بين المارينز وأصحاب الياقات: الدور الأميركي في لبنان من التدخل العسكري إلى الضغط الدبلوماسي
منذ إنزال المارينز عام 1958 حتى اليوم، اتخذ الدور الأميركي في لبنان مساراً ثابتاً: دعم حلفاء واشنطن، تأمين مصالح إسرائيل، والضغط لتقييد المقاومة.
-
لم يكن الحضور الأميركي في لبنان يوماً إلا دعماً وإسناداً وغطاءً للأهداف والمصالح الإسرائيلية
لم تكن واشنطن يوماً مجرّد وسيط في لبنان. فمنذ أول إنزال لقوات "المارينز" على شواطئ بيروت عام 1958، بدا جلياً أن الدولة الأقوى في العالم لا تتدخل في الشأن اللبناني إلا حين تهتز مصالحها، أو حين تشعر بأن أمن حليفتها "إسرائيل" على المحك.
تحت عناوين مختلفة، من "حماية الاستقرار"، إلى "منع الانهيار"، إلى "دعم الديمقراطية"، تعددت الأدوار الأميركية في الساحة اللبنانية، لكن القاسم المشترك بينها ظل ثابتاً: لبنان ساحة لا دولة، وملف لا شعب.
لم يكن الحضور الأميركي في لبنان إلا امتداداً لصراع على النفوذ الإقليمي، يُديره البيت الأبيض بعينٍ على "تل أبيب" لا على بيروت.
في هذا التقرير، نستعرض محطات مفصلية في مسار التدخل الأميركي في لبنان، من العام 1958 حتى عامنا هذا، لنكشف كيف تنوّع هذا الدور، عبر العقود، بين عسكري مباشر ودبلوماسي ضاغط، لكنه بقي دائماً منحازاً إلى منطق السيطرة لا الشراكة.
المارينز على شاطئ بيروت
في صباح السابع عشر من تموز/يوليو 1958م، نزلت قوات مشاة البحرية الأميركية على شاطئ بيروت في أول تطبيق لـ "مبدأ أيزنهاور"، الذي يفيد أنه بمقدور أي بلد أن يطلب المساعدة الاقتصادية الأميركية أو العون من القوات المسلحة الأميركية إذا ما تعرضت للتهديد من دولة أخرى.
ورغم أن الخلاف في لبنان كان آنذاك داخلياً (وإن ارتبط بتداعيات خارجية) فإن التدخل الأميركي لم يكن مفاجئاً لمن تابع التصعيد السياسي في لبنان منذ مطلع ذلك العام، إذ رأت الولايات المتحدة، التي كانت قد أطلقت "مبدأ أيزنهاور" قبل عامين، في تصاعد المدّ القومي، الناصري بالتحديد، تهديداً مباشراً لنفوذها في الشرق الأوسط، ولأمن "إسرائيل" الوليدة.
وعليه، جاء الإنزال الأميركي استجابة سريعة لطلب الرئيس كميل شمعون التدخل بموجب هذا المبدأ، بحجة "منع الفوضى" و"حماية الشرعية". لكن خلف هذا الخطاب، كان الهدف الفعلي تثبيت موقع واشنطن في لبنان، ومنع تحوّله إلى قاعدة للتيار القومي العربي، الذي كانت "تل أبيب" تعدّه خطراً وجودياً.
دامت العملية أقل من ثلاثة أشهر، لكنها شكّلت سابقة خطيرة في التاريخ اللبناني: دولة كبرى ترسل قواتها إلى أرضه لدعم طرف سياسي في صراع داخلي، لا لوقف الحرب بل لترجيح كفة حليفها. وعلى الرغم من أن الأزمة انتهت بتسوية أفضت إلى انتخاب فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، فإن الرسالة الأميركية كانت واضحة: الاستقلال اللبناني لا يُصان من الداخل، بل يُدار بما لا يتعارض مع أجندة واشنطن في الإقليم.
فيليب حبيب... "الوسيط" الذي نظّم سقوط بيروت
في صيف عام 1982م، كانت العاصمة اللبنانية بيروت محاصرة، براً وبحراً وجواً، من قِبل "جيش" الاحتلال الإسرائيلي، الذي اجتاح لبنان بذريعة الرد على محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن، لكن الهدف الحقيقي للحرب كان إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وتفكيك بنيتها العسكرية والسياسية في بيروت.
في هذا السياق، برز اسم فيليب حبيب، الموفد الأميركي من أصل لبناني، الذي أُوكلت إليه مهمة التفاوض لوقف إطلاق النار، ثم تنظيم خروج منظمة التحرير من بيروت. ظاهرياً، كان حبيب "الوسيط النزيه" الذي يسعى لحماية المدنيين ووقف العدوان، لكن في واقع الأمر، لعب دور ناقل الشروط الإسرائيلية إلى منظمة التحرير، وفرضها بتواطؤ دولي، تحت غطاء إنساني.
