"المونيتور": "نعيش مع الموتى"... شهادات من داخل مجزرة السويداء
رغم وقف إطلاق النار، لا يزال سكان السويداء يعانون صدمة الاشتباكات وعمليات القتل الانتقامية التي دمرت الثقة القائمة منذ فترة طويلة بين الأقلية الدرزية ودمشق.
-
جثث مجهولة تملأ أرصفة مستشفى في السويداء
موقع "المونيتور" الأميركي ينشر مقالاً يتناول المجازر التي شهدتها مدينة السويداء جنوب سوريا مؤخراً، ويسرد تفاصيل الأحداث من قلب المدينة، من خلال روايات أطباء وشهود عيان وصحافيين، مع تسليط الضوء على أسباب التصعيد، ونتائجه، وتداعياته الإنسانية والسياسية.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
أول ما يصدمك هو الرائحة. روائح اللحم المتعفن تملأ هواء الصيف الكثيف. عشرة أيام من الاشتباكات المميتة خلّفت آلاف القتلى ودمّرت مدينة السويداء، وندوباً من الدم والنار والانتقام.
في قلب المدينة، يقف المستشفى الوطني رمزاً للمذبحة. بدأت الدماء على أرضياته تجفّ الآن فقط، ورائحة الموت تملأ كل ممر. أكوام من الجثث، بعضها بلا أسماء، دُفنت مؤخراً.
قال عبيدة أبو فاخر، أحد الأطباء القلائل الذين ما زالوا يعملون في المستشفى، للمونيتور: "لقد اعتدنا ذلك. نعيش مع الموتى منذ أكثر من عشرة أيام. معظمهم بلا أسماء، مجرد أرقام. كانت المشرحة ممتلئة. دفنّا العشرات في مقبرة جماعية قرب رحبة".
توقف قليلاً قبل أن يضيف: "لقد كانت مجزرة". المشاهد التي وصفها أبو فاخر تتخطى القدرة على الفهم.
أجرينا أكثر من 100 عملية جراحية في أسوأ الظروف؛ لا تخدير، لا ماء نظيف، لا طعام. كنا نجري العمليات على الأرض، نكافح الذباب. بدت على جثث النساء علامات اغتصاب وتعذيب. كانت الأطراف مشوهة. دخل المدنيون مصابين بطلقات نارية وشظايا وحروق. أُصيبت طفلة برصاصة في أنفها بعد إعدام عائلتها بأكملها.
قُتل طلعت حمش، أحد أكثر جراحي المستشفى خبرة، في مكتبه. قال أبو فاخر بهدوء: "وجدناه منحنياً على مكتبه. لقد حطمنا ذلك. كان لدينا متطوعون يُجرون العمليات الجراحية. بعضهم لم يكن حتى أطباء".
اشتباكات تتحول إلى عمليات قتل انتقامية
تعود سلسلة الأحداث والتوترات التي أشعلت فتيل هذه المذبحة إلى أشهر مضت، إلا أنّ موجة القتل هذه تصاعدت في 15 تموز/يوليو، عندما اقتحمت قوات الحكومة السورية محافظة السويداء الجنوبية ذات الأغلبية الدرزية في عملية مفاجئة ووحشية، هدفت في البداية إلى وقف الاشتباكات بين أبناء الطائفة الدرزية والعشائر البدوية التي اندلعت بعد اختطاف تاجر درزي.
دخلت الدبابات مدينة السويداء فجراً، وسيطرت عليها في غضون ساعات. وظهر لاحقاً مقطع فيديو يُظهر جنوداً سوريين يحلقون شوارب مدنيين دروز معتقلين، وهو عملٌ من أعمال الإذلال المتعمد في ثقافة تربط شعر الوجه بالشرف.
مع اقتحام الدبابات أحياء المدينة، تراجعت الميليشيات الدرزية، ومعظمها من رجال الكرامة، أكبر فصيل مسلّح في محافظة السويداء، إلى جانب فصائل أخرى تابعة للزعيم الدرزي حكمت الهجري.
بسبب قلة عتادهم وعدم استعدادهم لحجم الهجوم، كان خيارهم الوحيد هو الانسحاب التكتيكي. لكن الهجوم المضاد جاء سريعاً، وبدعم من حليف. استهدفت الغارات الجوية الإسرائيلية دبابات سورية ومواقع حكومية في جنوب سوريا. ومع ذلك، انقلبت الموازين.
بسبب إلمامهم بالتضاريس، وشعورهم المتزايد بالانتقام، شنّ المقاتلون الدروز كمائن قاتلة. في غضون أيام، بدأت القوات الحكومية، تحت ضغط القصف الإسرائيلي والخسائر المتزايدة، بالانسحاب، لكن خروجهم لم يجلب السلام، بل أطلق العنان لشيء أسوأ بكثير.
