أرض السنوار والثوّار.. هذه حكاية المجدل عسقلان

بعد أن بات يحيى السنوار رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، ازداد أهالي المجدل، التي ينحدر منها السنوار، اعتزازاً بـ"يباسة" رؤوسهم، وتاريخهم الثوري.

  • أرض السنوار والثوّار.. هذه حكاية المجدل عسقلان
    أرض السنوار والثوّار.. هذه حكاية المجدل عسقلان

في حوار قبل معركة "طوفان الأقصى" بأعوام مع صديق من غزة، سألته: "مين اللي روسهم أيبس بغزة"، فكان جوابه: "المجادلة". والمجادلة كلمة تشير إلى أهالي بلدة مجدل عسقلان المهجَّرة من قضاء غزة، والذي كان يضم نحو 50 قرية، يُشكّل أهلها، مع جزء من أهالي قضاء بئر السبع والرملة، أكثر من 60% من أهالي قطاع غزة الحاليين. 

اليوم، بعد أن بات يحيى السنوار رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، ومن يصفه الاحتلال بمهندس "طوفان الأقصى"، الرقمَ الصعب في المعركة، وحديث مئات الآلاف من الفلسطينيين والعرب ومناصري القضية الفلسطينية، ازداد أهالي المجدل، التي ينحدر منها السنوار، اعتزازاً بـ"يباسة" رؤوسهم. فما هي حكاية المجدل، إحدى وريثات عسقلان، ومصنع رجال فلسطين، الذين يخوضون المعركة الأكبر منذ النكبة؟

وريثة عسقلان 

عند ساحل البحر الأبيض المتوسط، على بعد 21 كم عن مدينة غزة، كانت توجد مدينة من أقدم المراكز الحضارية في فلسطين، هي مدينة عسقلان، التي بُنيت في العصر البرونزي، وسكنها الكريتيون، "الفلسطينيون"، والتي سُمِّيت فلسطين على اسمهم. وكانت مدينتهم الوحيدة المطلة على الساحل، كما أورد مصطفى مراد الدباغ في كتابه "بلادنا فلسطين". وخلال فترة الحكم البيزنطي لفلسطين، كانت عسقلان من أهم مراكز فلسطين، وحافظت على تلك المكانة بعد الفتوحات الإسلامية. ولأن عسقلان من أهم المدن الساحلية في فلسطين، تعرّضت للاحتلال الإفرنجي خلال الحروب الصليبيّة، في وقت مبكّر. وبعد تحرير صلاح الدين للمدينة من الاحتلال الإفرنجي في عام 1187، اضطر صلاح الدين إلى إخلائها وتخريبها بعد عودة الإفرنج إلى احتلال عدد من مدن الساحل الفلسطيني، وحصار عسقلان. وبعد خراب عسقلان، تحوّلت إلى عدد من البلدات، أبرزها الجورة والمجدل. والمجدل هي البلدة المجاورة لما تبقّى من قلعة عسقلان التاريخية.

ومن المرويات التاريخية بشأن عسقلان ما ذكره مجير الدين العليمي في كتابة "الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل"، بشأن وجود ضريح لرأس الإمام الحسين في عسقلان. وبقي الضريح في المدينة حتى حمله الفاطميون إلى القاهرة، خلال فترة الحروب الصليبية. 

المجدل عسقلان.. مجدل فلسطين 

تعني كلمة المجدل، في اللغة الآرامية، البرجَ المشرف أو الموقع الحصين. لذلك، وُجد في فلسطين عدد من البلدات التي حملت اسم المجدل، مثل قرية المجدل، قرب طبريا، وخربة المجدل الواقعة إلى الشمال الغربي من طولكرم. ويرى الباحث الفلسطيني علي حبيب الله أنّ المجدل استعارت اسمها من قلعة عسقلان التاريخية التي جاورتها. ويقول للميادين نت: إن "هذا هو الرابط السحري بين المجدل الابنة وعسقلان الأم". ووُجدت القرية في صورتها المعاصرة في عصر المماليك، بعد تحرير ساحل فلسطين كاملاً من الاحتلال الإفرنجي، كما يفيد الباحث الفلسطيني.

وترى الباحثة الفلسطينية المجدلية، أماني السنوار، أنّ تسمية مجدل عسقلان بهذا الاسم جاءت من أجل تمييزها من سائر القرى الفلسطينية، التي كانت توجد قرب قلاع تاريخية، كمجدل بني فاضل ومجدل طبريا وغيرهما. وتقول السنوار إنه "بخلاف ما يتوهم الناس، فإنّ المجدل تقع في قلب موقع مدينة عسقلان التاريخية، ويحيط بها عدد من القرى التي تقع عند أطراف عسقلان، كالجورة وبلدة حمامة، وحتى بلدة الفالوجة. وفي المجمل، تتبع هذه القرى مركزاً حضرياً واحداً، هو المجدل". 

