"فورين بوليسي": ما هو خيار ترامب بشأن إيران؟

هل سيكون ترامب الرئيس الذي سيكسر أخيراً إدمان أميركا على التدخّلات في الشرق الأوسط؟

  • "فورين لوليسي": ما هو خيار ترامب بشأن إيران؟

مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً يناقش استراتيجية إدارة ترامب الثانية في التعامل مع إيران، ويضع ذلك ضمن سياق أوسع للسياسة الخارجية الأميركية.

النص يُقدّم قراءة معمّقة في تحوّل استراتيجي محتمل في السياسة الأميركية تجاه إيران، مع ربطه بالتوجّه العامّ لإعادة تركيز القوة الأميركية بعيداً عن الشرق الأوسط. وهو يُظهر أنّ مصير هذا التحوّل يعتمد بدرجة كبيرة على نجاح أو فشل المفاوضات النووية مع طهران.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرّف:

على الرغم من مرور أقلّ من نصف عام على إدارة ترامب الثانية، إلا أنّه من الواضح أنّ بعض الأمور مختلفة هذه المرة، بما في ذلك رغبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الواضحة في تولّي دور صانع السلام وصانع الصفقات العالمية. من أوكرانيا، إلى غزة، إلى المملكة العربية السعودية، رأينا البيت الأبيض يفتح قنوات اتصال، ويتواصل مع الخصوم، ويروّج لصفقات بيع الأسلحة والاستثمار.

لعلّ أهم هذه الجهود هو تعامل الإدارة مع إيران. خلال فترة ولاية ترامب الأولى، غالباً ما سمح لنفسه بالتأثّر بمستشاريه المتشدّدين الذين روّجوا لنهج متشدّد قائم على ممارسة أقصى قدر من الضغط على إيران. هذه المرة، لديه فرصة أخرى للتوصّل إلى اتفاق عملي يكبح طموحات إيران النووية ويخفّف التوترات الإقليمية.

المخاطر كبيرة. قد يكون نجاح أو فشل المحادثات مع إيران أفضل مؤشّر على قدرة هذه الإدارة على الوفاء برغبتها في إرساء أسس متينة للسياسة الخارجية الأميركية. فهل ستتمكّن من إعادة تركيز الولايات المتحدة بقوة على التحدّي الذي تمثّله الصين، أم سيجد ترامب - كغيره من الرؤساء الأميركيين منذ جورج دبليو بوش - نفسه متورّطاً في الشرق الأوسط؟

طوال فترة ولايته الأولى، مستشارو ترامب أخبروه مراراً وتكراراً أنه إذا زاد الضغط على طهران لفترة كافية، فسيكون قادراً على تأمين "صفقة أفضل" من تلك التي تفاوض عليها الرئيس السابق باراك أوباما - خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015 (JCPOA) - سواء بشأن الملف النووي أو في قضايا أخرى. اتضح أنّ هذا خطأ تماماً. دفع مستشارون مثل مايك بومبيو وجون بولتون وهربرت ماكماستر ترامب نحو أدوات سياسية متشدّدة. وكانت النتيجة حملة ضغط قصوى انسحبت من الاتفاق النووي في عهد أوباما، وفرضت سلسلة من العقوبات القاسية بشكل متزايد، وشاركت في ضربات مستهدفة على وكلاء إيرانيين - وفي إحدى الحالات البارزة، على قاسم سليماني، وهو جنرال كبير في حرس الثورة الإسلامية. من نواحٍ عديدة، شجّع هذا النهج التعنّت الإيراني، ولم تُظهر إيران أيّ اهتمام بإعادة فتح المحادثات أثناء وجود ترامب في منصبه.

إنّ التحوّلات الإقليمية تجعل التوقيت مثالياً تماماً لرئيس يسعى إلى تحويل الضغوط إلى نتائج دبلوماسية، وطهران حريصة على التوصّل إلى اتفاق. 

لكن في الوقت نفسه، سيسعد العديد من الجمهوريين برؤية ترامب يستأنف حملته للضغط الأقصى على إيران، أو حتى يلجأ إلى ضربات عسكرية لتحقيق ذلك. ومن الجدير بالذكر أنّ الجمهوريين في كلّ من مجلسي الشيوخ والنواب دعوا ترامب علناً إلى اتباع نهج متشدّد للغاية في المفاوضات، بما في ذلك التفكيك الكامل للبرنامج النووي الإيراني.

