نساءٌ سوريّات في "مهن رجال".. كيف تكسر السوريات تابوهات سوق العمل؟
أعمال قاسية وشاقة اختارت نساء سوريات أن يخضن فيها، من جراء الوضع الاقتصادي المتردي في البلاد، وآثار الحرب وما ترتبت عليه من ظروف على العائلات.
اضطرت نساءٌ سوريات، عشنَ ويلات الحرب، للعمل في مهن مختلفة لم يعتَد عليها المجتمع السوري. أعمال قاسية وشاقة وبعضها يحتاج جهداً عضليّاً كبيراً، لكن عندما يكون الحِملُ ثقيلاً، ستجدها قادرة على مجابهة ظروفها الصعبة.
منال عبد الرحمن (47 عاماً)، إحدى النساء السوريات المكافحات، متزوجة ولديها خمسة أولاد، اضطرت للعمل بعد أن تعرّض زوجها لحادث سير عام 2002 وأصيب نتيجته بشلل وعجز تام، وبقي على وضعه إلى أن توفي منذ ثلاث سنوات، حسبما روت لـلميادين نت.
بعد حادث زوجها لم يكن أمامها سوى الاعتماد على نفسها لتأمين معيشة أطفالها، بداية في زراعة البيوت البلاستيكية بأجر يوميّ، وبعدها في صنع المناقيش وبيعها، لينتهي بها الحال إلى "جلي البلاط"، مشيرة إلى أنها دخلت هذا المجال بشكل تدريجي، وعندما رأى صاحب العمل إصرارها وأنها تملك قدرات جسدية لمثل هذه الأعمال، بدأ بتعليمها كيفية الإمساك بـ"الجلاية" والتعامل معها، وتدربت تحت إشرافه لمدة خمس سنوات إلى حين أتقنت المصلحة. ثم بعد أن قطعت أشواطاً طويلة في العمل، توجهت إلى "الجمعية السورية للتنمية الاجتماعية"، خضعت فيها لدورة تدريبية ونجحت بالمشروع، وقد أصبحت تمتلك جلاية بلاط ومولدة كهرباء خاصة بها لزوم العمل.
ووجهت منال عبد الرحمن رسالة إلى النساء السوريات قائلة: "لا مستحيل في الحياة مهما كانت الظروف صعبة، فمع الإرادة والتصميم تصل المرأة إلى هدفها من أجل ألا تكون عالة وعبءً ثقيلاً على أهلها أو زوجها. ليس بالضرورة أن تعملَ في أعمالٍ شاقة، لكن المهم أن تعمل في مجالٍ تحبه، لأن من يحب عمله سوف يتقنه ويبدع فيه". وأكدت أن هذا العمل الشاق الذي يمارسه الرجال لم يفقدها أنوثتها.
سائقة لباص مدرسة
عائشة موصلي تعمل سائقة باص صغير تقلّ فيه طلاب الحلقة الأولى من إحدى مدارس "حي الميدان" الدمشقي الشهير، تعمل في هذه المهنة منذ خمس سنوات تقريباً، متزوجة ولديها طفلتان.
تقول موصلي لـلميادين نت إن ظروف معيشتها كانت السبب في رغبتها بهذا العمل، برغم أنه عملٌ مستهجنٌ وغير معتاد أن تمارسه النساء في دمشق، وترى أنها تفعل ذلك كمساعدة لزوجها الذي يعمل هو الآخر سائق طلبات عامة في فترة بعد الظهر.
"فرضت الظروف الاستثنائية التي تعيشها سوريا النظر إلى كل الأشغال على نحو متساو، فلم يعد هناك فرق بين عمل الرجل والمرأة، وذلك من أجل تأمين لقمة العيش والاستمرار في الحياة، إلاّ أن بعض الناس ما زالوا يفكرون بطريقة متعصبة تعتبر أن مثل هذه المهنة (السواقة) هي للرجل حصراً".