وما تلا ذلك كان سلسلة من الهجمات الانتقامية المروعة التي اجتاحت تجمعات البدو في السويداء، والتي دعم الكثير منها الحكومة السورية خلال الاشتباكات. مع عودة المقاتلين الدروز إلى المدينة، واجهوا مدنيين بدواً تُركوا خلفهم. ذُبح العشرات في منازلهم فيما أكده شهود العيان والصور على أنها إعدامات ميدانية. انتشرت صورٌ مروعة على نطاق واسع: جثثٌ مشوهة، ورجالٌ مصطفون يُطلق عليهم النار، وعائلاتٌ مُمزقة. أثارت اللقطات غضباً في قلب القبائل السورية. رداً على ذلك، بدأ مقاتلو البدو والعشائر من مناطق بعيدة كدير الزور (شرقاً) وتدمر (وسط البلاد) بالحشد، مُشكلين قوافل من المسلحين متجهين جنوباً للانتقام للمجازر.
في موازاة ذلك، بدأت أزمة إنسانية تتكشف، مع نزوح آلاف العائلات البدوية مع تجدد القتال. وهكذا، تحوّل ما بدأ كحملة قمع عسكرية في وقت قصير إلى إراقة دماء مدنية شاملة، اجتذبت ميليشيات وجهات أجنبية وشبكات قبلية بأكملها.
القصة من داخل السويداء مُفجعة، حيث يروي السكان الأهوال التي شهدتها المحافظة.
بينما لا يزال تقييم حجم العنف في السويداء جارياً، أطلقت وزارة الدفاع السورية تحقيقاً داخلياً فيما وصفته بـ"الانتهاكات الصارخة والخطيرة". وفي بيان علني نادر صدر في 22 تموز/يوليو، أقرّت الوزارة بمسؤولية مجموعة من المقاتلين "بزي عسكري من دون أي انتماء رسمي" عن الفظائع المرتكبة في المدينة. ويُقال إنّ وزير الدفاع، اللواء مرهف أبو قصرة، يشرف بنفسه على التحقيق.
حطام وجثث متناثرة في أنحاء السويداء
في الشوارع المهجورة قرب ساحة عمران، التي لا تزال تُشبه خط جبهة، ترسم المنازل المتفحمة والدبابات المحترقة والمتاجر المنهوبة صورة قاتمة لما حدث هناك. تُغطي ثقوب الرصاص واجهات المباني. وتصطف السيارات المتفحمة، التي دُمّر الكثير منها في الغارات الإسرائيلية، على جانبي الطرقات وبداخلها جثث متحللة.
قام ريان معروف، الصحافي المحلي في السويداء 24، بإرشاد المونيتور وسط الحطام. وقال: "هذه المنطقة منطقة حرب. ما زلنا نتعرض لنيران القناصة. انظر حولك.. لقد تحول هذا المكان إلى رماد. لا تزال هناك جثث هنا لا أحد يجرؤ على إزالتها".
وأشار إلى كتابات محترقة على جدار متداعٍ، صورة لمقص يقص شارباً، في تذكير صامت بالحرب النفسية التي شنتها القوات الحكومية. قال معروف: "كانت هذه المحافظة تحت الحصار. ما شهدناه هنا كان موتاً. لأيام، ظننا أننا انتهينا".
كانت التداعيات الأوسع لهجوم السويداء مُزلزلة. فقد تصاعدت الأحداث بسرعة، مدفوعةً بمظالم طويلة الأمد بشأن الترتيبات الأمنية والسيطرة على الأراضي.
الدروز، الذين لطالما اعتُبروا حذرين سياسياً ومحايدين استراتيجياً في الحرب الأهلية السورية، باتوا الآن في موقف حرج. لعقود، تعاملت دمشق بحذر مع شبكات القبائل البدوية في الجنوب والشمال، لكن الهجوم الأخير على السويداء حطم هذا الاتفاق غير المكتوب، ووحّد القبائل ضد الدروز في ظل هذه الظروف. في غضون ذلك، اعتبر الدروز تدخل الحكومة حمايةً للقبائل البدوية نظراً للانتهاكات التي ارتكبتها قوات الأمن في دمشق ضد أفراد طائفتهم. وقد عمّقت الأحداث المتلاحقة الانقسام ورسخت المواقف لدى الجانبين.
قال مقاتل في جهاز الأمن العام السوري على مشارف السويداء للمونيتور: "ربما وحدت تصرفات حكمت الهجري في حشد الدروز القبائل التي كانت مجزأة سابقاً. حتى الحكومة المركزية تعرف جيداً عدم استعداء القبائل السورية - لكن هذا أشعل فتيل الأزمة". في الواقع، أدى قرار الهجري بمهاجمة البدو في أجزاء معينة من السويداء، ثم فقدان السيطرة على الأحداث لاحقاً، إلى تعميق الانقسامات داخل المجتمعين الدرزي والعشائري. لم تكن الحرب في السويداء مجرد صراع على الأرض، بل كانت صراعاً على الكبرياء والإذلال والخيانة والبقاء.
يظل وقف إطلاق النار الهش قائماً في السويداء حتى الآن، لكن الثقة انهارت. لا تزال المدينة في حالة تأهب. لا تزال عائلات البدو تفر. تُبقي الميليشيات المسلحة حواجز الطرق داخل المدينة وخارجها. المستشفيات مُكتظة. الموتى، بعضهم لم يُدفن بعد، يُخيمون على المدينة كاللعنة.
قال أبو فخر: "نحن أحياء. لكننا لسنا بخير. لن يعود هذا المكان كما كان أبداً".
نقلته إلى العربية: بتول دياب.