"فورين أفيرز": سلاح التجويع.. غزة والسودان نموذجاً

قد يكون من الصعب إيجاد حلول سياسية في السودان أو بين "إسرائيل" وفلسطين، لكنّ منع الناس من الموت جوعاً أمر ممكن تماماً، بل ينبغي أن يكون أمراً يتّفق عليه الجميع.

  • غزّة
    استحوذت مجاعة غزة على اهتمام دولي، لكنها ليست المجاعة الوحيدة الناجمة عن الحرب والتي تتكشف في العالم الآن.

مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر مقالاً يتناول عودة سلاح التجويع كأداة حرب في النزاعات المعاصرة، مع التركيز على حالتَي غزة والسودان كنموذجين بارزين، ويعرض تطور استخدام هذا السلاح عبر التاريخ وسقوط الالتزام الدولي بمكافحته.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

في أواخر آب/أغسطس، توصل اثنان من أبرز تقييمات أزمة الغذاء في العالم إلى النتيجة نفسها بشأن ما يحدث في غزة: "مجاعة بأدلة معقولة". كان أحدهما التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) التابع للأمم المتحدة، والآخر شبكة أنظمة الإنذار المبكر بالمجاعة (FEWS NET) ومقرها الولايات المتحدة، وهي شراكة بين وكالات حكومية كانت تابعة سابقاً للوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID). تستخدم كلتا الهيئتين معايير صارمة لتحديد خمسة مستويات متدرجة من انعدام الأمن الغذائي، إذ تُعد "المجاعة" الأسوأ. وفي استنتاجه أن غزة قد وصلت إلى المستوى الخامس، أشار التصنيف المرحلي المتكامل إلى أنه بما أن الأزمة "من صنع الإنسان بالكامل، فيمكن إيقافها وعكس اتجاهها".

لشهور، استحوذت مجاعة غزة على اهتمام دولي. لكنها ليست المجاعة الوحيدة الناجمة عن الحرب والتي تتكشف في العالم الآن. في الواقع، إنها ليست الأسوأ حتى. في تموز/يوليو 2024، خلص التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي إلى أن "مجاعة ذات أدلة معقولة" تتكشف في السودان الذي مزقته الحرب، إذ انقطعت المساعدات الغذائية عن قطاعات كبيرة من السكان. ومنذ ذلك الحين، ازداد الوضع سوءاً. ووفقاً لتقديرات التصنيف المرحلي المتكامل الأخيرة، يعاني نحو 800 ألف سوداني الآن من مجاعة شاملة، ويواجه ثمانية ملايين آخرين ما يُطلق عليه التصنيف "حالة طوارئ غذائية من المستوى الرابع"، وهي درجة أقل بقليل من هذا الحد. وتحت ذلك بقليل، يواجه نحو 22 مليون شخص، أيّ نصف إجمالي سكان البلاد، "أزمة غذائية" من المستوى الثالث، ما يعني أنهم بحاجة إلى المساعدة لتجنب الوقوع في دوامة الجوع والعوز. تدعو مقترحات وقف إطلاق النار الحالية لكل من السودان وغزة، بما في ذلك خطة إدارة ترامب الجديدة لغزة التي كُشف عنها في 29 أيلول/سبتمبر، إلى إعادة فتح قنوات المساعدات الإنسانية بمجرد توقف القتال.