أمّا الموقع الجغرافي لمجدل عسقلان، أو المجدل كما يعرفها أهلها، فتحدها من الشرق قرية عراق سويدان، ومن الشمال قريتا جولس وحمامة، بينما تحدها من الجنوب قرى نعليا وبيت طيما والجورة، التي تعرف أيضاً بجورة عسقلان. ويقول عبد الرحيم حسين، في كتابه "المجدل وعسقلان"، ضمن سلسة "قصة مدينة"، الصادرة عن دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية عام 1986، إنّ موقع المجدل يُشكّل عقدة مواصلات استراتيجية. فالقرية تقع في طريق يربط بين أقضية غزة والخليل وبئر السبع، كما أنها تقع في الطريق الساحلي الفلسطيني، الواصل بين شمالي فلسطين وجنوبيها. وتُطلّ المجدل على الساحل، لذلك، فإنّ السيطرة على المجدل لها أهمية استراتيجية عالية. 

المجدل.. عائلاتها الأربع وعادات أهلها 

درجت العادة، في القرى الفلسطينية قبل النكبة، على تقسيم القرية، بحسب أبرز العائلات فيها. ففي قرية المجدل، قُسّمت القرية بين عائلات: المدهون وزقوت وشقور وأبو شرخ. وهي العائلات الرئيسة فيها. ومن عائلات القرية أيضاً: العالول ونتيل ودهمان والسنوار والحاج أحمد، وفق  الباحث والكاتب إبراهيم المدهون.

أمّا أول مجلس بلدي للمجدل فأُنشئ في عام 1920. وكانت القرية من أهم قرى قضاء غزة، وكان فيها دائرة للصناعات الخفيفة، ومن أبرزها صناعات النسيج.

ويقول الباحث والكاتب زهير الدبعي إن "المجدل كانت من أهم المراكز الحضارية في جنوبي فلسطين وقضاء غزة قبل النكبة. فكان فيها محطة للتجارب الزراعية، وبنك يدعى بنك الأمة العربية. ومن أبرز معالم المجدل مسجدها التاريخي الجميل، والذي يعود بناؤه إلى العصر المملوكي". 

كانت المجدل أكثر من قرية وأصغر من مدينة. لذلك، من الأصح تسميتها بالبلدة، وفق ابنة المجدل أماني السنوار، واصفة الحال فيها قبل النكبة بأنها كانت تظهر عليها مظاهر التمدن، فكان فيها المدارس والمستوصفات، خلال فترة الاحتلال البريطاني، وقبل ذلك خلال نهايات فترة الحكم العثماني. 

ويقول الحاج أبو يحيى السنوار (وهو ليس والد القائد يحيى السنوار)، والذي يقطن اليوم في معسكر دير البلح في قطاع غزة، إنّ أهل المجدل عُرفوا، منذ القدم، بأنهم أصحاب حِرْفة وإتقان في العمل، فـ"المجادلة صاحيين وقرشهم عزيز ما بحطوه إلا بمكانه، والمجدلاوي إذا حط براسو شغلة بعملها وبوصل لها". أمّا الحاج أبو طارق زقوت فيقول إن "المجادلة عقولهم جصّ، وبغالبيتهم تجار وفي منهم صيادين أباً عن جد". 

ومن الحِرَف التي أتقنها المجادلة، كما روى كل من والد أماني السنوار وجدّها لها، تربية النحل والعسل، إذ كان المجادلة من أهم النحّالين في فلسطين. أمّا عائلة السنوار في المجدل فكانت أشهر العائلات المشهورة بصناعة النسيج والنول. وتقول: "كان جدّي، رحمه الله، يمتلك مدرسة متخصصة بتعليم حِرفة صناعة النسيج في المجدل، قبل النكبة". ويشير إبراهيم المدهون إلى أنّ مجموعة من عائلات المجدل بادرت بعد النكبة إلى إنشاء مصانع النسيج. 

وبحسب تقديرات أماني السنوار، فإنّ تعداد الفلسطينيين في المجدل قبل النكبة كان يتراوح بين 10 آلاف و12 ألفاً، وهو رقم كبير جداً مقارنة بمعظم القرى والبلدات الفلسطينية، إذ كانت المجدل شبه مدينة. 