على نطاق أوسع، يُعدّ قرار الإدارة الأميركية بالتحوّل نحو الدبلوماسية عنصراً حيوياً في جهودها الرامية إلى تعزيز مكانة السياسة الخارجية الأميركية ومحاولة تركيز الجيش الأميركي على منطقة المحيطين الهندي والهادئ. ويُمثّل إخراج الجيش الأميركي من الشرق الأوسط أولوية واضحة للإدارة. وقد ندّد ترامب، خلال زيارته الأخيرة إلى المملكة العربية السعودية، بسياسات بلاده الراسخة تجاه الشرق الأوسط، مشيراً إلى أنّ "من يُسمّون بـ"بناة الأمم" دمّروا دولاً أكثر بكثير مما بنوها". وذهب نائب الرئيس الأميركي، جيه. دي. فانس، إلى أبعد من ذلك في خطاب ألقاه مؤخّراً أمام خريجي الأكاديمية البحرية الأميركية، واعداً الضباط الجدد بأنه "لن تكون هناك مهام غير محدّدة، ولا صراعات مفتوحة".

تُؤكّد أفعالهم هذا الخطاب في الغالب. ففي الأشهر الأخيرة، امتنع ترامب في الغالب عن مساعدة "إسرائيل" في توجيه ضربات لإيران ووكلائها. في الواقع، ورغم الحملة العسكرية المبكرة ضدّ الحوثيين في اليمن، كان البيت الأبيض على استعداد لوقف الضربات مقابل تنازلات من الحوثيين بشأن الشحن الدولي. في غضون ذلك، أصدرت وزارة الدفاع الأميركية مؤخّراً توجيهات استراتيجية مؤقتة، تُمهّد لاستراتيجية الدفاع الوطني، والتي تُوجّه الجيش صراحةً بالتركيز على الداخل الأميركي ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، مع "تحمّل المخاطر" في مسارح عمليات أخرى.

باختصار، تُمثّل إيران اختباراً حاسماً لمدى جدّية الإدارة في التزامها بتحديد الأولويات الاستراتيجية. لن يكون ترامب أول رئيس يفشل في إعادة توجيه استراتيجية الدفاع الأميركية بهذه الطريقة؛ فقد حاول الرؤساء منذ أوباما "التحوّل نحو آسيا" وفشلوا. حتى في إدارة ترامب الأولى، وعد المسؤولون بالتركيز على التنافس بين القوى العظمى، لكنهم انغمسوا في الشرق الأوسط. قد يكون حدس ترامب هذه المرة بأنّ التواصل التجاري والدبلوماسي مع إيران قد يكون أنجع من العزلة أو الضربات الجوية، لكنّ خطر الانزلاق إلى مستنقع شرق أوسطي جديد لا يزال قائماً.

السؤال المحوري هو: هل يُمكن التوصّل إلى اتفاق أم أنّ المحادثات ستنهار في ظلّ توقّعات غير واقعية من أحد الطرفين؟

لحسن الحظ، تشير التقارير - وتصريحات المسؤولين الإيرانيين وستيف ويتكوف، المبعوث الأميركي الخاص إلى الشرق الأوسط - إلى أنّ الخلافات بين الجانبين ليست عميقة. ومع ذلك، سيكون من الصعب حلّ القضايا المتبقّية.

القضية الرئيسية لدى الجانب الأميركي هي مسألة التخصيب. لطالما كان التخصيب الإيراني المحلي مصدر خلاف، إذ تؤكّد طهران الحقّ في برنامج نووي مدني، بينما تدعو الولايات المتحدة إلى إجراء جميع عمليات التخصيب - وهو الجزء الأكثر خطورة في البرنامج النووي المدني لأغراض التسلّح - خارج البلاد. سمحت خطة العمل الشاملة المشتركة لإيران بالتخصيب محلياً إلى مستويات منخفضة مناسبة للاستخدام المدني، مع رقابة وتفتيش صارمين، على الرغم من أنّ العديد من الجمهوريين جادلوا آنذاك بأنّ الحدود والمعايير المطبّقة غير كافية لعرقلة مسار إيران نحو امتلاك سلاح نووي.