ولكن بالنسبة إلى كلا الشعبين، قد يكون ذلك متأخراً جداً. ينص القانون الإنساني الدولي على أنّ المساعدات الأساسية يجب أن لا  تكون مشروطة بوقف إطلاق النار. كانت المجاعات، مهما كانت الظروف، نادرة نسبياً منذ أواخر القرن العشرين. في العقود الأخيرة، سهّلت وكالات الإغاثة الأكبر حجماً والأكثر مهارة، بالإضافة إلى أنظمة الإنذار المبكر المتطورة، معالجة أزمات الجوع قبل أن تصل إلى حد الكارثة. وبحلول العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بدا أنّ إجماعاً دولياً قد برز ضد سلاح التجويع. في عام 2018، اعتمد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإجماع القرار رقم 2417، الذي سلّط الضوء رسمياً على الصلة بين النزاع المسلح والجوع، وأدان حرمان المدنيين من الغذاء كأسلوب من أساليب الحرب. في ذلك الوقت، فضّلت كل من الصين وروسيا والولايات المتحدة إدانة بعض الأنظمة، بينما كانت أكثر تساهلاً مع أنظمة أخرى. لكنها جميعاً صوّتت لصالح مبدأ أن تجويع المدنيين عمداً يُعدّ جريمة حرب.

بعد سبع سنوات فقط، يبدو أنّ تلك حقبة قد ولّت منذ زمن، ليس فقط بسبب الحروب الكارثية في غزة والسودان. ففي صراعات حول العالم، بما في ذلك في إثيوبيا وميانمار وأوكرانيا، عادت القوات العسكرية وداعموها إلى استخدام الجوع كسلاح. ومع ذلك، لم تفعل القوى العالمية الرائدة، المشتتة بفعل التحولات الجيوسياسية المتقلبة، والتنافسات الجديدة، والتحديات الاقتصادية في الداخل، الكثير لإيقافها. في الوقت نفسه، خُفِّضت ميزانيات المساعدات الإنسانية في العديد من الدول الغنية بشكل كبير. والنتيجة هي أنّ المزيد والمزيد من الأطراف المتحاربة قادرة على إلحاق المجاعة الجماعية بالفئات الضعيفة من دون عقاب.

تجويع الخصوم

يُعدّ حجب الغذاء من أقدم أسلحة الحرب. ففي القرن العشرين وحده، استخدمته جميع الأطراف في الحربين العالميتين، وكذلك القوى الاستعمارية مثل فرنسا في الجزائر وبريطانيا في الملايو، إضافة إلى الحكومات التي قاتلت الانفصاليين مثل نيجيريا في الستينيات وإثيوبيا في الثمانينيات. وفي السودان، لجأت الأنظمة المتعاقبة لعقود إلى حملات تجويع لتحقيق أهداف عسكرية.

في عام 1988، وعلى مقربة من خط المواجهة في حرب أهلية سابقة بين الحكومة والمتمردين الجنوبيين، شهدتُ مجاعةً لا هوادة فيها، حيث مات المدنيون بمعدل يفوق عتبة المجاعة، وفق التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، بنحو خمسين ضعفاً. ولم يُخفِ العميد السوداني المسؤول عن ذلك القطاع هدف حكومته، قائلاً: "نحن نُجوّع المتمردين". وكما كان يعلم الضابط جيداً، فإن الرجال الذين يحملون السلاح هم دائماً آخر من يجوع، لذا كانت قواته تخلق مجاعة وتفرغ الأرض من المدنيين، وعندها لم يكن أمام المتمردين سوى الاستسلام أو الموت جوعاً.

كانت أهوال تلك الحرب حافزاً للتغيير. ففي العام التالي، وتحت ضغط أميركي، سمحت الخرطوم للأمم المتحدة بإنشاء عملية شريان الحياة للسودان، وهي أول مبادرة تعبر فيها الأمم المتحدة خطوط المعركة لمساعدة المدنيين في مناطق المتمردين، وكان لها تأثير فوري. (وقد اشتكى جنرالات الخرطوم لاحقاً من أن التدخل كلفهم النصر وأدى في النهاية إلى انفصال جنوب السودان).

خلال العقود التالية، تحسنت البيانات المتعلقة بأزمات الجوع. ففي العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ومع تصاعد المجاعات من صنع الإنسان في شمال نيجيريا، الصومال، جنوب السودان، واليمن، سمحت شبكات نظام الإنذار المبكر بالمجاعة (FEWS NET) ونظام تصنيف مرحلة ما قبل النزاع (IPC) بتتبع تطورات الأزمات في الوقت الفعلي عبر خرائط مرمزة بالألوان. أصبح لدى العاملين في المجال الإنساني مخططٌ واضح لكيفية رصد ومنع المجاعة، ولم يكونوا بحاجة سوى إلى دعم سياسي لفتح الممرات وإزالة الحواجز والمطالبة بوقف إطلاق النار.

