حملات دعوية وانتهاكات.. هل تضرب "العصا المتشددة" بنية المجتمع السوري؟

الحملات الدعوية التي تبدو منظمة في سوريا، أثارت جدلاً كبيراً وانتقادات شعبية كبيرة، حيث اعتُبرت نوعاً من الضغط الاجتماعي والديني، وتجاهلاً للطوائف الأخرى واتهام نسائهنّ بالكفر.

0:00
  • حملات دعوية وانتهاكات.. هل تضرب
    حملات دعوية وانتهاكات.. هل تضرب "العصا المتشددة" بنية المجتمع السوري؟

أمام حديقة "العفيف" قرب السفارة الفرنسية وسط العاصمة السورية دمشق، أوقفت ثلاث نساء يضعنَ نقاباً يرافقهنّ رجل مسلّح فتاة لم تتجاوز الثالثة عشرة من عمرها أمام الناس، وبدؤوا بطرح الأسئلة الدينية عليها لدقائق. كانت علائم الرعب والاستغراب بادية على وجه الفتاة، التي لم تعرف بماذا تجيب في تلك اللحظات، قبل أن تُقدم إحدى النساء على إعطاء الفتاة رداءً طويلاً ونقاباً، طالبةً منها الالتزام بارتدائه، فما كان من الفتاة الصغيرة إلا أن أخذته وأسرعت مبتعدة عنهم.

كانت هذه واحدة من حملات دعوية عديدة تشهدها شوارع دمشق وبعض المحافظات السورية منذ أيام، ما تسبّب بجدل واسع في أوساط الرأي العام السوري، خاصّة أن تلك الحملات وصلت في بعض الحالات إلى مواجهات وعراك مع المدنيين، ما استدعى تدخل قوات الأمن العام التابع للإدارة السورية الجديدة.

حملات دعوية بأساليب مختلفة

مؤخراً، انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع مصوّرة تُظهر أشخاصاً يجوبون بالسيارات حيّ القصاع ذو الغالبية المسيحية في دمشق، ويدعون الناس إلى اعتناق الدين الإسلامي، إضافة إلى ترك التدخين والفصل بين الجنسين، ما تسبب بمشاجرة بينهم وبين أبناء الحيّ، ما استدعى تدخل قوات الأمن العام لإنهاء المسألة التي كادت تتحول إلى حادث خطير.

وتداول ناشطون مقطع فيديو آخر لشخص يحمل القرآن ويجوب حي باب توما ذو الغالبية المسيحية في دمشق، داعياً الناس إلى الدخول في الإسلام. إضافة إلى ذلك، انتشرت ملصقات على بعض الجدران في العاصمة السورية تدعو إلى ارتداء الحجاب واللباس "الشرعي" المحتشم والفضفاض، وتضمنت الملصقات شروط الحجاب مثل: "أن يكون ساتراً لجميع البدن"، و"ألا يشبه لباس الرجال أو الكافرات"، و"ألا يكون معطراً". 

الجدل الذي أثارته الملصقات في الشوارع دفع البعض للردّ بحملة مُضادّة بعنوان "لباس المرأة الحرّة"، حيث تضمنت الحملة شروط "اللباس الحرّ"، ومنها: ألا يكون مفروضاً على المرأة، وأن يُشعرها بالثقة والراحة، وأن يكون باختيارها ورغبتها الكاملة.

الحملات الدعوية التي تبدو منظمة في كثير من الأحيان، أثارت جدلاً كبيراً وانتقادات كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث اعتُبرت نوعاً من الضغط الاجتماعي والديني، وتجاهلاً للطوائف الأخرى واتهام نسائهنّ بالكفر، كما أثارت المخاوف عند البعض من تأثير الحملات على التنوع الاجتماعي والهوية الثقافية السورية، التي كانت طوال سنوات تعتمد على التنوع والاندماج بين كافة أطياف الشعب ومكوناته.

لم تقتصر الملصقات الدعوية على الجدران فقط، حيث عمد البعض إلى توزيع دعوات مشابهة داخل وسائل النقل العامّة، وفي هذا السياق نشرت الناشطة السورية نوارة سلمان عبر صفحتها في فيسبوك ورقة دعوية حصلت عليها خلال رحلتها من دمشق إلى اللاذقية، تتضمن مجموعة من الفتاوى التي تحرّم الغناء، وقالت في منشورها: "رحلة بولمانية أخرى من الشام إلى اللاذقية، لكن هذه المرة لم تكن مجرد تنقل بين مدينتين، بل قفزة عبر الزمن إلى حقبة الفتاوى المحمولة براً، ولحسن حظي، لم أكن أعتلي غيتاري على كتفي، وإلا لربما انتهى بي المطاف على لائحة المحروقين مع الآلة الموسيقية المحترقة في الصورة".  