انتقادات مزعجة
تتعرض عائشة كغيرها ممن امتهنّ أعمالاً تشتهر أنها للرجال إلى انتقاداتٍ من محيطها الأقرب، خاصة أنها من بيئة ملتزمة أو محافظة، لذلك تسمع يومياً عبارات مثل: "روحي خلّي جوزك يشتغل بدالك، هاد الشغل مو إلك"، وغيرها من العبارات الجارحة وغير المنصفة، لكن ما يجعلها مطمئنة وغير مكترثة لما يقال حولها هو أن زوجها كان الشخص الوحيد الذي لم يعارض عملها، بل ساندها وعلّمها القيادة وشجعها على الاستمرار، لأن السيارة ملك لهما ومن الأفضل استثمارها لما فيه منفعة لعائلتهما بدلاً من تركها للصدأ.
وتلفت عائشة إلى أنها اختارت هذه المهنة لكون التعامل فيها مع أطفال صغار، وهذا ما جعلها مرتاحة نفسياً، وزاد من ثقتها بنفسها، وشعرت بكيانها ووجودها النافع، خاصة وأنها -حسبما تقول- كانت ذات شخصية خجولة وضعيفة نوعاً ما، مضيفةً: "إن أهالي الأطفال يشعرون بأمان مطلق لأن من تتولى توصيل أطفالهم هي سيدة، تكون عادة أكثر حرصاً وهدوءاً في التعامل مع الأطفال".
بائعة في الشوارع
لكل امرأة سورية حكاية خاصة بها، لكن يبدو أنهنّ يتشابهن بقاسمٍ مشترك هو ظروف المعيشية الصعبة بعد حربٍ شرسة.
تقف الحلبية آية غانم (26 عاماً) خلف عربة وسط شارع باب الفرج، تبيع فيها مشروبات ساخنة (شاي-قهوة-كابيتشينو- زهورات) منذ أربع سنوات، تتحمل فيها حرارة الصيف وبرد الشتاء ونظرات الناس.
وتقول: "عائلتي مكونة من ثماني بنات، أصغرهن في عمر 11 سنة، وهناك أخت مريضة أصيبت أثناء زلزال شباط/فبراير عام 2023، ولدي أخٌ وحيد استشهدَ مع والدي عندما أصابتهم قذيفة عام 2016. تعرضتُ لمضايقات من زعران الطريق، لكني لم أهتم بما سمعته من تجريح، من مثل: روحي تزوجي أحسن من هالشغل لبنت بعمرك، أو هذا شغل صبيان دوّري ع شغل تاني. لكن في المقابل هناك من شجعني طالما أن هذا العمل يمنعني من مد اليد إلى الناس".
تفعيل منظومة الإرشاد المهني
في هذا السياق، يقول الباحث في القضايا النفسية والاجتماعية حسام الشحاذة للميادين نت إنه غالباً ما يُشار إلى ظاهرة عمل المرأة في أشغال شاقة بطريقتين: "من الناحية السلبية، إذ تضعُ هذه المهن الشاقة أعباءً ثقيلةً على المرأة، وتهدد صحتها النفسية والجسدية وارتباطها الاجتماعي مع أطفالها وباقي أفراد الأسرة، أمّا الناحية الإيجابية فهي تمكّنها من أن تكون مكتفية مادياً ومستقلة اجتماعياً واقتصادياً بحيث لا تلجأ إلى التسول أو استجداء عطف الغير، وهي تعكس مفهوم التضحية وتحمل مسؤولية إلى جانب الرجل.
ويرى الشحاذة أنه أصبح من الضروري - بعد انتشار هذه الظاهرة - تفعيل منظومة "التوجيه والإرشاد المهني" للمرأة الراغبة بالعمل من جهة، ولبعض شرائح المجتمع من جهة أخرى، إذ لا زالت البرامج الموضوعة من قبل الجهات المعنية شبه غائبة عن وسائل الإعلام المحلية، ولا توجد مراقبة دقيقة للحراك الاجتماعي تجاه هذه الظاهرة، أو سعيٌ لوضع حلول، ثم العمل على تفعيلها، متسائلاً: "هل وُضِعت خططٌ وبرامج للتوجيه والإرشاد المهني لكافة شرائح العاطلين عن العمل؟ وما هي نسب نجاحها؟".