ومع إقرار مجلس الأمن القرار رقم 2417، بدا أن هذا العزم الدولي قد تبلور أخيراً. آنذاك، تحدثت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، نيكي هيلي، بحماس ضد استخدام التجويع كسلاح، مسلّطة الضوء على نظام بشار الأسد الذي استخدم الحصار والتجويع في الحرب السورية. ورغم امتناعها عن إدانة السعودية والإمارات علناً بسبب حصارهما لليمن، عملت واشنطن بهدوء وفعالية لضمان وصول المساعدات. وللمرة الأولى، بدا أن الولايات المتحدة ومنافسيها متحدون في تجريم سلاح الجوع.

لكن تلك اللحظة لم تدم طويلاً. فبعد غزو روسيا لأوكرانيا عام 2022 وحصارها لصادرات الحبوب الأوكرانية، تحوّل الاهتمام الدولي إلى تأمين إمدادات الغذاء العالمية. وللحصول على موافقة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على مبادرة الحبوب التابعة للأمم المتحدة في البحر الأسود، اضطرّت المنظمة إلى التزام الصمت بشأن استخدام موسكو للتجويع ضد الأوكرانيين، بما في ذلك حصار مدينة ماريوبول لمدة 85 يوماً.

في الوقت نفسه، كانت إثيوبيا قد بدأت حرب تجويع ضد منطقة تيغراي المتمردة. وعندما حذّرت لجنة السلام الدولية من المجاعة، ردت أديس أبابا بتفكيك مجموعة عمل اللجنة في البلاد. وأثبت إنكار المجاعة، عبر إبعاد الصحفيين وقمع البيانات الإنسانية، فعاليته، فاتبع آخرون هذا النهج.

كانت تيغراي اختباراً حقيقياً للقرار 2417، لكن إدارة بايدن لم تكن مستعدة للضغط على مجلس الأمن لاتخاذ إجراءات عندما فشلت إثيوبيا في إنهاء الحصار. وبحلول عام 2023، وهو العام الذي اندلعت فيه الحروب في السودان وغزة، كانت أساليب التجويع قد عادت بالفعل إلى الواجهة.

مجاعة مؤكدة متزامنة

  • يشهد السودان اليوم واحدة من أكبر المجاعات وأكثرها استعصاءً في العالم.
    يشهد السودان اليوم واحدة من أكبر المجاعات وأكثرها استعصاءً في العالم.

يشهد السودان اليوم واحدة من أكبر المجاعات وأكثرها استعصاءً في العالم. ففي خضم الحرب الأهلية المستمرة منذ عامين ونصف بين القوات المسلحة السودانية بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع، وهي منظمة شبه عسكرية يقودها الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، تتزايد أعداد الجياع والمعوزين والنازحين يومياً. ونظراً لقيام الأطراف المتحاربة بتقييد عمليات الإغاثة وصعوبة الوصول إلى مناطق واسعة من البلاد، تبقى البيانات شحيحة. ومع ذلك، من المؤكد أن ملايين المدنيين يعيشون ظروفاً بائسة للغاية، وقد لقي عشرات الآلاف، معظمهم من الأطفال، حتفهم بالفعل وفقاً للتقديرات المتحفظة.

