"Counterpunch": عن سيرة "الناتو" الإمبريالية وضحاياها والحاجة إلى "بريكس"
هناك حلّ لهذا العالم المريض، وهذا الحلّ له اسم مجموعة "بريكس"، التي تُمثّل الأغلبية العالمية، وحان الوقت لتبنّي نظام عالمي جديد قائم على التعاون والمساواة والسلام.
موقع "Counterpunch" ينشر مقالاً للكاتبة والباحثة بيليانا فانكوفسكا في مقدونيا، تحدثت فيه عن ما وصفته بـ سيرة "الناتو" الإمبريالية وضحاياها، وحاجة العالم إلى مجموعة "بريكس" التي تُمثّل الأغلبية العالمية.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
بعد أشهر قليلة من قصف حلف شمال الأطلسي لجمهورية "يوغوسلافيا" المستقلة في العام 1999، من دُون تفويض من مجلس الأمن في الأمم المتّحدة، استمعت إلى مُحاضرة ألقاها البروفيسور الراحل يوهان غالتونغ آنذاك، المعروف بنزاهته وشجاعته الفكريّة والملقّب بـ "أبي أبحاث السلام"، لم يُلطّف الكلمات وقال بصراحة: "هذا العالم لديه مُشكلة اسمها الولايات المتحدة الأميركية". وللأسف بعد 25 عاماً، تبدو كلماته استشرافية بجدارة أكثر من أيّ وقت مضى. الحرب في أوكرانيا مثال ناصعٌ مِن بين العديد من الأمثلة. فبعد تفكّك الاتّحاد السوفيتي وحلف وارسو، زعمت الولايات المتّحدة أنّها صانعُ السلام الأساسيّ في العالم وبطله الديمقراطي أيضاً. ولكنّها، كانت تسعى لتوسيع حلف شمال الأطلسي بلا هوادة تحت هذا الستار الثنائيّ السلام والديمقراطية، عوضاً عن حلّ الحلف بانتفاء أسباب نشأته بانتهاء الحرب الباردة.
ويبدو أنّ هذا الطاغوت المتمثّل الآن في حلف شمال الأطلسي، عازم على جعل الأمم المتّحدة مؤسّسة عتيقة، ولا تُؤدّي الغَرَضَ، وعلى الأقلّ نجح الحلف بجعل الكثيرين في دول العالم يعتقدون أنّ المنظّمة الدولية لا قُدرة لها وعاجزة.
ومن الدروس المستقاة من بحوث غالتونغ، ومن نهجه في تحليل الصراع لفهم أسبابه الكامنة، يجب تحديد 3 عناصر رئيسية، هي المواقف، القوى المؤثّرة والمستفيدة، والتناقض في الأهداف بين الجهات الفاعلة، وعلى أساس هذا التشخيص يُحدّد العلاج. لكن وللأسف، يبدو الأمر كما لو أنّ العالم في ساعة مُظلمة لدرجة أنّ التشخيصات الصحيحة والتكهّنات السليمة أثبتت عدم جدواها. فلقد فشلت في منع الأزمة في أوكرانيا، ناهيك عن الصراعات المدمّرة الأخرى، مثل الإبادة الجماعية المستمرّة في فلسطين. والاندفاع نحو التركيز على العلاج في كيفية إنهاء العنف، يقع في مفارقة مزعجة، وفي طقس "أورويلي" نسبة للكاتب جورج أورويل، لأنّ ما يُسمّى الغرب الجماعي، يُعامل أولئك الذين يُدافعون عن وقف إطلاق النار ويتبنون السلام أو المفاوضات أو الحلول الدبلوماسية بريبة وعدوانية. وكما قال الصحفي المستقل آرون ماتي المقدّر: "لا يُوجد شيء أكثر إثارة للجدل من أيّ مُقترح للسلام في وسائل الإعلام الحكومية التابعة لحلف شمال الأطلسي".
في الحقيقة أنّ مُناهضة السلام ليست بالأمر الجديد. ففي العام 1982، حذّر جوناثان شيل في كتابه عن عواقب الحرب النووية من أنّ العالم "وجد أنّه من الأسهل بكثير حفر قبورنا عوضاً عن التفكير في أنّنا نقوم بذلك فعلاً". ومن الأمثلة على هذا في جمهورية مقدونيا وهي إحدى أحدث وأصغر الدول الأعضاء في حلف "الناتو"، أصبحت أيّ مُناقشة جادّة للأسباب الأعمق للصراعات الجارية، أو عودة التهديدات النووية من المحرّمات. ولا يزال الخطاب العامّ في الغرب يُركّز بشكل ضيّق على التحركات العسكرية كأمر مُعتاد، في حين أنّ القضايا الهيكلية الأعمق التي أوصلت العالم إلى هذه النقطة تُركت من دون فحص.
لم تكن الحاجة إلى المراجعة والتفكير والدبلوماسية والحلول المستدامة أكثر إلحاحاً كما هي اليوم. مع ذلك، ثمّة استحالة أكثر من أيّ وقت مضى التقدّم في هذا الطريق. وإذا قُدّر لي إعادة صياغة مقولة يوهان غالتونغ الآن، فهذا العالم لديه مشكلة اسمها الغرب و"الناتو"، مُجرّد أداة لطموحه الإمبراطوري. ولكن من المؤسف أنّ العديد من دول "ما بعد الاشتراكية"، اعتقدت أنّ عضوية حلف "الناتو" تضمن لها السلام والأمن. بالنسبة للكثيرين، أصبح الحلف ذلك الهدف الغامض، وكلّما كانت الرغبة أكثر حدّة للحصول على العضوية كلّما ارتفع الثمن المدفوع للحصول عليها.
