة، ومن بينها رغبته في الحدّ من النفوذ الصيني عالمياً عبر ربط غزة بالممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي ومنافسة طريق الحرير.
-
كلّ يوم يفاجئ ترامب العالم بقراراته غير المسؤولة.
يشغل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، منذ تسلّمه الرئاسة الأميركية، بال مختلف دول العالم بسبب الضغوطات التي يمارسها على العديد من الدول كي تستجيب لأوامره تحت التهديد بممارسة الإكراه الاقتصادي عبر فرض رسوم جمركية أو إيقاف المساعدات الأميركية.
يريد الرئيس ترامب أن يعيد "العصر الذهبي لأميركا"، وقد نصّب نفسه حاكماً على العالم يسعى إلى الاستحواذ بالقوة على ما يرى فيه إفادة له كضمّ كندا إلى الولايات المتحدة الأميركية لتصبح الولاية الـ 51، والاستحواذ على جزيرة غرينلاند، وغيّر اسم خليج المكسيك إلى "خليج أميركا"، وتمكّن من إجبار بنما على الانسحاب من مبادرة الحزام والطريق الصينية بذريعة أنّ الصين تدير قناة بنما، وهو ما يشكّل انتهاكاً للاتفاقية الموقّعة عام 1977، وتهديداً أمنياً لواشنطن إذ لدى الأخيرة قلق من إغلاق الصين للقناة في حال نشوب صراع.
وكلّ يوم يفاجئ ترامب العالم بقراراته غير المسؤولة فهو يريد تهجير أكثر من مليوني فلسطيني من قطاع غزة إلى الأردن ومصر والاستحواذ على القطاع لتطويره عقارياً وتحويله إلى "ريفييرا الشرق الأوسط".
لم تفلح "إسرائيل" من خلال حروبها السابقة على القطاع بتفريغه من أهله، فجاء مخطّط ترامب لتهجيرهم عبر الضغط على القاهرة وعمّان لاستقبال الفلسطينيين تحت طائلة إيقاف المساعدات الأميركية لهما. إلا أنّ مخطط ترامب اللاعقلاني والمخالف لمواثيق ومبادئ القانون الدولي لقي رفضاً قاطعاً من قبل الدول العربية عامّة ومصر والأردن خاصة.
كما لاقى انتقادات وإدانات دولية واسعة، والصين من الدول التي أعربت عدة مرات عن معارضتها الشديدة لخطة ترامب بالاستيلاء على القطاع وتوطين الفلسطينيين في دول أخرى.
قالت بكين في تصريحها حول خطة ترامب إنها تأمل من الأطراف المعنية أن تستغلّ فرصة وقف إطلاق النار والحكم في غزة فيما بعد الصراع لإعادة القضية الفلسطينية إلى الطريق الصحيح للتسوية السياسية بناء على حلّ الدولتين، من أجل تحقيق السلام الدائم في الشرق الأوسط. وذهبت بكين إلى تأكيد أنّ غزة ملك للفلسطينيين وجزء لا يتجزّأ من الأراضي الفلسطينية.
الرفض الصيني للتهجير ليس بجديد فبكين كانت تحذّر دائماً من تهجير الفلسطينيين سواء داخل القطاع، عندما أرادت "إسرائيل" خلال عدوانها على غزة تهجير أهل الشمال إلى جنوبه بحجة أنها أماكن آمنة، أو إلى خارج القطاع.
ويعود هذا الرفض إلى موقفها الثابت من القضية الفلسطينية عبر إقامة مؤتمر دولي للسلام وتبنّي مبدأ حلّ الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على حدود عام 1967 عاصمتها القدس الشرقية. كما تشدّد بكين دائماً على أنّ القضية الفلسطينية هي القضية الأساس في الشرق الأوسط الذي لن يشهد سلاماً واستقراراً إلا بعد إقامة دولة فلسطينية مستقلة. وتعتبر أنّ تشريد الفلسطينيين ومنعهم من العودة إلى وطنهم هو الظلم الأطول أمداً في العالم، ولا تجوز المساومة على الحقوق الوطنية المشروعة للفلسطينيين، وعلى المجتمع الدولي التمسّك بمبدأ "الأرض مقابل السلام".
ترى بكين أنّ عملية التهجير فيها نسف لمبدأ حلّ الدولتين واستمرار للنزاعات والحروب التي من المحتمل أن تمتدّ لتشمل أراضي أخرى في الشرق الأوسط، وبالتالي لن يتمّ تحقيق الاستقرار الذي تصبو إليه الصين في المنطقة. كما يؤدّي التهجير إلى استمرار الظلم الذي يتعرّض له الفلسطينيون والذي لا يمكن بحسب بكين أن يستمرّ لأجل غير مسمّى.
