عاشوراء في العراق: الحزن الجماعي يخرج فردياً من البيوت إلى مواكب العزاء
مع بداية شهر محرم من كل عام تتشح شوارع عدد من المدن العراقية بسواد رايات الحسين، تعبيراً عن الحزن الجماعي بمناسبة عاشوراء، وتتمظهر طقوس عاشوراء باللطم ومجالس العزاء أو إقامة الولائم ثواباً وتصدّقاً على مقتل الحسين.
مع بدء شهر محرم يكسو شوارع المدن العراقية سواد رايات الحسين بألوانها المألوفة، رايات سود وأخرى خضر وحمر، كل تلك الفعاليات تعبّر عن الحزن الجماعي المتجدد في مناسبة عاشوراء.
على سطوح البيوت، ترفع كل أسرة رايتها حداداً على استشهاد الحسين بعاطفة شعبية خالصة، لا يعنيها أن الحسين قتل في العاشر من محرم، فهي تندبه من أول شهر محرم حتّى العشرين من صفر.
اللطميات والنعي الحسيني تسمعهما أنّى ذهبت، في البيوت والحسينيات، وحتى في سيارات الأجرة. صوت الحسين يمتد مع كل خطوة، ويدخل كل بيت.
عاشوراء تلك الليلة التي ينتظرها المسلمون على أحرّ من الجمر، جمر الخيام الحسينية التي أحرقت صباح العاشر من محرم. حسينيون وزينبيات هكذا يقتسمون الشيعة أدوارهم، يسود حزن خالص يجمعهم على اختلاف طبقاتهم، فتجد العمال الكادحين والتلاميذ الصغار والأساتذة والأطباء في موكب واحد.
الجميع يعبّر عن عاطفته على طريقته الخاصة، سواء باللطم أو إقامة الولائم ثواباً وتصدّقاً على مقتل الحسين، والوليمة غالباً ما تكون "تمّن وقيمة" والتمّن هو الرز، أما القيمة فهي حمص مجروش مع لحم غنم، وقد تختلف الطبخة من مدينة إلى أخرى اختلافات طفيفة.
وعن سر تلك العاطفة الشعبية الأبدية تجاه الحسين، يصرّح الشيخ محمد الحميداوي لـلميادين نت فيقول: "يمثل الحسين خط الثورة والتضحية في تاريخ المذهب الشيعي، فالشيعة على مر التاريخ كانوا ثائرين ومخيرين بين السلة والذلة، لذلك شكل الحسين مصدر إلهام لهم".
ويكمل الحميداوي وهو أستاذ في حوزة النجف: "الحسين بالنسبة إلى الشيعة متنفّس لأحزانهم وأوجاعهم. وأبرز المؤثّرات في البناء الأدبي للشيعة هي قضية كربلاء وحزن كربلاء، ولاسيما في العراق، إذ شكّلت هذه القضية رفداً مهماً لبناء الوجدان العاطفي بكل تمظهراته الأدبية والشعبية، شعراً ونثراً على اختلاف مستوياته الفنية".
مواكب حسينية في الأزقة والبيوت
كل بيت شيعي يغدو موكباً حسينياً، فهو مفتوح لخدمة الحسين وخدّامه على حد سواء، تقدّم كلّ أسرة عراقية جلّ ما تملكه من أجل هذا الرأس الدامي، الذي رفعته رماح أعداء معسكر الحسين يوم العاشر معلنة انتصاره. فيتشرفون بأن يسموا أنفسهم خداماً بسبب أن الحسين قد ضحّى بدمه وأسرته.
وعلى مر الظروف التاريخية فإن الشيعة واصلوا إحياء هذه الذكرى في عصور الخوف والقتل والمطاردة، لم تستطع أي سلطة مع بطش ممارستها منعهم من التعبير عن مشاعرها الجياشة، لا أحد يستطيع أن يمنع الدموع من أن تسيل.
في كل زقاق ستصادفك خيمة تقدّم الشاي والكعك للمارة، وصوت الملا باسم الكربلائي يصدح، إنه أحد أشهر الأصوات التي جسّدت المأساة الحسينية بكل تفاصيلها.
يسمّي الشيعة هذه الخيمة موكباً، ويجري تجهيز إمكاناتها المادية والمعنوية على مدى عام استعداداً لتلك الأيام، فضمن استطلاع الميادين نت يرى صاحب موكب "الإمام علي" في مدينة واسط، وقد طلب أن يسمّي نفسه "خادم الحسين"، أنّ "هناك مواكب حسينية فردية، أي إنها تقام بجهود أسرة واحدة تقرّر منذ بدء السنة جمع أموال طوال العام، وهذه الأموال التي تجمع في صندوق يدعى صندوق الحسين ترصد سلفاً لهذا الموكب، وثمة مواكب جماعية تشترك فيها عوائل عدة يجمعها رابط ما، كأن تكون متجاورة أو بينها صلة قرابة".