اليوم، قام الإيرانيون بتخصيب اليورانيوم حتى درجة صنع الأسلحة، ويُقدّر أنهم على بُعد بضعة أشهر على الأكثر من القدرة على صنع سلاح نووي. ومع ذلك، فليس التخصيب المحلّي هو ما خلق هذا الواقع، بل فقدان الضمانات وعمليات التفتيش على البرنامج مع تصاعد التوترات على مدى السنوات القليلة الماضية.

من الواضح أنّ إيران ستحتاج إلى التخلّص من اليورانيوم عالي التخصيب الحالي كجزء من أيّ اتفاق جديد، ويمكن وضع عتبات جديدة للتخصيب - ربما تكون أفضل من تلك التي تمّ التوصّل إليها في خطة العمل الشاملة المشتركة. هناك أيضاً حلول إبداعية يمكن تطبيقها: وقف التخصيب المحلي الإيراني الذي من شأنه أن يسمح باستئنافه في غضون بضع سنوات، أو تشكيل تحالف جوار للتخصيب يجمع إيران وبعض جيرانها الخليجيين. تشير التقارير إلى أنّ الإدارة غير حاسمة داخلياً بشأن هذه النقطة. وتشير مسوّدة مسرّبة من فريق ويتكوف إلى أنّ هذه الحلول البديلة قيد الدراسة بشكل جدّي، في حين يواصل حساب الرئيس على وسائل التواصل الاجتماعي الدعوة إلى "عدم تخصيب اليورانيوم".

لكنّ الحظر الكامل على التخصيب المحلي ربما يكون أسرع سبيل لضمان عدم التوصّل إلى اتفاق على الإطلاق. وقد أكدت طهران مراراً وتكراراً أنّ هذا خط أحمر بالنسبة لها في أيّ اتفاق. ولعلّ الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أنّ الضغط من أجل وقف التخصيب تماماً يأتي من بعض الأشخاص أنفسهم الذين شجّعوا ترامب على الانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة خلال ولايته الأولى بوعد باتفاق أفضل. ويبدو جلياً بشكل متزايد أنه بالنسبة للعديد من هؤلاء المتشدّدين في السياسة الخارجية، لا يوجد اتفاق مع إيران يعتبرونه كافياً.

ومع ذلك، فإنّ اتفاقاً يتضمّن التحقّق والمراقبة، إلى جانب معايير صارمة للقدرات النووية المحلية لإيران، أفضل بكثير من البدائل. إنه بالتأكيد أفضل من الوضع الراهن، حيث تُعتبر إيران فعلياً دولة على عتبة نووية، ولديها القدرة على بلوغ وضع الأسلحة النووية في وقت قصير.

وهو بلا شكّ أفضل من الضربات العسكرية، التي من المرجّح أن تُؤخّر طموحات إيران النووية بضع سنوات على الأكثر، وتُنذر بعودة المواجهة الإقليمية مع إيران وحلفائها، والتي من المرجّح أن تُصبح فيها القوات الأميركية في المنطقة أهدافاً رئيسية. لن تحلّ الضربات العسكرية المسألة النووية، بل ستُؤجّلها فقط، مُؤجّلةً العدّ التنازلي إلى المرة المقبلة التي سيُضطر فيها الرئيس للاختيار بين الدبلوماسية والقصف.

قد يبدو من المبالغة القول إنّ مفاوضات إيران أساسية في إرث ترامب في السياسة الخارجية. ففي نهاية المطاف، هناك العديد من القضايا العالقة في ملف الإدارة، من أوكرانيا إلى الرسوم الجمركية، والتي ستخلف بلا شك تداعيات عالمية كبيرة. ومع ذلك، قد تكون مفاوضات إيران أوضح مؤشّر على ما إذا كان ترامب ومستشاروه ذوو التفكير المماثل داخل إدارته قادرين على النجاح في تحويل الولايات المتحدة بعيداً عن المواجهات الطائشة في الشرق الأوسط نحو الصين وتحدّيات أخرى.

إذا كان ترامب هو الرئيس الذي يعتزم أخيراً كسر إدمان الولايات المتحدة على التدخّلات في الشرق الأوسط، فإنّ قصف إيران سيكون نقطة انطلاق سيّئة للغاية. من ناحية أخرى، إذا تمكّن من التفاوض على اتفاق نووي كبير وجميل مع إيران، فربما تتمكّن الولايات المتحدة أخيراً من بدء تحوّلها الذي طال انتظاره نحو آسيا.

نقلته إلى العربية: بتول دياب.