هذه المأساة نتيجة مباشرة لاستخدام الغذاء كسلاح حرب. فقبل اندلاع النزاع الحالي، كان أكثر من مليوني شخص في دارفور يعيشون في مخيمات ويعتمدون على حصص برنامج الغذاء العالمي، الذي موّلت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية أكثر من نصفه. وفي جبال النوبة، كانت هناك حالة طوارئ غذائية مزمنة. أما في المدن الكبرى، فقد أدى انهيار الاقتصاد السوداني، جزئياً بعد فقدان عائدات النفط عقب استقلال جنوب السودان، إلى تفاقم الجوع. وفي هذا الوضع الهش، نهبت قوات الدعم السريع المدن والقرى بشكل منهجي، وحاصرت مدينة الفاشر، آخر معاقل القوات الحكومية في دارفور، لأكثر من 500 يوم، فيما يُحتجز داخلها نحو 250 ألف شخص مقطوعين عن الإمدادات الغذائية.

في المقابل، استغل البرهان موقعه كرئيس للحكومة المعترف بها دولياً لتقييد تدفق المساعدات إلى دارفور والمناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع. وفي جبال النوبة، تتكشف حرب ثلاثية بين القوات المسلحة، والدعم السريع، والجيش الشعبي لتحرير السودان – شمال، المدعوم من سكان النوبة، وهم مجتمعات زراعية غير عربية قاومت طويلاً هيمنة الدولة المركزية. ورغم توقيع اتفاق سياسي مؤخراً بين الدعم السريع والجيش الشعبي، لا يزال المدنيون في المدن المحاصرة والقرى المنكوبة يعانون من الجوع الشديد.

من دون تدخل دولي عاجل، يُرجّح أن يموت عشرات الآلاف من السودانيين جوعاً في الأشهر المقبلة. ومع ذلك، لم يحرّك هذا الوضع الكارثي إرادة المجتمع الدولي. فقد خفّضت الأمم المتحدة هذا العام نداءها الإنساني الموجّه للسودان إلى هدف يغطّي ثلثي المحتاجين البالغ عددهم 30.9 مليون شخص، ولم يُموّل منه سوى 25% حتى سبتمبر. وحتى يناير الماضي، كانت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تدعم 1400 مطبخ مجتمعي في مختلف أنحاء البلاد، تُديرها شبكة متطوعين محليين بكفاءة عالية، لكن إعادة هيكلة الوكالة في عهد ترامب أجبرت نحو 900 مطبخ على الإغلاق.

في الوقت نفسه، شدّدت المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي ميزانيات المساعدات، فيما تتخلف الدول العربية الغنية، المتدخلة أصلاً في طرفي النزاع، عن تغطية التكاليف الإنسانية. وحتى مجلس الأمن الدولي عجز عن اتخاذ موقف حازم. ففي حزيران/يونيو 2024، أصدر المجلس قراراً، بامتناع روسيا عن التصويت، يُلزم قوات الدعم السريع بالسماح بدخول المساعدات إلى الفاشر. لكن في تشرين الثاني/نوفمبر، استخدمت موسكو الفيتو ضد قرارٍ ثانٍ أكثر صرامة، بحجة أنه ينتهك السيادة السودانية، في إشارة واضحة إلى أن الإفلات من العقاب أصبح القاعدة.

وفي منتصف أيلول/سبتمبر، أعلن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، إلى جانب نظرائه من مصر والسعودية والإمارات، وهم أعضاء المجموعة الرباعية، عن خطة لوقف إطلاق النار تُلزم الطرفين بالسماح الفوري بدخول المساعدات الإنسانية. إنها خطوة في الاتجاه الصحيح، لكن إنقاذ السودان يتطلب ما هو أكثر من البيانات الدبلوماسية. فحملة الإغاثة لا ينبغي لها أن تقتصر على شراء وشحن الغذاء والدواء، بل يجب أن تضمن وصولهما الفعلي إلى المناطق المنكوبة، وهو ما يستدعي قوافل شاقة عبر طرق وعرة مليئة بالحواجز ونقاط الابتزاز. بالنسبة إلى أولئك الذين غرقوا بالفعل في دوامة المجاعة، قد يكون هذا البطء في التحرك حكماً بالموت.