ويلفت "خادم الحسين" الذي رفض الكشف عن اسمه "قربة للحسين": "في قلوب المؤمنين حرارة لا تبرد أبداً، ومن هنا نجد أن العوائل تتسابق لتقديم كل السبل المتاحة، وكل بحسب ما يتيسر له من إمكانات فداءً للحسين، وهي أيضاً تؤمن أن كل ما يبذل في سبيل الحسين ينمو، سواء أكان المبذول مالاً أم دماً".
تظل هذه المواكب مفتوحة ليلاً ونهاراً، فالعزاء قائم، وهي تبدو أشبه بنقاط التقاء للعوائل، وهناك خيم للرجال، وأخرى للنساء أيضاً، في القرى والأرياف. وفي المدن تستعين النسوة بنادبة تُسمّى "الملاية" والكلمة مؤنث "ملا" تستذكر هذه السيدة مقتل الحسين بلطميات شعبية، تسمّى "الردات" لكونها تؤدي اللطمية وسط ترديد النسوة معها.
على اختلاف أعمارهنّ تلطم النسوة رؤوسهن وصدورهن مع دبكة ضاغطة على الأرض، وهن يردّدن بصراخ أوبراليّ جماعي منظم: "يعباس جيب الماي لسكينة". أو: "عباس اكعد شنو هالنومة/ نايم وعيالك مهضومة"، والهضم هو غاية الحزن والهم في اللهجة العراقية.
وتستمر تلك المجالس الحسينية كل ليلة حتى تجيء الليلة المنتظرة، ليلة عاشوراء.
ليلة عاشوراء: عناق ووداع في اللحظة نفسها
إنها ليلة عاشوراء، التي جمع الحسين أنصاره فيها طالباً إليهم أن يتخذوا الليل جَمَلاً ليلاقي مصيره منفرداً، لكن أصحابه قدّموا أرواحهم الواحد تلو الآخر في مشهد إيثار لم يشهد له التاريخ الإنساني مثيلاً.
الدموع لا تكفي، هذا ما يعتقده المسلمون الذين يحيون الليلة من دون إغماضة عين، يبكون الحسين على امتداد ساعات الليل حتى تسمّى الليلة "المحية" بحسب التعبير الشعبي.
الرجال والنساء والأطفال يحيون هذه الليلة بالصلاة والبكاء واللطم بـ"الزناجيل" أي بالسلاسل الحديدية والأيدي حتى بزوغ الفجر موعد إعداد الهريسة، تلك الأكلة الشعبية التي تقدّم في صباح العاشر من محرم، وهي عبارة عن حمص مطحون مع رز ودجاج أو لحم. يروي المخيال الشعبي الشيعي أن السيدة زينب، شقيقة الإمام الحسين، في يوم العاشر لم تكن تملك وقتاً للطبخ فطبخت هذه الأكلة السريعة للصغار الذين نجوا من القتل في الطف.
بحلول الساعة الثامنة صباحاً تقام التشابيه في الساحات الفارغة أو في الحدائق حيث في كل مدينة أكثر من رابطة منظمة، تعد هذه التشابيه أشبه بمسارح صغيرة تُجسّد فيها واقعة الطف، فيؤدي كلّ ممثل دوره الخاص به، والمشهد يقترن بصوت "ملا" وهو يقرأ المقتل شارحاً الحركات، التي يؤدّيها الممثّل وسط جمهور من النسوة والرجال والأطفال.
ويبين الممثل الشاب منتظر العبدلي لـلميادين نت إمكانات هذا المسرح الحسيني، قائلاً: "يبدأ الاستعداد قبل شهر محرم للدور فتُجهّز مستلزمات الموكب الخاصة بالتشابيه من ملابس وخيام وسيوف ورماح، وتتوافر لدينا ورشة مخصّصة لصنع الدروع من الجلد والملابس اللازمة لجيش الحسين والجيش الأموي أيضاً، وتوزّع الأدوار مسبّقاً كي يتمرّن الممثلون عليها".
ويقول العبدلي الذي يسند إليه دور الحر بن يزيد الرياحي غالباً: "في صباح العاشر من محرم تبدأ التشابيه ليؤدي كل ممثل الدور المناط به، وبعد انتهاء المعركة يحرق الجيش الأموي الخيام وسط بكاء النسوة، وفي نهاية المعركة وبعد عودة الناس إلى بيوتهم، تفرغ الساحات فنجمع المستلزمات ونخزّنها لاستعمالها في العام المقبل".