نجحت الوساطة الأميركية، لا بفضل الحياد، بل بفعل الضغط، والترهيب، وتكافؤ الرغبات بين واشنطن و"تل أبيب" في إنهاء المقاومة في لبنان.
خرج المقاتلون الفلسطينيون من بيروت، لكن لم تخرج "إسرائيل"، بل استمرت في اجتياحها حتى وصلت إلى مشارف بعبدا. وبعد أسابيع، وقعت مجزرة صبرا وشاتيلا، التي وضعت الدور الأميركي في موقع الاتهام بالتواطؤ.
بدا واضحاً أن الولايات المتحدة، التي أشرفت على الاتفاق وضمنته، لم تكن ضامنة لأمن المدنيين ولا لسيادة لبنان، بل كانت تركّز على تفكيك "التهديد" الفلسطيني، تمهيداً لإعادة تركيب لبنان سياسياً بما يخدم مصلحة "إسرائيل" الاستراتيجية: حدود شمالية هادئة، وساحة مفككة بلا مقاومة.
ساترفيلد... الترسيم مقابل الصواريخ الدقيقة
في العام 2019، أُعلن أن مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد ساترفيلد، سيتولى الوساطة بين لبنان والاحتلال الإسرائيلي في ملف ترسيم الحدود البحرية.
بدا الأمر للوهلة الأولى تحركاً دبلوماسياً طبيعياً، في ظل النزاع القائم حول "البلوك 9" والمياه الغنية بالغاز. لكن سرعان ما تبيّن أن الوساطة الأميركية ليست منفصلة عن معادلات الضغط والتفاوض التي تخوضها واشنطن و"تل أبيب" مع المقاومة في لبنان.
حمل ساترفيلد معه عرضاً واضحاً: تقدّموا في ملف الترسيم، ولكن لا بدّ أولاً من معالجة "مسألة الصواريخ الدقيقة" التي تملكها المقاومة. بكلمات أخرى، كان الأميركيون يحاولون ابتزاز لبنان: حقوقه النفطية مقابل التخلّي عن أدوات الردع التي يملكها. وقد جرى ذلك ضمن ما يشبه "صفقة ضمنية" تريد منها واشنطن تحييد المقاومة عن أي نزاع بحري قد يندلع لاحقاً، وضمان بيئة آمنة لاستخراج "الغاز الإسرائيلي" من البحر.
الخطير في مهمة ساترفيلد لم يكن فقط مضمون الطرح، بل طبيعة الدور الأميركي الذي انكشف على حقيقته: إدارة المفاوضات بما يخدم أمن "إسرائيل"، لا تسوية النزاع بما يحفظ السيادة اللبنانية. ومع تعثّر المفاوضات لاحقاً، بدا أن واشنطن لا تُمانع المماطلة، ما دام الوضع القائم يضغط على لبنان اقتصادياً، ويمنع المقاومة من تعزيز شرعيتها الوطنية في ملف الموارد.
وكانت تلك مقدّمة لمحطة أكثر حساسية وأشد انكشافاً: مفاوضات 2022 مع آموس هوكستين.
هوكستين... وسيط بعيون إسرائيلية
في خريف عام 2022، وبعد سنوات من التجاذب، أعلن لبنان توصله إلى اتفاق مع الاحتلال الإسرائيلي لترسيم حدوده البحرية، بوساطة الموفد الأميركي آموس هوكستين.
حمل هوكستين، مع بداية مهمته، الشروط الإسرائيلية إلى بيروت، وعلى رأسها الحصول الكامل على حقل كاريش، واقتطاع جزء من حقل قانا المتداخل مع المنطقة الاقتصادية اللبنانية.
تحرّك هوكستين بضغطٍ أميركي مباشر لتحصيل هذه الشروط، واعتمد أسلوب الضغط الناعم على المسؤولين اللبنانيين، بالتوازي مع تلويح إسرائيلي بالتصعيد في حال تأخّر الاتفاق.
في المقابل، فرضت المقاومة في لبنان معادلة صارمة: لا استخراج من حقل كاريش قبل اتفاق واضح مع لبنان يضمن حقوقه كاملة، وعلى رأسها كامل حقل قانا.
تحت وطأة هذه المعادلة، لم يعد أمام واشنطن خيار سوى التراجع عن بعض المطالب الإسرائيلية، فتم التوصل إلى اتفاق يُبقي حقل كاريش بالكامل في يد "إسرائيل"، لكنه يمنح لبنان كامل حقل قانا، وهو ما عُدّ إنجازاً سياسياً وميدانياً للمقاومة.