وأضافت سلمان: "لم أكن أدري أن إحدى الأزمات التي تواجهها البلاد هي نوتة موسيقية هائمة، وهذه الصورة على البروشور ليست اعتباطية؛ النار ليست فقط لمن يعزف، بل ربما لمن يستمع، ومن يصفق، ومن يتنفس بنغمة غير معتمدة؛ في المرة المقبلة، سأحرص على ألا أحمل معي إلا صمتاً منضبطاً وموسيقى في رأسي، فمن يعلم؟ قد تصبح الأفكار الموسيقية ذاتها جريمة تستحق الفتوى".

الأخطاء الفردية متواصلة

برغم تأكيد الإدارة السورية الجديدة في أكثر من مناسبة رغبتها في ضبط الأمن والحفاظ على السلم الأهلي، إلا أن ذلك لم يمنع استمرار الانتهاكات في قرى وأرياف حمص وحماة وطرطوس، حيث أكدت مصادر محلية إقدام عناصر مسلّحة على قتل مدنيين والتنكيل بهم واعتقال آخرين لدواعٍ انتقامية، تزامناً مع الحملات الأمنية التي تشنها قوات الإدارة الجديدة في تلك المناطق تحت عنوان "ملاحقة فلول النظام البائد".

وفي هذا السياق قال "المرصد السوري" إن مسلحين تابعين للإدارة الجديدة في سوريا نفّذوا نهاية الشهر الماضي 35 عملية إعدام بإجراءات موجزة خلال 72 ساعة، في أرياف حمص وسط البلاد، كما تم توثيق عشرات الاعتقالات بعد الانتهاكات الجسيمة والإعدامات الميدانية وإهانة العشرات من الأقلية العقائدية.

كما أكد المرصد أن "مسلحين محليين من الأكثرية العقائدية في سوريا، يقومون بعمليات انتقامية وتصفية حسابات قديمة ضد أبناء الأقلية العقائدية، بدون الرجوع إلى القانون، مستندين على حالة الفوضى وانتشار السلاح، وتقرّبهم من إدارة العمليات العسكرية"، وشملت الانتهاكات "تنفيذ حملات اعتقال عشوائية طالت عشرات الأشخاص، وإهانتهم وإذلالهم بطريقة بشعة"، فضلاً عن "الاعتداء على رموز دينية، في خرق واضح للقيم الإنسانية، وجرائم التنكيل بالجثث، والإعدامات الميدانية، وعمليات القتل الوحشية التي طالت عدداً من المدنيين، في مشاهد تعكس مستوى غير مسبوق من القسوة والعنف".

المقاطع المصوّرة التي توثّق الانتهاكات في قرى ريف حمص انتشرت بشكلٍ كبير على مواقع التواصل الاجتماعي، قبل أن تعلن الإدارة الجديدة في البلاد اعتقال عشرات العناصر من الفصائل التي شاركت في الانتهاكات، ونقلت وكالة الأنباء السورية الرسمية "سانا" عن السلطات أن "مجموعة إجرامية استغلت هذا الظرف لارتكاب تجاوزات بحق الأهالي، منتحلة صفة أمنية".

وعن الانتهاكات المتواصلة في بعض المناطق السورية، يؤكد الحقوقي فخر السالم للميادين نت أن الإدارة السورية الجديدة تبدو إلى اليوم عاجزة عن السيطرة على بعض الفصائل المنضوية تحت لوائها، بدليل استمرار الانتهاكات في ريفي حمص وحماة منذ سقوط نظام بشار الأسد قبل شهرين، وبرغم إعلان الإدارة موافقة جميع الفصائل على الانخراط ضمن صفوف الجيش السوري الجديد، وهذا الأمر يفرض على قادة الحكم كبح جماح الفصائل المتمردة، لأن استمرار ما تقوم به يعني انفجار الوضع الأمني مجدداً في البلاد.

ويضيف السالم أن الإدارة السورية الجديدة قامت بخطوات عديدة لتحسين الواقع المعيشي للسوريين خلال الفترة الماضية، إلا أنها بالمقابل تحتاج إلى وقف خطوات عملية لوقف انتهاكات بعض الفصائل بحق المدنيين في ريفي حمص وحماة لتثبيت نظام حكمها، وتأكيد رغبتها بتحويل الأفكار والشعارات التي رفعتها إلى أفعال مترجمة على أرض الواقع.

خلال الفترة الحالية، يبدو تقدم الإسلام السياسي في سوريا الجديدة مفهوماً، بحكم أن بعض الفصائل المسيطرة على المشهد العام في البلاد والتي انخرطت مؤخراً ضمن الجيش السوري المُراد تشكيله، تنتمي إلى مرجعية متشددة، إلا أن الحملات الدعوية المتواصلة في أكثر من مدينة، والانتهاكات المستمرة تحت غطاء "الأخطاء الفردية"، تفرض على الإدارة السورية الجديدة تحديات كبيرة في حماية الأقلّيات والحريّات الدينية، واحترام التعايش السلمي والتنوع الديني في بلدٍ لطالما عُرِف باعتداله وتنوعه وتماسك أبنائه.