المجدل بين الاحتلال والمقاومة 

كان التاسع من شهر كانون الأول/ديسمبر من عام 1917 تاريخاً فارقاً في تاريخ المجدل بعد أن احتلتها القوات البريطانية، كما احتلت مدن فلسطين كافة، وعملت على تنفيذ مخططات المشروع الصهيوني على أرضها. وبحسب ما خلص إليه الباحث عبد الرحيم حسين، فإنّ الحركة الصهيونية لم تنجح في شراء دونم واحد من الأرض من أهالي المجدل، لكن سلطات الاحتلال البريطاني ساعدت الحركة الصهيونية على تطويق المجدل بعدد من المستوطنات، مثل "نجبا" و"ياد مردخاي" و"نيت سانيم". 

وفي الوقت ذاته، كانت المجدل من أوائل البلدات، التي انخرطت في مختلف أشكال المقاومة للاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية. ويورد حسين، في كتابه "قصة المجدل وعسقلان"، مشاركة أهالي المجدل في دعم ثورة البراق في عام 1929 بمبلغ 40 ألف جنيه، وهو مبلغ يُعَدّ من أكثر المبالغ التي قدمتها المدن والبلدات الفلسطينية من أجل دعم الثورة. وخلال الثورة الفلسطينية الكبرى، برز اسم عمران شوشر قائداً عسكرياً لفصيل الثوار في المجدل، واستُشهد خلال الثورة نفسها. 

وخلال النكبة في عام 1948، خاض أهالي المجدل معارك ضارية ضدّ العصابات الصهيونية، ومنهم من كان يخوضها في القرى المجاورة دفاعاً عنها، وهم منضوون تحت لواء قوات المتطوعين الرديفة للجيش المصري. ومن تلك المعارك ما عُرف باسم معركة "عراق سويدان".

وفي كتابه "المجاهدون في حرب عام 1948"، أشاد محمد طارق الأفريقي، قائد منطقة المجدل العسكري، بروح الجهاد لدى سكان قضاء المجدل ووطنيهم واندفاعهم إلى بيع مصاغ نسائهم من أجل شراء الأسلحة. 

تهجير أهل المجدل وحلم العودة القريب 

على خلاف الصورة النمطية، التي يمكن أن ترد إلى أذهان البعض، لم تكن المجدل من أُولى المدن التي سقطت في يد الكيان الصهيوني، لكن الواقع يقول غير ذلك، إذ إنّ الاستهداف الإسرائيلي للمجدل بدأ بعد عدة أشهر من إعلان قيام الكيان الإسرائيلي في الخامس عشر من أيار/مايو 1948، وتحديداً في الشهر الـ 11 من العام نفسه، وقبيل الهدنة بعدة أشهر. وتُقدِّر الباحثة أماني السنوار أنّ سبب استهداف المجدل يعود إلى رغبة الاحتلال الإسرائيلي في تشكيل منطقة عازلة بين مدن الساحل الفلسطيني المحتلة ومدينة غزة، وأيضاً نتيجة رغبة الصهاينة في تهجير المجادلة بسبب شدة مقاومتهم للعصابات الصهيونية في معارك جنوبي فلسطين.

وعلى الرغم من ذلك، فإن كل أهل المجدل لم يهاجروا، خلال عام 1948. وتقول السنوار إنّ عائلتها بقيت في المجدل حتى عام 1950. وخلق بقاء عدد من العائلات في المجدل أزمة لدى الكيان الصهيوني.

توزع أهالي المجدل عقب النكبة على عدد من المخيمات في قطاع غزة. وبحسب ما يفيد به الحاج أبو طارق زقوت، فلقد توزع أهالي المجدل على مخيمات جباليا والشاطئ شمالاً، ودير البلح في الوسط، وخان يونس جنوياً، حيث وُلد القائد يحيى السنوار. 

اليوم، بعد أكثر من أكثر من 76 عاماً على تهجير أهالي المجدل، وبعد تفجر معركة طوفان الأقصى، يروي علي المدهون مشاعره مع صبيحة يوم معركة "طوفان الأقصى"، ويقول: "في يوم العبور العظيم، فاضت عيون المشتاقين دمعاً للتجسيد الحقيقي لمشهد العودة الكبرى. مشهد أفاق الجميع من خيبته، وكرّس حقيقة، مفادها أن الكيان قابل للزوال، وأنه مجرد وحش من غبار. فأهالي المجدل باتوا على بُعد خطوة عن حلم العودة، الذي نسأل الله أن يكون قريباً جداً".