إنسانية مُعسكرة؟

إذا كان السودان يُمثّل أسوأ أزمة جوع من صنع الإنسان في العالم، فقد أصبحت غزة أبرزها. على مدى أشهر، صدمت صور الأطفال الجائعين وحشود اليائسين الذين يُخاطرون بحياتهم وأطرافهم في صراع من أجل الغذاء الرأي العام الدولي. في تقاريرهما الصادرة في أغسطس/آب، أضاف كلٌّ من مركز التصنيف المرحلي المتكامل (IPC) وشبكة نُظم الإنذار المبكر بالمجاعة (FEWS NET) بياناتٍ دقيقةً وآراء خبراء إلى تلك الصور. حتى قبل بدء الغزو البري الإسرائيلي لمدينة غزة، كانت الظروف مزريةً بالنسبة إلى قرابة مليون شخص بقوا هناك، 30% منهم، أي أكثر من عتبة "المجاعة" البالغة 20%، لم يحصلوا على أي طعام على الإطلاق.

ونظراً لمحدودية الوصول، لم يتمكن مركز التصنيف المرحلي المتكامل من الحصول على مقياسه المُفضّل لسوء التغذية، وهو مسوحات نسبة الوزن إلى الطول للأطفال دون سن الخامسة. لكن باستخدام ثاني أفضل مقياس متاح، وهو محيط منتصف الذراع العلوي للأطفال، وجد زيادةً بمقدار ستة أضعاف في معدلات سوء التغذية بين مطلع حزيران/يونيو وأواخر تموز/يوليو، وهو نمط تصاعدي حاد يحدث عادةً عندما ينحدر السكان إلى المجاعة. وبحلول آب/أغسطس، كانت الوفيات الناجمة عن الجوع تتزايد أيضاً. واستنتج التصنيف المرحلي المتكامل، انسجاماً مع بياناته من أزمات سابقة، أن الأرقام المبلَّغ عنها تمثل جزءاً صغيراً فقط من إجمالي الضحايا، إذ يموت كثيرون بسبب الأمراض في أجسام تعاني من سوء التغذية، أو بسبب انخفاض معدلات البقاء على قيد الحياة بعد الجراحة، لأن الجروح تحتاج إلى التغذية للشفاء.

وإلى جانب الإشارة إلى أن المجاعة من صنع الإنسان، لا يُلقي التصنيف المرحلي المتكامل ولا شبكة الإنذار المبكر باللوم على جهة بعينها. لكن الأسباب كانت واضحة للعالم. ففي مطلع آذار/ مارس، بدأت"إسرائيل" حصاراً شاملاً على غزة ومنعت دخول الغذاء إلى القطاع لمدة 11 أسبوعاً. وعندما سمحت أخيراً، تحت ضغط دولي هائل، باستئناف بعض المساعدات، أصرت على أن تُوزَّع عبر كيان جديد هو مؤسسة غزة الإنسانية، تحت إشراف قوات الدفاع الإسرائيلية، بدلاً من الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية العاملة منذ عقود.

كان نقل مهمة الإغاثة إلى صندوق الإغاثة الإنسانية العالمي (GHF) قليل الخبرة كارثياً، بينما كان سكان غزة ينزلقون نحو المجاعة. فبدلاً من نحو 400 مركز توزيع تديرها الأمم المتحدة وشركاؤها، لم يكن للصندوق سوى أربعة مواقع فقط، ثلاثة في الجنوب وواحد في وسط القطاع، ولا أي موقع في مدينة غزة أو شمالها. وكما ورد على نطاق واسع، شابت عملية التوزيع أعمال عنف، إذ قُتل أكثر من 1000 شخص برصاص جنود "جيش" الاحتلال ومتعاقدي الأمن الخاص. كما فقد الصندوق السيطرة على تتبع المساعدات، فليس واضحاً من أكل أو باع أو احتكر صناديق الطعام، مع ترجيحات قوية بأن عصابات محلية أو حماس استولت على كميات كبيرة منها، دليل إضافي على فشل الصندوق.

حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نفي صور الأطفال الجائعين، ووصفها بأنها "مزيفة"، وادّعى كذباً أن مركز التصنيف المرحلي المتكامل خفّض توقعاته بشأن المجاعة. وردّت لجنة التصنيف الدولية (IPC) بتفسيرات تقنية دقيقة لأساليبها وفق بروتوكولاتها المعتمدة. (ومن الجدير بالذكر أن "إسرائيل" التزمت الصمت في مايو الماضي، عندما أفادت شبكة FEWS NET أن شمال غزة يعاني المجاعة، فيما رأت لجنة IPC أن الأدلة لم تكن كافية بعد).

إذا كانت "إسرائيل" ترغب في تبرئة نفسها، فيمكنها السماح بجمع بيانات ميدانية دقيقة — بل والسماح للصحفيين الدوليين بدخول غزة. لكنها لم تفعل. يعرف العاملون في الإغاثة ما المطلوب لعكس مجاعة غزة، وبما أن المنطقة صغيرة وسهلة الوصول، يمكن تحقيق ذلك بسرعة. لكن الشرط الأساسي هو أن تُجبر القوى الخارجية، خصوصاً الولايات المتحدة، "إسرائيل" على السماح للأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية بالعمل بحرية وعلى نطاق واسع.

تملك الولايات المتحدة القدرة على تغيير مسار الأزمة. ففي آذار/مارس 2024، ضغطت إدارة بايدن على "إسرائيل" للسماح بدخول مزيد من المساعدات، فتراجعت حدة الأزمة مؤقتاً. وفي كانون الثاني/يناير 2025، أصرت إدارة ترامب الجديدة على وقفٍ لإطلاق النار، ووافقت "إسرائيل". وفي آب/أغسطس، سمحت "إسرائيل" بدخول كميات إضافية من الغذاء استجابةً للغضب الدولي، فتوقفت الزيادة الحادة في معدلات سوء التغذية التي سجّلها مؤشر IPC. والآن، تعد خطة ترامب المكونة من 20 نقطة لغزة ببدء "المساعدة الكاملة" عبر الأمم المتحدة والوكالات الإنسانية، عندما تقبل "إسرائيل" وحماس الاتفاق، يمكن لذلك أن ينهي المجاعة بسرعة.

في المقابل، إذا أدت عملية "عربات جدعون الثانية" التي يقودها نتنياهو إلى إخلاء مدينة غزة، فسيعني ذلك إغلاق 11 مستشفى من أصل 18 متبقية، ما يجعل إنقاذ الأطفال الأكثر معاناة من سوء التغذية مستحيلاً. كل يوم له قيمته.

بالنسبة إلى عمال الإغاثة، خلقت الحاجة المُلِحّة معضلة أكبر. فمع انعدام البدائل، بدأ كبار مسؤولي الأمم المتحدة، على مضض، بالتواصل مع صندوق الإغاثة العالمي، لاستكشاف إمكانية التعاون. لكن العاملين في المجال الإنساني أدانوا ذلك، مؤكدين أن الصندوق لا يلتزم بالمبادئ الأساسية للعمل الإنساني: الإنسانية، النزاهة، الحياد، والاستقلال. صحيح أن قوة الاحتلال، مثل "إسرائيل" في غزة، تتحمل التزاماً قانونياً بتقديم المساعدة، لكنها ليست محايدة أو مستقلة. غير أن إنهاء المجاعة الجماعية يتطلب أكثر من مجرد توزيع صناديق طعام؛ إذ يجب أيضاً عكس آثارها اللاإنسانية. ففي مثل هذه الأزمات، يُدفع الجياع إلى تجاوز الأعراف الاجتماعية، يبحثون في القمامة، يأكلون علف الحيوانات، يسرقون الطعام أو يخفونه عن جيرانهم. وغالباً ما يتذكر الناجون المجاعات كما لو أنهم عاشوا كالحيوانات، حاملين ندوب العار والإذلال.

