حماقة تقريع ماكرون

الإعلام الغربي يعرض المواقف الفرنسية تجاه الصين، ويشير إلى أنّ مشكلة واشنطن الحقيقية لا تكمن في ذهاب الجانب الفرنسي بعيداً في تأملاته حول الحكم الذاتي الاستراتيجي لأوروبا، بل أنّه قد لا يكون لدى واشنطن النفوذ الكافي لممارسة دور "زعيم أوروبا".

  • الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع نظيره الصيني شي جين بينغ - بكين (أ ف ب )
    الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع نظيره الصيني شي جين بينغ - بكين (أ ف ب )

تناولت صحيفة "responsiblestatecraft"، زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون إلى الصين، مشيرةً إلى الغضب الأميركي من موقفه السياسي المحايد فيما يخص المواجهة بين الولايات المتحدة والصين التي تلوح في الأفق.

فيما يلي النص المنقول إلى العربية:

اعتاد سياسيو العاصمة الأميركية واشنطن، على جولات تقريع "دورية" تستهدف فرنسا. الجولة الجديدة تسببت بها زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، للعاصمة الصينية بكين، واجتماعه مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، حيث تجرأ ماكرون وقال إنّ "أوروبا لا ينبغي أن تصبح تابعة لأحد، وعليها أن تضع مصالحها الخاصة بالمرتبة الأولى" في سياق المواجهة التي تلوح في الأفق بين الولايات المتحدة والصين.

الغضب الذي أثارته تصريحات ماكرون غير مبررة مطلقاً. ولا يمكن لصقور التيار المعادي للصين في واشنطن، تجاهل مصلحة الولايات المتحدة الإستراتيجية في إقناع أوروبا بزيادة ميزانياتها العسكرية لتكون قادرة على الدفاع عن نفسها، ثم تمنع من "الحكم الذاتي" والاستسلام لقدر التبعية.

أحد أبطال الغضب النائب عن الحزب الجمهوري كريس سميث، دعا الولايات المتحدة إلى إعادة تقييم موقفها تجاه فرنسا ومعاقبتها كونها، "ملتزمة بخيانة الدول الديمقراطية لصالح نظام شيوعي وحشي"، يقصد الصين.

وعلى منواله زعم النائب الجمهوري مايك غالاغر، أنّ تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل في بكين، ترسل "إشارة إلى أنّ الغرب سيقف مكتوف الأيدي بوجه التهديدات الصينية في تايوان".

كذلك، غرد مسؤولون أميركيون آخرون وقرعوا ناقوس الخطر، لأنّ ماكرون يتمرد على التبعية للولايات المتحدة، و"يقوض بوحشية مصداقيته كزعيم أوروبي".

لا يوجد ما يبرر أي من خطب المزايدة الفارغة هذه. خصوصاً إذا ما تمّ تمحيص ما صرح به ماكرون، ولا يوجد أي شيء فيها مثير للجدل. فالرجل يتحدث كزعيم لدولة أوروبية كبرى، ولها وزن فريد باعتبارها العضو الوحيد في الاتحاد الأوروبي، وفي "مجلس الأمن"، والقوة النووية الوحيدة في الاتحاد الأوروبي، وكبلد يعتبر من بين محركي أكبر كتلة تجارية في العالم، وعليه لا ينبغي أن يفاجئ أي شخص، أن رئيساً فرنسياً يتحدث من منظور مصلحة أوروبية عُليا، وباعتبار الاتحاد الأوروبي "القطب الثالث" في المواجهة الثنائية الناشئة بين الولايات المتحدة والصين.

كل هذا يعني بالدرجة الأولى، أنّه الطريق لتنفيذ الحكم الذاتي الاستراتيجي لأوروبا، والذي كان ماكرون قد التزم به منذ توليه منصبه لأول مرة في عام 2017. ولا تعني التصريحات المذكورة أنّ أوروبا أو فرنسا يجب أن تناقض سياسات الولايات المتحدة، بل المطلوب من واشنطن أن تبذل جهوداً دبلوماسية أكبر لكسب أوروبا  مرة أخرى إلى جانبها.