ومن جانبها قامت الصين باتخاذ خطوات، وإن كانت محدودة، للمضي في المسار السياسي للقضية الفلسطينية عبر عقد سلسلة اجتماعات في بكين ضمّت العديد من الفصائل الفلسطينية، بينها حركتا فتح وحماس، وصدر عنها "إعلان بكين" لتعزيز الوحدة الفلسطينية وتشكيل حكومة وفاق وطني تمارس صلاحياتها على الأراضي الفلسطينية كافة بما يؤكّد الوحدة بين قطاع غزة والضفة والقدس.
يعود جانب من خطة ترامب لتهجير الفلسطينيين والسيطرة على قطاع غزة إلى نهب ثرواته حيث تزخر سواحل غزة بثروة هائلة من الغاز الطبيعي، تُقدَّر قيمتها بمليارات الدولارات، وهي ما يُعرف بحقول "غزة مارين" 1و2، في حين تمنع "إسرائيل" عن الفلسطينيين استغلالها عبر وضع العراقيل لذلك، إذ تسعى إلى نهب تلك الثروات واستغلالها لصالحها.
فمثلاً تشترط أن ينقل الغاز من حقل غزة مارين إلى "إسرائيل"، ليوزّع من هناك إلى غزة والضفة، أو أيّ مكان آخر. كما تمنع إنشاء البنية التحتية وأنابيب نقل الغاز إلى اليابسة.
وخلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، سعت "تل أبيب" إلى إبرام صفقات مع شركات كبرى للتنقيب عن الغاز قبالة سواحل غزة وفي مناطق تعتبر بموجب القانون الدولي مناطق بحرية فلسطينية.
كما أنّ لغزة موقعاً مميّزاً على البحر الأبيض المتوسط مما يجعلها نقطة عبور في الممر الهندي الشرق الأوسطي الأوروبي، الذي أُعلن عنه في قمة مجموعة العشرين عام 2023، كطريق منافس لمشروع الحزام والطريق الذي أعادت الصين إحياءه عام 2013، بعد تولّي الرئيس شي جين بينغ الرئاسة، وتدفع مليارات الدولارات من أجل إنجاح مشروعها.
وأيضاً لغزة دور ضمن مشروعI2U2 الذي يضمّ الهند و"إسرائيل" والإمارات العربية وأميركا، بهدف تعزيز التعاون الاقتصادي في قطاعات مختلفة منها الطاقة والفضاء والأمن الغذائي، ويعتبر منافساً لمشروع الحزام والطريق. بالمقابل تسعى واشنطن، في ظلّ التنافس الصيني الأميركي، إلى إفشال المشروع الصيني إذ ترى فيه امتداداً لنفوذ الصين حول العالم.
وخلال القمة التي جمعت الرئيس ترامب برئيس وزراء الهند ناريندرا مودي مؤخّراً، أعلن ترامب الاتفاق على إنشاء خط تجارة جديد من الهند إلى "إسرائيل" فإيطاليا وصولاً إلى الولايات المتحدة الأميركية، وربما يريد ترامب أن تكون غزة محوراً أساسياً في هذا المشروع الذي يعتبر كذلك منافساً لطريق الحرير.
وقد نجح الرئيس ترامب في ولايته الثانية، تحت التهديد بالتدخّل العسكري، في إجبار بنما على الخروج من مبادرة الحزام والطريق التي وقّعتها مع الصين عام 2017، إذ هدّد ترامب باستعادة قناة بنما بذريعة أنّ الصين هي التي تدير القناة وليس بنما، وأوفد وزير خارجيته ماركو روبيو إلى بنما، الذي ضغط على الرئيس البنمي خوسيه راؤول مولينو، للانسحاب من مبادرة الحزام والطريق وهو ما حصل بالفعل.
ومن ناحية أخرى ستسهّل السيطرة على قطاع غزة بناء "قناة بن غوريون"، التي هي عبارة عن مشروع إسرائيلي أميركي لوصل البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط، ويواجه المشروع صعوبات في عملية تنفيذه ومساره الجغرافي في ظلّ بقاء غزة خارج السيطرة الإسرائيلية.
اعتبارات كثيرة تقف وراء سعي الرئيس ترامب إلى السيطرة على قطاع غزة، ومن بينها رغبته في الحدّ من النفوذ الصيني عالمياً عبر ربط غزة بالممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي ومنافسة طريق الحرير.
لا تكفي الإدانات لمخطط ترامب تجاه غزة لردعه عن المضي قدماً في تنفيذه، بل يجب أن تكون هناك ضغوطات عربية وصينية ودولية جدّية، وتجنّب محاولات الابتزاز التي سيقوم بها ترامب في حال التفاوض على ملف غزة.