حتى الآن، فشلت مؤسسة التمويل الإنساني العالمية في اختبار الإنسانية، لأنها لم تُعامل الفلسطينيين كأناسٍ ذوي كرامة. قد تُبقي حصصها الغذائية الأساسية الناسَ على قيد الحياة، لكنها تُدمّر كرامتهم في الوقت نفسه.

نزع سلاح التجويع

قد يُنذر تصاعدُ جرائم التجويع اليوم بما هو أسوأ في المستقبل. فمع غياب المساءلة في تيغراي، وماريوبول، والفاشر، ومدينة غزة الآن، قد ينتهز المستبدون وأمراء الحرب في أيٍّ من بؤر الصراع الساخنة حول العالم الفرصةَ لاستخدام هذا السلاح المروّع. وتشمل بؤر الخطر حرباً جديدة وشيكة بين إثيوبيا وإريتريا، وتصاعد الصراعات في منطقة الساحل بغرب أفريقيا، وحملة ميانمار المستمرة للقضاء على أقلية الروهينجا، وأزمة الغذاء المتفاقمة في فنزويلا.

ومن المفارقات أن هذا التوجّه يحدث في الوقت الذي بدأت فيه الهيئات الدولية أخيراً إدانةَ التجويع المُسلّح. قبل ثمانية عشر شهراً، وفي القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد "إسرائيل"، قضت محكمة العدل الدولية بوجوب أن تُقدّم "إسرائيل" فوراً طيفاً كاملاً من الإغاثة الإنسانية والخدمات الأساسية، على نطاق واسع ومن دون عوائق. وقد صوّت أهارون باراك، القاضي الإسرائيلي المُرشَّح لعضوية المحكمة، لصالح الإجراء، ما جعله بالإجماع.
لكن "إسرائيل" لم تمتثل، وهو تقصير يزيد من احتمال أن تجد محكمة العدل الدولية، في الوقت المناسب، أن الحكومة الإسرائيلية لم تفِ بواجبها في منع الإبادة الجماعية.

وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2024، استشهدت المحكمة الجنائية الدولية لأول مرة بجرائم التجويع عند إعلانها مذكرات توقيف دولية بحق نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت، ما منح القضية أهميةً كبيرة. أما في السودان، فلا يزال قرار مجلس الأمن رقم 2736 الصادر في حزيران/يونيو 2024 قائماً، مطالباً بالمساعدات الإنسانية وحماية المدنيين في مناطق المجاعة، لكنه لم يُنفّذ قط. إن عدم تنفيذ هذه القرارات يُهدّد بتحويلها إلى مادةٍ للسخرية.

في عالمٍ يعجّ بمشاكل تبدو مستعصية على الحل، يُعَدّ منعُ المجاعة من أسهلها. فالتمويل الإنساني الكافي هو خطوة واحدة فقط، إذ يمكن لمبلغ 85 مليار دولار أن يُغطّي الهدف الإجمالي للأمم المتحدة لهذا العام، وهو مبلغ ضئيل مقارنةً بالإنفاق العسكري أو تطوير الذكاء الاصطناعي. ولن تكون الحاجة إلى هذه الأموال قائمةً في العام المقبل إذا جرى تنفيذ التدابير المتفق عليها ضد جرائم التجويع.

يحقّ للدول أن تقاتل دفاعاً عن النفس، لكن عليها الالتزام بقواعد الحرب. ويمكن توسيع نطاق العمل الإنساني ليشمل منظمات جديدة، لكن يجب إلزامها بمعايير مهنية صارمة ومبادئ الإنسانية. لقد استغرق بناء الإجماع العالمي ضد سلاح التجويع عقوداً طويلة، غير أنّ اللامبالاة الدولية اليوم تُهدّد بانهياره في اللحظة التي تشتدّ فيها الحاجة إليه.
قد يكون من الصعب إيجاد حلول سياسية في السودان أو بين "إسرائيل" وفلسطين، لكنّ منع الناس من الموت جوعاً أمر ممكن تماماً، بل يجب أن يكون أمراً يتّفق عليه الجميع.

نقلته إلى العربية: بتول دياب.