ما يجب أن يفعله صانعو السياسة في الولايات المتحدة، ليس رفض الاستقلال الذاتي الاستراتيجي لأوروبا، بل على العكس من ذلك، عليهم دعم تنفيذه وتعزيزه. وإنّ ردّ الفعل السريع على أي تلميح إلى استقلال أوروبا عن الولايات المتحدة، مهما كان متواضعاً في الممارسة، لا يتوافق مع قوة الولايات المتحدة ولا يليق بالقارة الأوروبية الغنية. 

لا يزال التمايز الأوروبي عن الولايات المتحدة، يشكل مصدراً للغضب والإحباط في واشنطن منذ أن كان دوايت أيزنهاور رئيساً. 

وأولئك الذين اعترضوا على تصريحات ماكرون "المتسرعة"، حول بين الولايات المتحدة والصين قد فاتهم أنّه لم يلمح إلى قضية تايوان، ولا أن الاتحاد الأوروبي يجب أن يتخلى عنها وتركها لمصيرها، لكن يحق لـ"بروكسل" إدارة المنافسة مع الصين بشروطها الخاصة، وبوتيرتها الخاصة. ولا يمكن لصقور واشنطن، أن يُطالبوا أوروبا بالتسلح للدفاع عن نفسها وأنّ تظل تابعة لهم.

الجدير ذكره، أنّ ماكرون دعا إلى استقلالية أوروبا عن "نهج واشنطن التصادمي مع بكين، وعن رد الفعل الصيني المفرط"، و هذا لا يتصل البتة بالموقف الأوروبي من موضوع تايوان.

تصريحات ماكرون حول ضرورة ألا ينخرط الاتحاد الأوروبي مع إدمان واشنطن على سياسات العقوبات واستخدامها كسلاح في الحقيقة تصيب كل دول العالم وليس الدولة البلد المعاقب لوحده. على سببيل المثال حين انسحب الرئيس السابق دونالد ترامب بغير حكمة من "الاتفاقية النووية" مع إيران، والمعروفة باسم خطة العمل الشاملة المشتركة، استخدم الوضع المالي الراجح للدولار لمعاقبة أي تجارة مع طهران ما أضر كثيراً التكتل الأوروبي، بما فيهم فرنسا. بالتالي، فليس من المستغرب أن يرغب ماكرون و الاتحاد الأوروبي، لتأمين نفسه ضد المزيد من هذه المخاطر في المستقبل.

تحتاج واشنطن إلى إنهاء التناقض، بين ما تطلبه بصوت عالٍ من أن يتحمل الأوروبيون المزيد من المسؤولية عن أمنهم الدفاعي، ومن ناحية أخرى، تصرخ بصوت أعلى كُلما بدا أنّهم يتحركون في هذا الاتجاه. في النهاية، يخدم الاستقلال الاستراتيجي مصالح واشنطن: فالاتحاد الأوروبي القادر تماماً على الاهتمام بأمنه سيسمح للولايات المتحدة بتركيز مواردها في مسارح أخرى، مثل منطقة آسيا والمحيط الهادئ.

إنّ مشكلة واشنطن الحقيقية لا تكمن في أنّ ماكرون ذهب بعيداً في تأملاته حول الحكم الذاتي الاستراتيجي لأوروبا، بل بالأحرى أنّه قد لا يكون لديه النفوذ الكافي لتنفيذ رؤيته في الممارسة العملية. على عكس صورته المغلوطة على أنّه "زعيم أوروبا" كما يصوره العديد من منتقديه، فهو رئيس دولة أوروبية واحدة فقط، مهما كانت قوتها. والجرأة التي أعرب عنها حول الحكم الذاتي الأوروبي، تعتبره بولندا ودول البلطيق، على سبيل المثال لعنة، ويقوض حلف "الناتو".

نقلها إلى العربية: حسين قطايا