قلّة من الناس يُدركون أوجه التشابه بين أوكرانيا ومقدونيا في مساراتهما السياسية. فكلاهما استقلّا بعد تفكّك المنظومة الاشتراكية والسوفيتية، وكلا البلدين يتربّع على جبهة جيوسياسية حسّاسة يُصمّم الغرب على السيطرة عليها مهما كان الثمن، وكلاهما وقع ضحيّة لموجة "الثورات الملوّنة". في حالة مقدونيا، أدّى تغيير النظام بما سُمّي انتفاضة ديمقراطية، إلى فُقدان البلاد لاسمها وسيادتها الدستورية وهويّتها، على الرغم من أنّها ضمنت في نهاية الأمر عضوية "الناتو". ولكنّ، أوكرانيا تُخاطر بخسارة كلّ شيء ما لم يتبن العالم مُحادثات السلام والمفاوضات، كما اقترحت مجموعة "بريكس" في إعلان قمّة قازان الأخيرة.
لقد أصبح من المملّ مُناقشة المعايير المزدوجة للغرب، خاصّة حين تسامح مع الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزّة ودعمها علناً. فـ "الأقوياء يفعلون ما في وسعهم، والضعفاء يعانون ما يفرض عليهم"، كما يقول المؤرّخ اليوناني ثوسيديديس.
في أوكرانيا يتغيّر السرد عن مقدونيا بشكل كبير ومُفاجئ، ويستقوي بتصريحات عن انتصار عسكري مُحتمل ضدّ خصم أقوى بكثير. والرسالة خلف ذلك تقول، لا تستسلم، قاتلوا حتّى آخر أوكراني. في الوقت ذاته، استسلمت مقدونيا وتجد نفسها الآن مُتورّطة في صراع لم يكن سُكّانها يريدونه أبداً.
كان من المفترض أن يضمن حلف شمال الأطلسي السلام والازدهار وحتّى أمن الهوية لأعضائه. ولكن في حالة أوكرانيا، يُراهن الغرب برهانات وجودية ويدفع بالصراع نحو حافة التصعيد النوويّ المرعب.
في الأيّام الأولى للعملية العسكرية الروسية الخاصّة في العام 2022، حضرت اجتماعاً افتراضيّاً أقامته شبكة المعاهد الأمنية التابعة لمنظّمة الأمن والتعاون في أوروبا، لمناقشة الاستجابات المحتملة. وبصفتي باحثاً من بلد يستعد لتولّي رئاسة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، طلب منّي شخصيّاً أن أساهم بمقال، وكما مُتوقع رُفض تحليلي بسرعة، لأنّني وصفت الصراع بأنّه حرب بالوكالة بين الغرب، أي "الناتو" والولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبّي ضدّ روسيا. لقد ناقشت بأنّ الحرب في أوكرانيا لم تكن الصراع الأكثر قابلية للتنبّؤ به في التاريخ الحديث فحسب، بل كانت أيضاً أسهل حرب يُمكن منعها، في حال لم يتبع القادة الغربيّون أجندة خفية، مع أنّها كانت واضحة تماماً لموسكو، ورأتها قادمة عن بعد أميال وهي مُحقّة في ذلك.
هذا غيض من فيض التحيّز الغربي المتأصّل في البنية الأمنية الأوروبّية الحالية، حيث يتمّ تصوير الأمم المتّحدة على أنّها مريض غير قابل للشفاء وهي على فراش الموت. في الوقت الذي يعمل الاتّحاد الأوروبّي كذراع مدني لحلف شمال الأطلسي، أو بالأحرى، مُستعمرة للإمبراطورية الأمريكية المتدهورة.
حاليّاً، يتركّز قدر كبير من الاهتمام على نتائج الانتخابات الأميركية، كأنّ الشخص الذي يشغل البيت الأبيض قادر على إحداث فرق حقيقي. لكنّ الحقيقة هي أنّ المجمّع العسكري الصناعي الإعلامي الأكاديمي يزدهر على الحرب. ولا يُمكن توقّع أيّ شيء جيّد أو فعّالٍ من واشنطن، أو من حُلفائها، وسيبقى هذا مُجرّد أمنيّاتٍ.
في الختام، هناك حلّ لهذا العالم المريض. وهذا الحلّ له اسم مجموعة "بريكس"، التي تُمثّل الأغلبية العالمية، وقد أظهر هذا التحالف الناشئ بالفعل عن عزمه وحضوره من خلال الدعوة إلى إنهاء الصراع الأوكراني، وتأييد الاعتراف بفلسطين كدولة مُستقلّة ومُتساوية داخل الأمم المتّحدة.
ومن أجل أيّ تغيير ذي مغزى، يجب أن يتوقّف توسع حلف شمال الأطلسي، والتوقّف عن السير في طريق لتدمير الذات، والمخاطرة بجرّ بقيّتنا معها إلى الأسفل. لقد حان الوقت لتبنّي نظام عالمي جديد قائم على التعاون والمساواة والسلام.
نقله إلى العربية: حسين قطايا