أرغمت معادلة القوة التي فرضتها المقاومة الوسيط الأميركي على مغادرة موقع الضاغط إلى موقع المتجاوِب، فجاء الاتفاق ليتجاوز السقوف الإسرائيلية، حفاظاً على استقرار هشّ في منطقة لا تتحمّل الحرب.
وفي صيف عام 2024 عاد هوكستين في مهمة "وساطة" جديدة، بين المقاومة في لبنان والحكومة الإسرائيلية، على خلفية دور حزب الله الإسنادي لقطاع غزة.
ومرةً جديدة، تمظهر الدور الأميركي، بخلاف عنوانه المُعلَن (الوسيط) ليحمل الشروط والتهديدات الإسرائيلية، في محاولة لفرض وقف إطلاق النار من لبنان، ومن ثمّ ممارسة "التفاوض" كغطاء على العدوان الكبير الذي كان يحضّر على لبنان، وما أن بدأت الحرب الإسرائيلية، حتى عاد الموقف الأميركي للظهور بشكله المباشر الداعم للاحتلال في كل تجاوزاته.
الوسيط الأميركي في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين #لبنان والاحتلال الإسرائيلي #آموس_هوكشتاين يصل لبنان ويلتقي مسؤوليه، وتقارير إسرائيلية تذكر أنه مولود في "إسرائيل" وخدم في "جيش" الاحتلال. فمن هو؟#الميادين pic.twitter.com/crCMqpa0jD
— قناة الميادين (@AlMayadeenNews) October 22, 2021
توم براك: لبنان كحديقة خلفية... و"العودة إلى بلاد الشام"
وفي آخر مظاهر الحضور الأميركي في لبنان، خرج السفير الأميركي في تركيا، أحد أبرز المقرّبين من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وموفده إلى الشرق الأوسط، في مقابلة مع صحيفة "ذا ناشيونال"، ليحذر من ما وصفه بـ"التهديد الوجودي" الذي يواجه لبنان، في حال فشلت الحكومة اللبنانية في التعامل مع سلاح حزب الله. واعتبر أن استمرار وجود هذا السلاح قد يفتح الباب أمام سيطرة قوى إقليمية على لبنان، قائلاً: "إسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى، والآن سوريا تتجلّى بسرعة كبيرة، وإذا لم يتحرّك لبنان، فسيعود إلى بلاد الشام من جديد".
و"العودة إلى بلاد الشام" هنا لا تُطرح بوصفها خياراً سياسياً حراً، بل كتهديد يعاقب عليه لبنان إذا لم ينخرط في المشروع الأميركي القائم على نزع عناصر القوة من الداخل اللبناني، وتفكيك منظومة الردع التي تمثلها المقاومة.
"يجب أن ننظر إلى مهمة توم باراك في لبنان بعيون مختلفة عن كل السنوات السابقة"
— قناة الميادين (@AlMayadeenNews) July 19, 2025
تفاصيل أكثر مع رئيس تحرير موقع "إيست نيوز" جورج شاهين في #نقاش#الميادين@georgestchahine pic.twitter.com/4HgBHUXvAE
واشنطن في بيروت... بوصلة واحدة لم تتغير وجهتها
من شاطئ بيروت عام 1958، إلى أنابيب الغاز تحت المتوسط عام 2022، إلى الوساطة بين لبنان و"إسرائيل" عقب الحرب الأخيرة عام 2024، لم تكن واشنطن يوماً حاضرة في لبنان من أجل لبنان. تدخّلت عندما اقتضت مصالحها، وانسحبت عندما شعرت بأن الكلفة تفوق المردود. لكن الثابت الوحيد وسط هذا التقلّب كان انحيازها البنيوي لمعادلة واحدة: كل ما يهدد "إسرائيل" هو تهديد، وكل ما يُضعف المقاومة أو يعطّل الدولة هو خيار مقبول إذا خدم تلك المعادلة.
لبنان في الحسابات الأميركية ليس وطناً ذا سيادة، بل نقطة التقاء بين خطوط التماس الإقليمي، لا يحق له أن يُعيد رسم خريطته السياسية أو الاقتصادية دون استئذان، ولا يُسمح له بتطوير قوّته الدفاعية خارج "سقف التوازن" الذي ترسمه واشنطن.
وحين يُعلن مسؤول أميركي أن لبنان يجب أن "يعود إلى بلاد الشام"، فإن ما يُراد له فعلياً هو أن يعود إلى بيت الطاعة الأميركي، تحت راية لا تُرفع... ولكن تُطاع.